الألم في تدبير الله

الألم في تدبير الله

اﻷرشمندريت توما بيطار

في ذلك الزّمان، دنا إلى يسوع رئيس، وسجد له قائلاً: إنّ ابنتي قد ماتت الآن. لكن، هلمّ فضع يدك عليها، فتحيا“. السّؤال الّذي يتبادر إلى الذّهن، يا إخوة، هو: هل كان هذا الرّئيس ليدنو إلى يسوع، لو لم يكن متألِّمًا؟!

أوّلاً، ربّما لا تعلمون أنّ المقصود بالرّئيس هو رئيس المجمع. في إسرائيل، كانت هناك بيوت تُعرَف بالمجامع؛ وكان على كلّ مجمع رئيس وخادم. وكان النّاس يتردّدون إلى هذه المجامع، ليسمعوا قراءات من الكتاب المقدّس؛ وكذلك، ليسمعوا كلمات نصح، أو وعظ. إذًا، الرّئيس كان إنسانًا معتبَرًا، في قومه. لا أظنّ أنّ هذا الرّئيس كان ليأتي إلى يسوع، لو لم تكن لديه مشكلة، لو لم يكن لديه همّ، لو لم يكن متألِّمًا. بعد السّقوط، صار الإنسان، بكلّ أسف، لا يطلب الله، إلاّ متى شعر بضعفه وعجزه، متى كان متألِّمًا، متى كان في ضيق، متى واجه مشكلة صعبة. في الأحوال العاديّة، حين يكون الإنسان متمتِّعًا بقواه الجسديّة والنّفسيّة، حين تكون أموره ميسَّرَة، حين يكون أهل بيته في حال جيّدة، في صحّة جيّدة؛ فإنّه قليلاً ما يفعل ما فعله أيّوب في زمانه. حين كانت أمور أيّوب على خير ما يُرام، من جهة أولاده، من جهة صحّته هو وجميع أهل بيته، من جهة مقتنياته؛ فإنّه كان يقدّم، كلّ يوم، صلاة خاصّة، وذبائح خاصّة تكفيرًا عن الخطايا الّتي كان يمكن أن يكون أهل بيته قد ارتكبوها. قلّة عزيزة من النّاس تفعل ذلك، بعد السّقوط. بعد السّقوط، الإنسان أصبح يدور حول نفسه؛ فمتى تعثّر أمر من أموره، وما أمكنه أن يعالجه بطرقه الخاصّة؛ ذهب إلى بيت الله، ليستجير به!

إذًا، بمعنًى من المعاني، الضّيقات والآلام، بعد السّقوط، لها قصد حسن في تدبير الله. تـِبعًا لذلك، لا يمكننا أن نقول إنّ الآلام، الّتي تحدث لنا، أو يمكن أن تحدث لنا، هي شرّ. على العكس، فقد يكون فيها الكثير من الخير. الإنسان يحتاج إلى أن يشعر بضعفه، إلى أن يشعر بقصوره؛ وإلاّ صعب جدًّا عليه أن يأتي إلى الله. ثمّ إنّ الآلام والضّيقات تُلَيِّنُ النّفوس، الّتي أصبحت، بعد السّقوط، صلدةً، قاسيةً، تحتاج إلى المتاعب والمصاعب لكي تلين، ولكي تكون للإنسان فرصة أن يتّضع؛ إذ ما دام الإنسان ممتلـِئًا من ذاته، فمستحيل عليه أن يُفسح في المجال ليكون للرّبّ الإله موضع في نفسه. لهذا السّبب، المصائب الّتي تداهمنا، أو الآلام الّتي تكدّنا تعيننا على تواضع القلب. وتواضع القلب يشدّنا إلى الله، يأتي بنا إلى الرّبّ الإله.

