فرادة الإنجيل

فرادة الإنجيل

القديس نقولاي فيليميروفتش

ترجَمته عن الفرنسيّة بتصرّف السيدة مايا اسطفان*

67-  الكنيسة الأرثوذكسية مبنيّة على أساس الإيمان بأنّ الإنجيل هو جديدٌ تمام الجِدّة، ليس ما يشابهه، ممّا كَرَزَ به البشر من قَبلِهِ ومن بعدِه. على هذا الإيمان تأسَّست، وعليه ترتكز. لا يمكن أن يوضع الإنجيل في مَصَفِّ سواه من الكتابات الدّينيّة، ولا أن يُساوَى بالأدبيّات، ولا بالشّرائع، ولا بالفلسفات، ولا بالاستنباطات الفكريّة المنسوبة إلى الإنسان. لنقُل مثلاً على ذلك إن الضّوء الكهربائيّ ليس مأخوذًا من أيّ ضوء صادر عن النّار، ممّا كان في السابق: لا من الشّمع ولا من المصابيح، ولا من القناديل. الإنجيل هو إعلان “الطّريق، والحقّ، والحياة” (يو 6:14). الإنجيل لا يَعرُض كلامًا فحسب، إنّما يعطي القوّة. لا يمكن أن نتعلّمه بالقراءة، أوّ الدّرس، بل بالأعمال، سيّما بالنّسك، والممارسة، والابتكار.

68-  ليس كلام الإنجيل مجرّد مجموعة أقوال بشريّة، بل وسيلة نستمدّ منها الحكمة والقوّة. فقد قيل عن المسيح إنّه “قوّة الله وحكمة الله” (اكور 24:1). كلامُه يَشعُّ بنور الحقيقة على درب الحياة.

69-  إنّ كلام الإنجيل هو أيضًا دواء وغذاء. آلاف مؤلِّفَة من الخطأة سمعوا كلام الإنجيل، فسلكوا طريق الحقيقة الابديّة والحياة الخالدة. كلام الإنجيل ساعد ربوات وربوات من التّائبين والنّساك على الشفاء من الأهواء. لقد قال الرّب: “أنا خبزُ الحياة” (يو 35:6). فكلامه طعامٌ قويّ وعذب للنفس البشريّة، ومشروبٌ مُحْيٍ.

70-  “لم يتكلّم أحدٌ قطّ مثل هذا” (يو 46:7). هذه شهادة الّذين سمعوا كلام المسيح وتحسّسوه شخصيًّا. فهو تكلّم كمن له سلطان، ومن خلال كلامه كانت تَسري قوّته وتنتقل إلى الناس. إن الدّراسات المنحرفة للإنجيل تنشغل كثيرًا بما يُسمّى “اللاّهوت المقارَن” Théologie comparée وبتاريخ الأديان والفلسفات الأخرى. هكذا ينتقدون علم المسيح، مؤكدين العثور على هذا الكلام نفسه الّذي تفوّه به المسيح عند سواه من الفلاسفة والدُّعاة الدّينيّين. على هذا الأساس، يودّون أن يُحدِروا المسيح من أعاليه، إلى عمق وادي الدموع، والتنبّؤات، بغية تحقيق ما يسمّونه “التّكييف والتّوحيد”.

71-  والحقّ إنهم إذا قالوا إنّهم سمعوا كلامًا مشابهًا لأقوال المخلّص من أفواه أُخرى، لا يُخطئون. ولكنّهم لا يميّزون الفرق الشّاسع الكامن في فعاليّة هذه الأقوال. فلئِن استطاع كثيرون أن يقولوا للفتاة الميتة: ” يا فتاة لك أقول قومي” (لو 54:8) فهذا لا يعني أنّها كانت ستقوم. ولكن ما إن لفظ يسوع هذه الكلمات، عادت الفتاة إلى الحياة ونهضت. آلاف الفرّيسيّين كان يمكنهم أن يقولوا لقائد المئة في كفرناحوم: ” ليكن لك كما تشاء” (متى 13:8) ولكنّ عبده ما كان ليشفى. أمّا عندما تفوّه ابن الله بهذا الكلام، شُفيَ الغُلام فورًا. كثيرين من البحّارة أَمْكَنَهم أن ينتهروا العاصفة في البحر صارخين: “اخرَس”،ولكنّها لما توقّفت. أمّا عندما خرجَت هذه الكلمة من فم السيّد، “فصار هدوء عظيم” (لو24:8). ربوات الأفواه كان باستطاعتها ان تقول للأعمى “أبصِر”، وللمخلّع: “قُم وامشِ”، وللشياطين “أخرج منه”، وللمدنَّس “كُن طاهرًا” وللشجرة الّتي لا ثمر فيها: “إيبَسي”.

