الزمن

الزمن

(مقالة معرّبة عن مجلة العالم اليونانية )

إعداد راهبات دير مار يعقوب الفارسي المقطع – دده، الكورة

أن يكتشف الإنسان معنى الزمن هو مطلب يفوق قدرته. فمنذ منابع الدهر وحتّى أيّامنا هذه، والإنسان يفتّش ويفكّر ويتساءل: ما هو الزمن؟ بيد أنّ بعض الاستنتاجات التي توصّل إليها عدد من الفلاسفة والعلماء  يُلقي شعاعًا من الضوء على شيءٍ من غوامض هذا المعنى فيتكشّف لنا ولو جزئيًا. فالفيلسوف المسيحيّ الكبير المغبوط أغسطينوس يقول:” إن سألني أحد عن معنى الزمن أجيبه بأنّي أعرف، ولكن إن طلب منّي شرحًا عنه فإنّي أقرُّ بعجزي، ومع ذلك أتجاسر وأقول إنّه لو لم تكن هناك أمور تحدث وتعبر لما كان يوجد ما يُسمّى ماضٍ، ولو لم تكن هناك أمورٌ أخرى تأتي لما كان هناك ما يُسمّى مستقبل، وبالتالي لو لم تكن هناك أمور تحدث الآن لما كان هناك من حاضر”.

أفكار متعدّدة ووجهات نظر متغايرة صُنِّفت حول روحانيّة البشريّة، وأمّا مشكلة الزمن فقد بقيت سرًّا مختومًا رغم النعوت الكثيرة التي وُصف بها. فأفلاطون يحدّده بأنّه “صورة الأبديّة”، فيما يقول أرسطو عنه بأنّه “مؤشِّر يتحرّك بين الماضي والمستقبل”. وأمّا القدّيس مكسيموس المعترف فيعرّفه بدقّة أكبر قائلاً: “هو حركة تجري منذ خلق العالم. فمنذ اللحظة التي فيها خلق الله، الغير المحدود في زمن، الدهور الزمنيّة لم يتوقّف الزمن. إذًا، فالزمن هو حركة الدهور”. أمّا فيكتور هوغو فيحدّده بشكل أبسط على أنّه “ممرّ ضيّق مظلم ومجهول بين زمنين”.

الزمن هو سير أو مجرى لم يعرف الانقطاع لحدث من الأحداث، أو لظاهرة من الظواهر منذ فجر الخليقة. ولهذا يحسّ الإنسان بشكل قويّ، ومعه الخليقة بأسرها، بالسرعة المخوفة الرهيبة التي ينقضي بها الزمن، لأنّ الزمن يتدخّل، وبشكل حازم، في حياة البشريّة.

الزمن هو سيف قاطع في حياة الإنسان، فإمّا أن يستثمره بشكل إيجابيّ أو بشكل سلبيّ وذلك بحسب مقدرته ووعيه، وتاليًا من ربح وقته ربح معه كلّ شيء. من الضروري بمكان أن يبدأ هذا الربح بالكيف، ثمّ ينتقل إلى الكمّ، لأنّه ساعتها، فقط، يصبح الوقت رحِمًا للرجاء وبذارًا صالحًا للحياة الحقيقيّة، فيصبح الزمن بحسب تعبير الكاتب الكبير شكسبير “أساس كلّ صلاح”.

الزمن مدعاة للشعور بالمسؤوليّة، ويفسّر هذا المدلول نابليون بونابرت فيقول: “اصرف وقتك كما ينبغي، لأنّك إن قضيته بأمور لا تليق، يبقى منه القليل لتصرفه بما يجب ويليق، وليس هذا فقط، بل إنّ كلّ ساعة من الزمن تمرّ هباء من دون أيّ عمل صالح تضع نصب عينيك إمكانيّة عيشك مستقبلاً تعسًا”.

ولكي يصبح الزمن حديقة باسقة الأشجار كثيرة الثمار، يجب أن يُستغلّ بجدّيّة واستقامة وبخاصّة في المجال الروحيّ، وفي هذا الصدد يقول الأديب الفرنسيّ الملحد فولتير: “لا يستطيع المرء أن يبلغ المجد الذي يتشوّف إليه، ولا إلى السؤدد الذي يطلب، ولا أن يحسّ بقيمة الزمن الضائع، وهو مبلبَل بهموم باطلة لا فائدة له منها، أو غارق في تساؤلات وأبحاث سخيفة لا تزيده غنًى”. ويصرخ العالم باستور بتوجّع: “عندما أصرف ساعة من عملي هباء أعتبر نفسي سارقًا أمام البشريّة جمعاء”. وهكذا أعطى باستور قيمة عظيمة للزمن، كما ألمح بطريقة غير مباشرة إلى حتميّة مجديةٍ وصحيحةٍ لاستغلاله. ويقول يوحنّا براندفور: “أحسبها خسارة فادحة إن مرّت ساعة من حياتي من دون أن أقوم فيها بعمل صالح إن كان ذلك بريشتي أو بلساني”.

للصبر دور بالغ الأهميّة في استغلال الوقت، فهو علاوة على أنّه مساعد فعّال لاجتياز صعوبات الحياة، يحفزنا على الاستفادة من الزمن. فبالصبر “نظفر بما نريد أكثر من الاعتماد على قوّة الساعد أو ميل المشاعر” كما يقول الشاعر الفرنسيّ لافونتين.