إذًا، هذا الرّئيس جاء إلى يسوع، لأنّه كان متألِّمًا. وكيف تصرّف؟! سجد للرّبّ يسوع! هل كان مثل هذا العمل مألوفًا، في إسرائيل؟! أي أن يسجد إنسان معتَبَرٌ في قومه لأحد معلّمي إسرائيل؟! لا نعرف، تمامًا، ما إذا كانت هذه العادة منتشرة، في ذلك الزّمان، أم لا. وتعلمون القول للرّبّ إلهك تسجد، وإيّاه وحده تعبد” (لو4: 8). اليهود، بعامّة، كانوا يدركون أنّ السّجود هو لله. إذًا، هذا الرّئيس، بقوّة الألم الّذي كان يعتمل في قلبه، جاء فسجد ليسوع ، وقال له: “إنّ ابنتي قد ماتت الآن“. إذًا، هو جاء لتوّه، جاء حالاً! كان يحاول وِسْعَهُ لكي ينقذ ابنته، بالطّرق الّتي كانت معروفة، في ذلك الزّمان؛ بالأدوية الّتي كانت متداولَة، في تلك الأيّام. لكن، لمّا ماتت ابنته، أدرك أنّ كلّ ما فعله لم تكن له فائدة. واللاّفت، هنا، أنّ هذا الرّئيس جاء إلى يسوع، بعد أن ماتت ابنته! الإنسان، بصورة عاديّة، يأتي إلى الطّبيب، حين يكون مريضًا. أمّا حين يكون أحد أحبّائه قد مات، فإنّه لا يأتي إلى الطّبيب؛ لأنّه يدرك أنّ عمل الطّبّ بات غير نافع. لكنّ هذا الإنسان جاء إلى يسوع، بعد أن ماتت ابنته! هذا العمل، في حدّ ذاته، له دلالاته، بلا شكّ. لعلّ هذا الإنسان سمع أنّ يسوع أقام أحد الموتى. ونحن نعلم أنّ الرّبّ يسوع أقام عدّة موتى، بعد موتهم. لكن، لو لم يكن عند هذا الرّئيس الاستعداد الكافي لأن يصدّق ويؤمن؛ لَما كان قد جاء إلى يسوع، بعد أن ماتت ابنته. النّاس، بعامّة، ربّما مالوا إلى القول: “هذا الّذي يتحدّث عنه النّاس ليس بصحيح، إذ ليس مألوفًا أن يقيم أحد ميتًا من موته! وإذا كان هذا الإنسان رئيسًا، فهذا معناه، وفق ترتيب تلك الأيّام، أنّه كان إنسانًا مثقَّفًا بالثّقافة الكتابيّة. إذًا، كان إنسانًا عقليًّا، بمعنًى من المعاني. كان يقرأ الكتب، ويفكّر، لا كغيره من القوم البسطاء. ومع ذلك، جاء إلى يسوع! هذا يدلّ، في الحقيقة، على أنّ هذا الرّئيس كان ذا قلب نقيٍّ؛ ومن ثمّ، كان على استعداد لأن يؤمن. والرّبّ الإله سمح بأن تصيبه آلام، وسمح بأن تموت ابنته، وكأنّ يسوع، بمعنًى من المعاني، يقول: “هذا الموت هو لمجد الله“.

إذًا، هذا الرّئيس جاء إلى يسوع، وقال له: “هلمّ فضع يدك عليها، فتحيا“! لم يقل له: “هلمّ فضع يدك عليها، فربّما تحيا“! كان يتكلّم كلام ثقة! كان على يقين! من أين يأتي الإنسان بهذا اليقين؟! لماذا ليس عند الأكثرين، اليوم، اليقين بأنّ مَن يؤمن يستجيب الرّبُّ الإله له، ويستجيب سريعًا؟! لا شكّ في أنّ للإيمان وجهين: له وجه بشريّ، وله وجه إلهيّ، أيضًا. الوجه البشريّ يتمثّل في نقاوة قلب الإنسان، واستقامة سيرته، ورحمته للنّاس، ورأفته بهم. وهذه كلّها زرعها الرّبّ الإله في كلّ إنسان، بالنّاموس الطّبيعيّ. لكنّ النّاموس الطّبيعيّ، عند أكثر النّاس، فسد، أو يفسد. أمّا عند هذا الرّئيس، فيبدو أنّ النّاموس الطّبيعيّ لم يكن منثلمًا، لم يكن مجرَّحًا. لهذا السّبب، استبان إنسانًا قويم القلب. هذا هو الجانب البشريّ من الإيمان. إذا كان الإنسان قويم القلب، فإنّ نعمةً من عند الله تستقرّ في قلبه: “القلب الخاشع المتواضع لا يرذله الله” (مز50: 17). يُسَرّ الرّبّ الإله بالسّكنى فيه، بالاستقرار فيه، بالنّعمة الإلهيّة. لذا، كما يبدو، استبان هذا الرّئيس مؤمنًا بالرّبّ يسوع؛ فقام يسوع وتبعه“. تبعه فورًا؛ لأنّه إنسان مؤمن، يتكلّم كمؤمن، يتصرّف كمؤمن؛ والرّبّ، علاّم القلوب، يعرف أنّه إنسان مؤمن! “فقام وتبعه هو وتلاميذه“!

