القطيع الصّغير والكنيسة الحيّة

القطيع الصّغير والكنيسة الحيّة

الأرشمندريت توما بيطار

باسم الآب والابن والرّوح القدس، الإله الواحد، آمين.

الكلام، هنا، يا إخوة، على القطيع الصّغير. الحقيقة أنّ الواحد منّا، كلّما وقف بإزاء هذا التّعبير، تساءل: لماذا الكلام على القطيع الصّغير، والرّبّ الإله سبق أن وعد إبراهيم، قديمًا، وكذلك إسحق ويعقوب، ومن ثمّ داود النّبيّ، بأن يكون ميراثهم إلى الأبد، وأن يملأ نسلُهم الأرض؟! الموضوع لا يبدو موضوع عدد. لهذا، علينا أن نبحث عن المعنى في غير مكان.

قبل العام 312 للميلاد، حين استصدر قسطنطين الملك قرارًا سمح فيه للمسيحيّين بأن يتعاطوا مسيحيّتهم في العلن بحماية الدّولة، ومن دون أن يزعجهم أحد؛ ثمّ، بعد ذلك، لمّا صارت الأمبراطوريّة مسيحيّةً؛ حتّى ذلك الوقت، كان المسيحيّون في ازدياد. ومع ذلك، كانوا قطيعًا صغيرًا. عندما نقرأ، في السّنكسار، سير بعض الشّهداء، نلاحظ أنّ هناك أرقامًا كبيرة لشهداء قُتلوا، هنا وهناك، قبل القرن الرّابع للميلاد. مثلاً، شهداء سبسطية الأربعون، الّذين كان ذوو القدّيس باسيليوس الكبير أوّلَ مَن أبرزهم وبنى لهم كنيسة على اسمهم. كانوا أربعين شهيدًا، وكانوا من العسكر ويحملون السّلاح. إذًا، كان بإمكانهم أن يدافعوا عن أنفسهم، وأن يقاتلوا؛ ومع ذلك، لم يفعلوا، بل التزموا الوصيّة الإلهيّة: “مَن يأخذ بالسّيف، بالسّيف يُؤخَذ”، و”كونوا حكماء كالحيّات، وودعاء كالحمام”، و”تعلّموا منّي، فإنّي وديع ومتواضع القلب”. العنف، بالنّسبة إلى المؤمنين، بخاصّة في المرحلة الأولى الّتي أتكلّم عليها، لم يكن واردًا. وفي بعض المناطق المسيحيّة، كشمال إفريقيا، مثلاً، يتكلّم المعلّم ترتليانوس على امتناع المسيحيّين عن الاندراج في الحياة العسكريّة. إذًا، في بعض الأوساط المسيحيّة، لم يكن المؤمنون ليخدموا في الجيش. وهذا لأنّ موضوع العنف كان محسومًا، بالنّسبة إليهم. الّذي قال: “أحبّوا أعداءكم، باركوا لاعنيكم…” لم يسمح لنا بأن نأخذ السّيف، بل قال لبطرس: “ردَّ سيفك إلى غمده!”، أي “ليس بإمكانك أن تتعاطى القتل”. من هنا، المسيحيّون، في المرحلة الأولى، أي في القرون الثّلاثة الأولى، ما كانوا في وارد خوض المعارك العسكريّة. في هذه الحال، إذا كان عدد المسيحيّين مئة ألف، وإذا كان عددهم عشرة؛ فمن حيث القوّة العسكريّة، هم صفر، هم قطيع صغير؛ لأنّهم لا يقابلون الشّرّ بالشّرّ، ولا يواجهون العنف بالعنف. الموضوع ليس موضوع عدد، بل موضوع تسليم كامل للرّبّ يسوع المسيح. إذًا، موضوع القطيع الصّغير هو موضوع إيمان، لأنّ التّسليم هو إيمان. المؤمن بالرّبّ يسوع يسلمه أمره بالكلّيّة؛ لا يبحث عن حقّ له، بين النّاس؛ ينصفه الله، أو لا يطلب إنصافًا في هذا الدّهر؛ يحفظه الرّبّ الإله، أو لا يهتمّ بأن يكون مصونًا محفوظًا بالعنف والقوّة في هذا الدّهر. لهذا السّبب، المسيحيّون كانوا، وما زالوا، قطيعًا صغيرًا. بالمعنى الإيمانيّ العميق، هم قطيع صغير! في القرون الثّلاثة الأولى، عندما كان المؤمنون يسلكون كقطيع صغير، نجحت المسيحيّة، وازدهرت الكنيسة ازدهارًا كبيرًا جدًّا. وتعلمون القول الّذي قاله المعلّم ترتليانوس الإفريقيّ: “بذار الكنيسة دماء الشّهداء”. هذا القول كان، بالنّسبة إليهم، دستور حياة.