إنّ هذه الاستفادة الحكيمة والمتعقّلة للزمن تهدّئ اضطراب الإنسان، وتزوّده بقوّة على مواجهة الصعوبات والمشاكل بشكل صحيح وصادق، وتفتح عينيه لرؤية العظمة الإلهيّة في ترتيب الزمن، فيقف نشوانًا فرحًا. وأمّا الشريان الذي يغذّي هذه كلّها، فهو القلب الرحب والنفس المستقيمة الصادقة.

لا ريب أنّ الحرّيّة الساعية والرصينة هي إناء الحياة سيّما إن كانت تستمدّ وجودها  الحيّ من المحبّة الإلهيّة الأزليّة. ولهذا، فهي تساهم في اكتساب التقوى والعبادة الصحيحة، وتاليًا تؤدّي إلى السير في درب الخلاص. وهكذا يتلاشى الزمن الضائع، متحوّلاً إلى قوّة مستمدَّة من العلاء تغيّر الإنسان الداخليّ وتبدّله، لأنّ “الزمن هو الهبة الإلهيّة الأكثر كرامة، والتي سوف نعطي عنها جوابًا وحسابًا أمام عرش الله الديّان” كما يقول الموسيقار الألمانيّ باخ. ويؤكّد القدّيس يوحنّا الذهبيّ الفم هذا الزعم، فيقول: “إن بذّرت الذهب هنا وثمّة، فإنّك تستطيع أن تسردّه مرّة أخرى، ولكن إن ضيّعت وقتك كيفما اتّفق، فمن الصعوبة بمكان أن تسترجعه ثانية، لأنّ زمان هذه الحياة قصير مهما طال أمده”.

وعندما يعيش الإنسان بجدّيّة داخل الكنيسة يعيش، ويعي، في الوقت نفسه، قداسة الزمن، هذا الزمن المقدّس الذي لا تستطيع قساوة الزمن المادّيّ ولا سطحيّته أن تسيطر عليه أو تلاشيه أو تفنيه. إنّه زمن لا يذوب ولا يضمحلّ وسط القلاقل الدنيويّة، لأنّه زمن سامٍ ومقدَّس بمحبّة الله الأزليّة، ويصل بالإنسان إلى ميناء الملكوت السماويّ الهادئ. إنّ عيش هذا الزمن الحاضر، بثبات واستمراريّة، عبر سرّ الصليب والقيامة، يشكّل الأساس الأساس لحياة مبارَكة سعيدة خارجًا عن حدود المكان والزمان، حياة يحياها الإنسان في النور الذي لا يوصف، حياة حقيقيّة وقويّة في المسيح يسوع.

ولكن هناك جانب آخر من الحياة مؤلم ومزعج وخطر وغير مدرَك من قِبَل الكثيرين ألا وهو عناد من يصرّون على العيش بعيدًا عن مناخ المحبّة الإلهيّة وفلكها، وهكذا يتيهون ويهلكون، كما إنّهم يُهلِكون معهم الآخرين. إنّهم لا يربحون شيئًا، بل يربحهم الشيطان لحزبه، وبذلك يضيعون ويغرقون في عكر وأوحال هموم هذه الدينا وقلاقلها. وتطبِق عليهم أشراك مطاليب وحاجات فاسدة زائلة لا عدّ لها. ويعانون من شرخ داخليّ يجعلهم متصدّعي النفس رازحين تحت وقر القلق والاضطراب والفراغ والألم الذين سبّبتهم حجج الحياة الباطلة والواهية، وفي نهاية المطاف يغمرهم اليأس ويهلكون. وتصبح، حينئذ، حياتهم بلا معنى ولا هدف، وتعبيرًا عن غرق فظيع قد لا ينجوا منه أبدًا.

إنّ تبنّينا فكرَ من يزعم بأنّ الزمن هو مرادف للمال، نكون قد خسرنا الحياة نفسها، لأنّ الحياة أثمن من المال. الزمن يمرّ ويعبر كالنهر الجارف، وهؤلاء الذين يؤلّهون المال تألفهم مشرَّدين يحتضنهم القلق وعدم الأمان والجزع من خسارة المال، وتاليًا من ضياع حياتهم. وصدق الكاتب الفرنسيّ بول كلوديل القائل “بإنّ الزمن أو الوقت الحاضر هو، بالحقيقة، مال تشتري به إمّا الحياة السعيدة الأبديّة أو الحجيم الرهيب الأبديّ”. أمّا الذي يجاهد روحيًّا كابحًا جماح أهوائه، ومذلِّلاً شهواته تغذّيه شرارة الرجاء الحيّ يبقى متّقد القلب يمدّه الربّ بقوّته، ويسنده ضميره الحيّ الأمين.

الزمن هو النبع الأمّ للحياة الذي يقود المرء بهدوء وتؤدّة إلى صدر يسوع المسيح. الزمن هو مهد الرجاء المشعّ، وقبر لحبّ المجد الخاوي. الزمن هو مراقب قاسٍ شديد للجهّال، ومرشد خلاصيّ وفيّ للحكماء، يجلب للأوّلين ما يخافونه، وللثانين ما يرغبون به ويشتهونه.

للزمن أو الوقت مفهوم عميق ومعنى سام وحجم لا يقاس عندما تملؤه نعمة الله، وتصبح المحرِّك الأساس له. وسيبقى الزمن أبدًا إحدى نعم الله التي تنحدر علينا بسخاء بسبب المحبّة الإلهيّة المنسكبة عبر الصليب والقيامة، فيصبح المنبّهَ الروحيّ والدافع الشخصيّ لتطهير وقداسة كلّ إنسان وارد إلى هذا العالم.

Leave a comment