72-  أترى، إنّ هذه الأقوال كلّها تبقَ مجَّرد كلمات ينطق بها عدد كبير من الناس، لوكان الأمر كذلك. كان يمكن لأفلاطون، وأرسطو، وبوذا، وكونفوشيوس وسائر الفلاسفة الوثنيّين أن يتلفظو بهذه الأقوال عينها، ولكن من غير مفعول، ولا نتائج. أمّا عندما خرجت هذه الكلمات نفسها من فم المسيح، لم تبقَ من غير فعاليّة ولا نتائج لأنّ القوّة خرجت منه تعالى مع الكلام. فتوقّفت العاصفة، والعميان أبصروا، والمخلّعين نَهضوا، والعُرج ركضوا، والشّياطين خرجوا من الناس هاربين، والنّجسين أضحَوا طاهرين، والّتينة العقيمة يبست على الفور (متى 19:21). هنايكمن الفارق الّذي لا يستطيع رؤيته أصحاب “المقارنة والتكييف والتوحيد”، وهم كثيرون. أمّا إذا آمنتُم بالله، فالفارق يشبه الفرق بين الحياة والموت.

v القوّة في وضع اليد (اللّمس)

73- لقد شكّ بعض اللاهوتيّين الغربيّين المعاصرين بفعاليّة اللَّمس، حتى أنكروها. لهذا رفض كثيرون منهم رسامة الكهنة، ووضع الأيدي على المرضى، وتقبيل الصليب والإيقونات، والدّهن بالزّيت المقدّس، والرّشّ بالماء المقدّس، ولمس الصّليب والإيقونات والثّياب الكهنوتيّة تبرّكًا. أوّاه! لقد ذهبوا أبعد من ذلك: وصلوا إلى استضعاف قوّة المناولة الإلهيّة. من هنا أنّهم ينظرون إلى المناولة نظرتَهم إلى ذكرى يحيونها ليستعيدوا آلام المسيح، وهم في ذلك أقرب الى اليهود الّذين حفظوا عددًا كبيرًا من طقوس الفصح اليهوديّ، كذكرى لعبوديّتهم في مصر.

74- أمّا في الكنيسة الأرثوذكسية، فاللّمس من أهمّ الأمور. باللمس تنتقل القوّة، ويتّصل الإنسان بالسماء، وبه التعبير عن التوقير و المحبّة اللذين نشعر بهما تجاه الله وملائكته والنّاس الّذين أرضَوه. إنّ العلوم التّطبيقيّة الحديثة ترى في الاحتكاك الكهربائيّ والمغنطيسيّ والضَّوئيّ عاملاً حاسمًا يؤدّي إلى التحوّلات في الطّبيعة. إلاّ أنّ اللاهوتيّين المنحرفين، رُغمَ خضوعهم كالعبيد للعلوم الحديثة، لم يتمكّنوا أن يروا في هذا رمزًا للحقيقة الروحيّة، ولا تطبيقًا عمليًّا مادّيًّا لإنجيل المسيح المجيد.

75- بالنّسبة إلى استخدام حاسّة اللّمس، تبقى الكنيسة الأرثوذكسيّة أمينة لمؤسِّسها، الرّب يسوع. ففي تدبير الخلاص الّذي أتمّه لجنس البشر، يلعب اللَّمس دورًا أساسيًّا. لقد لمس المسيح بيده حماة بطرس، ففارقتها الحُمّى. أمسك يد ابن يايروس الميتة، فعادَت إلى الحياة. والمرأة النّازفة الدّم لمسّت هُدبَ ثوبه، فتوقّف نزف دمها، بعد اثنتي عشرة سنة من النّزيف. وشعر يسوع أن “قوة خرجت” منه. وليعيد البصر إلى العميان، لمس أعينهم. عندما كاد بطرس يغرق، أمسك بيده وخلّصه. لمس أحدَ البُرص، فطَهُرَ. وجميع الّذين أصيبوا بشتّى أنواع المرض أسرعوا إليه ليلمسوه. ولمّا لمسوه، استعادوا العافية (انظر متى 14:8-15، 32:15 ، 29:20-34 ومر 23:5-30،6: 54-56، ولو13: 11-14، و4:4 ، و7: 12-16).

76- لقد سبق الشّرق وآمن باللمس أكثر من الغرب. هذا يعني أنّه آمنَ أكثر بالاحتكاك بين الإنسان والإنسان، بين الرّوح والرّوح، بين الله والإنسان، أكثر من اكتفائه بالكلمة وحدها. لهذا نلقى في الغرب مجّرد كلام وتنظير لا قوّة فيه ولا فعاليّة. ولهذا كلّهم في الغرب يجودون بالخطابات، ويكثرون الكلام، ولكنّ أحدًا لا يشفى. وفرة من الكلام المنطوق والمكتوب، ولكن من دون قوّة. أمّا أهل الشّرق، فوضعوا المرضى بجانب المسيح، ضارعين إليه أن يسمح لهم بلمس هدب ثوبه فحسب. “وكلّ الّذين لمسوه نالوا الشفاء”.