إذًا، الخصب الحقيقيّ، في كنيسة المسيح، كان، بصورة خاصّة، في القرون الثّلاثة الأولى. بعد ذلك، صارت الأمبراطوريّة مسيحيّة، وتغيّرت المفاهيم إلى حدّ ما، وأحيانًا إلى حدّ بعيد. صار هناك مفهوم جديد لم يكن موجودًا أصلاً: الأمبراطوريّة المسيحيّة. نحن نعرف أنّ الرّبّ الإله تكلّم على ملكوت السّموات، ولم يتكلّم على أمبراطوريّة مسيحيّة، ولا على ممالك مسيحيّة. لهذا السّبب، كلّ الممالك ذات الطّابع المسيحيّ، أو المعتَبَرَة مسيحيّة، من أوائل القرن الرّابع للميلاد، أقلّه حتّى سقوط القسطنطينيّة في الشّرق، وحتّى زمن متقدّم في الغرب، أقول إنّ كلّ الممالك المسيحيّة، من دون استثناء، باءت بالفشل. الأمبراطوريّة البيزنطيّة كانت هي الأمبراطوريّة بامتياز، في العالم. لكنّ المشكلة الكبرى كانت أنّ روحيّة القطيع الصّغير صارت غير موجودة، بعد القرن الرّابع للميلاد، إلاّ في الأديرة. الرّهبان، بصورة عامّة، استمرّوا يسلكون كقطيع صغير. لهذا، عمليًّا، هم سلالة الشّهداء الأوائل، الّذين قدّمتهم الكنيسة المقدّسة في القرون الثّلاثة الأولى، وفي فترات مختلفة، هنا وهناك، في التّاريخ. لكن، بصورة عامّة، ما سيطر على المناخ التّاريخيّ المسيحيّ هو روح القطيع الكبير، لا الصّغير! المسيحيّون، بحجّة الدّفاع عن الكنيسة وعن المؤمنين وعن المكتسبات والكنائس والأديرة، وجدوا أنفسهم في وضع قتاليّ في تعاملهم مع غير المسيحيّن. وأحيانًا، وجدوا أنفسهم – وهذا أكثر إيلامًا – في وضع تقاتل فيما بينهم! المسيحيّون صاروا، عمليًّا، مضطهَدين، لا فقط من غير المسيحيّين، بل من المسيحيّين أنفسهم. مَن يمكن أن يتصوّر، مثلاً، أنّ الأمبراطور البيزنطيّ موريس، في القرن السّادس للميلاد، أنزل العسكر إلى مدينة الإسكندريّة؛ وقتل، في يوم واحد، خمسين ألف مسيحيّ؛ لأنّهم كانوا على عقيدة الطّبيعة الواحدة؟! طبعًا، الإنسان، متى خرج من روحيّة القطيع الصّغير، بإمكانه أن يبرّر نفسه بطريقة أو بأخرى. الرّهبان، مثلاً، في الأمبراطوريّة البيزنطيّة، تعرّضوا للاضطهاد بشكل مخيف. لعلّكم لا تعلمون أنّ الرّهبان، بخاصّة، بين القرنين الثّامن والتّاسع للميلاد، تعرّضوا للاضطهاد بسبب تمسّكهم بإكرامهم للأيقونات. هذا كان في بداية القرن الثّامن للميلاد، تقريبًا. بعد العام 725، في القرن الثّامن، في الحقيقة، تعرّض الرّهبان وتعرّضت أديرتهم لاضطهاد فظيع: طُردوا من أديرتهم، وأودعوا السّجون بأعداد كبيرة جدًّا، وحاول الأباطرة أن يرغموهم على الزّواج. في تلك الفترة بالذّات، فرّ إلى الغرب حوالَي خمسين ألف راهب، اتّقاءً للظّلم والاضطهاد في الأمراطوريّة البيزنطيّة. لِمَ كلّ ذلك؟!