بعد ذلك، تأتي الرّواية الثّانية، لتقطع الرّواية الأولى: المرأة الّتي بها نزف دم منذ اثنتي عشرة سنة، دنت من خلفه، ومسّت طرف ثوبه، لأنّها قالت في نفسها: إن مسستُ ثوبه، فقط، برئتُ“. الحالتان متشابهتان. الرّئيس أتى من ألم؛ والمرأة النّازفة الدّم أتت من ألم، أيضًا! الرّئيس يبدو أنّه عانى الكثير؛ والمرأة النّازفة الدّم عانت، أيضًا، طويلاً! الرّئيس تكلّم بثقة، وطلب إلى الرّبّ الإله أن يعيد ابنته إلى الحياة بيقين؛ والمرأة، أيضًا، قالت ما قالته بثقة ويقين! “إن مسستُ ثوبه، فقط، برئتُ! فالتفت يسوع فرآها“. الرّبّ يسوع، في قرارة نفسه، كان ملتفتًا إليها، لأنّها كانت مؤمنة؛ لكنّه، هنا، التفت إليها بالجسد، ورآها. ومعاينة الله تحيي، وتشفي. لهذا السّبب، ثبّتها الرّبّ يسوع في إيمانها: “ثقي، يا ابنة، إيمانك أبرأك! فبرئت المرأة، منذ تلك السّاعة“.

ثمّ يستكمل النّصّ الحادثة الأولى، بشأن الرّئيس وابنته الميتة. “جاء يسوع إلى بيت الرّئيس، فرأى الزّمّارين والجمع يضجّون، فقال: تنحّوا! إنّ الصّبيّة لم تمت، لكنّها نائمة“. قال إنّها لم تمت! لكنّها ماتت! لماذا قال ذلك؟! الرّبّ يسوع قال للمرأة النّازفة الدّم: “إيمانك أبرأكِ“. بكلام آخر، قبل أن تأتي إلى يسوع لتمسّ طرف ثوبه، كانت كلّ عناصر البُرْء متوفِّرة لديها، لأنّها كانت مؤمنة. هنا، الصّبيّة لم تمت، لأنّ الرّئيس أباها كان مؤمنًا؛ ومن ثمّ، كلّ عناصر الحياة كانت متوفِّرة في هذه الصّبيّة الميتة. الصّبيّة لم تمت! قبل أن أقامها الرّبّ يسوع، قال عنها إنّها لم تمت! الرّبّ يسوع، هنا، يفعل بالإيمان، بإيمان النّاس، قبل أن يفعل بالكلمة الّتي ينطق بها، وقبل أن يقيم الإنسان بالجسد، وقبل أن يشفيه بالجسد.

إذًا، هذا يدلّ على أنّ الرّبّ يسوع حاضر ما دام الإيمان في القلب حاضرًا. إذا كان الإنسان مؤمنًا، فهذا يكون دليلاً على أنّ الرّبّ يسوع حاضر في حياته، بصورة خفيّة. “لم تمت، ولكنّها نائمة“. هذا النّوم، طبعًا، ليس نومًا كما نعرف نحن النّوم. ولا يمكننا، أبدًا، أن نصف موت هذه الابنة بأنّه بمثابة نوم. لو كان الأمر كذلك، لَما قال: “لم تمت“! لكن، يبدو أنّ الإنسان، بالإيمان، يوجَد في حالة يتخطّى فيها معايير البشر ومفاهيمهم؛ يكون حيًّا عند الله، ولو كان ميتًا عند النّاس! يكون صحيحًا من عـِلَلـِه عند الله، ولو كان سقيمًا ومريضًا عند النّاس! وما فعله يسوع ليس إلاّ من باب تأكيد هذا الأمر. “فضحكوا عليه. فلمّا أُخرج الجمع، دخل [يسوع]، وأمسك بيدها“. أمسك بيدها، ولم يقل لها شيئًا! كان، قبل ذلك، قد أمسك بروحها؛ والآن، أمسك بيدها؛ ليعطي النّاس فرصةً أن يعاينوا كما عاين هو، وكما يعاين هو! أمسك بيدها، من دون أن يقول لها كلمة! لم يقل لها: “قومي، لأنّها كانت قد قامت لديه! “فقامت الجارية؛ فذاع هذا الخبر في تلك الأرض كلّها“.

الرّبّ الإله كان يفعل ما يفعله، في الحقيقة، من أجلنا. المهمّ أن نعرف أنّ كلّ شيء لنا؛ وأمّا نحن، فللمسيح.

فمَن له أذنان للسّمع، فليسمع.

* عظة حول متّى9: 18- 26ا في السّبت 23 تمّوز 2011