77- آه، يا أيّها الغربيّون ذوو القلوب المتحجّرة! تعالوا المسوا أنتم أيضاً بالجباه أو بالشّفاه ولو هُدبَ ثوبهِ، ولو صليبَه، أو أيقونته، أو جدران الكنيسة، أو أيّ شيء يخصّه، وتعافوا من شكوككم ومن قلّة إيمانكم وزندقتكم الخفيّة!

78- لقد شفى المسيح باللّمس كُلَّ اللذين آمنوا به وأحبّوه، وباللّمس أتمّ خلاص جنس البشر. لم يأنَف من لمس جسد الإنسان الميت. ولم يخجل، وهو الإله ابن الإله أن يتسربل جسدًا تمامًا، ويمشي بالجسد، ولا أن يكلّم الناس كإنسان من لحم، ولا أن يتألّم، ويموت في جسده. هذا الاحتكاك بين الألوهة الأزليّة والعالم الجسديّ، المادّيّ إنما هو أكثر ما يدعو الى الدّهشة، وأكثر ما يفيد للخلاص. هذا كلّه من أجل تقديس هذا العالم الوثنيّ الشرّير، ومن أجل أن يصير جسد الإنسان هيكلاً مقدّسًا للّه، ومن أجل دحض قوّة المادّة بقوّة الروح، وإبادة قوّة الجحيم بقوّة الله.

79- لهذا، ترك لنا عهدًا ألا نقطع احتكاكنا بعه تعالى، هو العهد الجديد، عهد جسده ودمه، وعهد تناول القرابين المقدّسة لنصير أجزاءً منه، وهو عهد تسليم أمرِنا إليه لكي نتشبّه به، ونغدو مثله. هذا ما قاله رسوله المستنير، يوحنا الحبيب: ” يا أحبّائي، الآن نحن أولاد الله، ولم يُظَهر بعد ماذا سنكون ولكن نعلم أنّه إذا أُظهِر سنكون مثله لأننا سنراه كما هو” (ايو 2:3).

80- أن نكون مثله، مثل المسيح ابن الله الأزليّ، يعني أن نكون مسحاء صغار، على شِبه الله، أبناء الله. يعني أن ننال الخلود والتألّه، بنعمته تعالى، بنعمة تجسّده بنعمة الاحتكاك به، من خلال تناول جسده ودمه، نحن الخطأة الدّنسين، وبنعمة محبّته الّتي لا يُسبَر غورها وتضحيته. فنحن لم نكن حتى بشرًا بل دودًا. “صنع منّا ملكوتًا، كهنة لله أبيه” (رؤ1: 6) و”أبناء النور لا أبناء الظلمة (اتس 5:5). جعلنا مشاركين مجده الخالد ومرنّمين مع الملائكة في ملكوت السماوات.

81- قد يهتف المنحرفون عن الإيمان: “هذا ادّعاء صنع العجائب”! وهم الموحّدون الّذين لا يستطيعون أن يؤمنوا ببشرى الخلاص، لأنهم يجدون فيها مبالغة. يمكنكم أن تسمّوها كلّ ما تشاؤون من الأسماء، لكن لا تُكَيِّفوا الإنجيل وسواه من الكتب، ولا من الشرائع والدّيانات، ولا من الفلسفات. هذا كلّه ليس الإنجيل، ولا يمكن أن يكون في أيّ حال. فكلّ ما صنع الله عجيب بديع، من أوّله إلى آخره، من البدء وإلى منتهى الدّهور، بحسب ما كُتب عن العليّ: “أنت هو الله الصانع العجائب وحده” (مز 15:76).

* من “الإيمان و الحياة بحسب الإنجيل، بشرى الخلاص في الكنيسة الأرثوذكسيّة، ( مقتطفات من”مئويّة ليوبوستينيا” Lioubostinia)” ترجَمته عن الفرنسيّة بتصرّف السيدة مايا اسطفان، مراجعة راهبات دير رقاد السيدة – كفتون، المصدر الأساسي:

«Centurie de Ljubostinia» in Vélimirovitch, St Nicolas. La foi et la vie selon l’Evangile. Editions l’Age d’Homme (10 mai 2007). Col.Grands Spirituels Orthodoxes du XXe siècle. Traduit du serbe par Zorica Torzic.

Leave a comment