في نهاية المطاف، بعد كلّ الموبقات الّتي مورسَت، في كنيسة المسيح، أو باسم كنيسة المسيح، سقطت الأمبراطوريّة البيزنطيّة! على الرّغم من كلّ قوّتها، ومن كلّ عظمتها، ومن كلّ اختراعاتها، سقطت، وسقطت كلّ الممالك والأمبراطوريّات المسّماة “مسيحيّة”. والسّبب هو التّخلّي عن روحيّة القطيع الصّغير. صار الإنسان يعتمد منطقًا غير إنجيليّ. في الأساس، كان الإنسان يُسلم نفسه إلى الله. وهكذا، في كلّ حال، فعل العديد من الرّهبان، عبر العصور. كانوا يسلمون أنفسهم بالكامل إلى الله، أيعيشون أم يموتون، لا فرق عندهم. المهمّ أن يسلموا ذواتهم إلى الرّبّ الإله. لكنّ السّياسة الّتي اتُّبعت، بصورة عامّة، في الأمبراطوريّات المسّماة “مسيحيّة”، هي أنّ علينا أن نعتمد على قوانا، ثمّ نطلب إلى الرّبّ الإله أن يعيننا حتّى نستقوي على الآخرين. وهذا منطق مرفوض كلّيًّا، هذا منطق غير إنجيليّ. لا يمكن الإنسان أن يفرض على الله طريقةً في التّعامل. إمّا يعتمد على الله بالكامل، والرّبّ الإله يعينه؛ أو لا يعتمد عليه أبدًا! لذلك، صار المسيحيّون يعتمدون أسلوب الصّلاة لأجل نصرة العسكر، ونصرة الجيوش، ودحر الأعداء… في العمق، عدنا إلى الوراء، إلى ما قبل المسيح. أو، بكلام آخر، صرنا نتعاطى الأمور كما يتعاطاها الّذين لا يؤمنون. الفرق بيننا وبينهم أنّنا نحن نستعين بالرّبّ الإله عليهم، وهم يستعينون بمَن يعتبرونهم آلهة علينا. إذا كانت هذه شيمة غير المؤمنين، فلا يمكنها أن تكون شيمة المؤمنين. هذا هو الواقع، في الحقيقة. هذا الاعتماد على القوى البشريّة، واستنزال العون الإلهيّ على ما يستنسبه الإنسان ليدافع عن نفسه، هذا، في الحقيقة، “ضربَ” إيمان المؤمنين في العمق. إذا كنّا، اليوم، قد بلغنا حالةً نجد فيها أنّ الإيمان بات عملةً نادرة، فما ذلك إلاّ بسبب هذا التّطوّر التّاريخيّ الّذي انحدر إلينا، وبلّغنا إلى ما قد بلغناه. اليوم، مثلاً، أمر عاديّ جدًّا، بالنّسبة إلى المؤمنين، أن يعتمدوا على أنفسهم، أن يعتمدوا على عقولهم، أن يعتمدوا على علمهم؛ ومن ثمّ أن يستنزلوا، بالصّلاة، بركة الله؛ حتّى يبارك الرّبّ الإله ثمر أيديهم. مثلاً، يمرض الإنسان، يُصاب بالسّرطان. نادرًا ما نجد مَن لا يلجأ، في الحال، إلى الأطبّاء، وإلى الأدوية والعلاجات. وفي آنٍ معًا، يطلب من الرّبّ الإله العون، والصّحّة والعافية. لكنّه، في الحقيقة، بالطّريقة الّتي ينهجها، يعتمد على نفسه، لا على الله، ويريد من الله أن يعينه في تدابيره هو، كما يراها هو مناسبة!  في الحقيقة، الإيمان، في العمق، ولو كانت هناك صلاة وأدعية، لم يبقَ، في الواقع، إيمانًا حيًّا فاعلاً في حياة المؤمن. لم يبقَ الإنسان في وضع أن يسلّم نفسه إلى الرّبّ الإله بالكامل. طبعًا، وجداننا تشكّل بهذه الطّريقة، على مدى قرون، إلاّ قلّة من النّاس، هنا أو هناك. لكنّ السّواد الأعظم من النّاس يفكّر على هذا النّحو. وأتكلّم على النّاس الّذين هم في كنيسة المسيح!

إن أذكر، أذكر ما أورده الشّيخ يوسف الهدوئيّ، مثلاً، عن ذاك الإنسان الّذي كان “مضروبًا” في معدته، وقد سعى لأن يتطبّب لدى أطبّاء عديدين، وكان يتناول جرعات كبيرة من الأدوية، ويأكل عشر مرّات في اليوم وجبات صغيرة. هذا، لمّا رآه الشّيخ يوسف، سأله: “أتريد أن تُشفى؟!”، فأجابه: “طبعًا”؛ فقال له: “أَلقِ بهذه الأدوية في الوادي، وكُلْ مرّةً واحدة في اليوم بدل عشر مرّات، واعتمد على الله، وأنا سأصلّي لك”. لكنّ صلاة الشّيخ يوسف لم تكن كافية. كان على هذا الإنسان أن يؤمن، أن يسلّم نفسه إلى الرّبّ الإله. الموضوع الأساس ليس أبدًا أن يصلّي له الشّيخ يوسف، بل أن يؤمن هذا الإنسان بأنّ الرّبّ الإله قادر على أن يشفيه. تعلمون أنّ الرّبّ يسوع اشتكى أنّه، في مدينته، في كفرناحوم، مثلاً، لم يقدر أن يصنع آيات كثيرة، لأنّ النّاس كانوا غير مؤمنين به. حتّى الله، يبدو كأنّه لا يستطيع أن يفعل شيئًا بإزاء عدم إيمان النّاس! لهذا السّبب، حاول الشّيخ يوسف أن يقنع هذا القادم إليه بأن يسلم نفسه بالكامل إلى الله، وأن يتخلّى عن الأدوية وعن الأطبّاء. وكان ذاك الإنسان في وضع اضطراب عميق! كان صعبًا عليه جدًّا أن يفعل ذلك! وجدانه كلّه كان في اضطراب، لأنّه لم ينشأ على هذا النّحو. واستمرّ الشّيخ يوسف في محاولته إقناع هذا الإنسان بما يقوله له، وهذا الإنسان كان يقاوم ويقاوم … وأخيرًا، بعد ما عيل صبر الشّيخ يوسف، إذا بصوت ينزل من فوق، ويقول لهذا الإنسان: “لماذا لا تسمع وتُشفى؟!”. حينئذٍ، ارتضى أن يسمع وأن يُشفى، فسلّم أمره إلى الرّبّ الإله. إذ ذاك، صلّى له الشّيخ يوسف، وأرسله إلى بيته. وبعد ثلاثة أيّام فقط، شُفي بالكامل! لم يشأ الرّبّ الإله أن يطيل الفترة عليه، لأنّه كان يعرف أنّ نفسه صغيرة. فأسرع إلى حيث كان الشّيخ يوسف الهدوئيّ، وبشّره بأنّه شُفي، وقال له: “لقد أجرى لي الطّبيب الفحوصات، وتبيّن له أنّ معدتي عادت كأنّها معدة طفل صغير”…

المشكلة الّتي تعاني منها الكنيسة، اليوم، أنّ وجدان المؤمنين توقّف عن أن يكون وجدان القطيع الصّغير، عن أن يكون وجدانًا تسليميًّا، وجدانًا إيمانيًّا. كثيرًا ما أتساءل بإزاء القول الّذي ورد “متى جاء ابن الإنسان، فهل يجد الإيمان على الأرض؟!”: تُرى، أيتكلّم الرّبّ الإله على مرحلة سوف تأتي في المستقبل؟! لا، بل أظنّ أنّ هذه المرحلة هي المرحلة الّتي نعبر بها نحن، في الحقيقة. مشكلتنا، اليوم، أنّ وجداننا تشكّل، عبر سنوات طويلة، بطريقة غير إيمانيّة. لهذا السّبب، صرنا نفصّل الإيمان على مقاس عقولنا، على مقاس علمنا، على مقاس تدابيرنا… والنّتيجة أنّ الإيمان يبدو كأنّه ليس إيمانًا حيًّا! يتحوّل الإيمان إلى شيء نظريّ، أو إلى شيء عاطفيّ؛ لكنّه ليس، بعد، فاعلاً، بكلّ معنى الكلمة، إلاّ، طبعًا، في قلّة من النّاس، هنا وهناك! إذًا، موضوع القطيع الصّغير موضوع أساسيّ جدًّا، بالنّسبة إلى المؤمنين. لا شكّ في أنّنا نعاني أزمة ليست بقليلة، في كنيسة المسيح. الموضوع ليس موضوع علم، ولا موضوع مزيد من الدّراسات، ولا موضوع كهنة وأساقفة ومثقّفين. الموضوع هو موضوع مؤمنين بالرّوح والحقّ. هؤلاء أين نجدهم؟! والسّؤال الكبير: أين نجد الإيمان الحيّ مضيئًا في حياة إنسان لنتّبعه؟! البشريّة كلّها، وبخاصّة أهل بيت الله، يبحثون عن الإنسان الّذي يحيا في الإيمان بالرّبّ يسوع المسيح، بالرّوح والحقّ. هذا هو الموضوع الأساس، اليوم؛ وهذا هو الموضوع المؤلم، اليوم. نحن نعلم أنّ هناك سبعة آلاف لم يحنوا ركبة لبعل. والرّبّ الإله لا يحرمنا من الشّهود الطّيّبين. هؤلاء هم الّذين نبحث، وعلينا أن نبحث عنهم، في كلّ حين؛ حتّى لا يموت الله في حياتنا باسم الله!

آمين.


عظة في السّبت 14 كانون الثّاني 2012 حول متّى12: 32- 40.

Leave a comment