في الأب الشهيد باسيليوس نصّار

في الأب الشهيد باسيليوس نصّار

د. عدنان طرابلسي

قالها مرة قديسنا الأنطاكي إغناطيوس: “ماذا تفيدني ملذّات العالم؟ ما لي وفتنة ممالك هذا العالم؟ إني أفضّل أن أموت مع المسيح من أن أملك أطراف المسكونة… قربت الساعة التي سأولد فيها… من سوريا حتى رومية، في البر والبحر، في الليل والنهار، وأنا أصارع الوحوش… إني أتوق للوحوش التي تنتظرني. إني أضرع لتنقضّ عليّ سريعاً… اتركوني فريسة للوحوش… اضرعوا إلى المسيح حتى يجعل من الوحوش واسطة لأكون قرباناً لله”. واليوم، ومن الكنيسة الأنطاكية ثانية، يقدّم الأب باسيليوس نصّار ذاته قرباناً للمسيح، بواسطة الوحوش التي قتلت مرة إغناطيوس، والتي تقتل اليوم باسيليوس، والتي قتلت كل قديس وقديسة بينهما.

أي قربان أقدس من جسد يخترقه الرصاص عندما يسارع إلى نجدة أخيه الإنسان، وأي ذبيحة أطهر من محبة لا تعرف الأثَرَة أو الأنانية، فتنطفأ لتُنير للآخرين الطريق؟ أي دم أذكى من دم كاهن أراق دمه محبة بدم المسيح، وخَبَز جسده في سبيل عضو من أعضاء جسد المسيح؟

الأب باسيليوس فاق السامري الصالح، الشفوق. فالسامري قدّم حناناً ومحبة ومالاً لإنقاذ المنكوب على قارعة الطريق. واليوم، يقدّم الأب باسيليوس جسده ودمه، روحه وحياته، أغلى ما يملكه، لإنقاذ منكوبٍ على قارعة طريق. حقاً، ليس حب أعظم من هذا: أن يبذل المرء نفسه في سبيل أحبائه.

هذا هو الكاهن: إنه مَن يقدّم جسده ودمه في سبيل أحباء المسيح، قبل أن يقدّم جسد المسيح ودمه على المائدة المقدسة. إنه مَن يشهد كل يوم، في كل قول وفكر وفعل، لرب الأرباب وإله الآلهة. والشهيد شاهد حي لا يموت، كاهن أبدي لا يكلّ ولا يملّ. إنه صورة عن المسيح، الكاهن الأزلي. إنه حيٌّ بالمسيح، وإن تكلّل بالشهادة للمسيح غسل ثيابه الأرضية في دم الخروف، وتسربل الثياب البيض، ومَثُل أمام عرش الله، يخدمه نهاراً وليلاً في هيكله، والجالس على العرش يحلّ فوقه. هذا هو الكاهن الشاهد والشهيد: إنه لا يجوع ولا يعطش، لأن الخروف يرعاه كما كان هو يرعى خاصّة الخروف السماوي على الأرض؛ والخروف يقوده إلى ينابيع ماء حية، كما كان هو يقدّم لعطاش الخروف السماوي كأس الماء البارد، الذي به نخلص؛ والخروف يمسح كل دمعة من عينيه وعيون أحبائه، كما كان الكاهن يمسح آلام أحباء المسيح ويضمّد جراحاتهم ببلسم المحبة والرأفة (رؤ 7: 12-17)

أنطاكية لم تبخل يوماً بشهيد، بقديس، بكاهن، بمرنّم، بلاهوتي، بمتبالهٍ، وبمسيحي. لم تبخل بشيء أبداً. كانت دائماً السبّاقة إلى العطاء والتضحية وبذل الذات في سبيل مَن أمامه يذوب كل ثمين ونفيس. ولهذا السبب تكاثرت الوحوش في أنطاكية. ولكن النعمة كانت الأولى دائماً. إيليان الحمصي اعتبر الآب السماوي، لا أبيه الجسداني، هو وحده مَن يستحق أن نعيش له، ونموت من أجله. يوحنا الذهبي الفم قدّم كل شيء يملك في سبيل كهنوته، إلى أن أسلم الروح في المنفى ليصير في الوطن السماوي. سمعان الحمصي تباله أمام العالم ليعرف المسيحَ وليعيش له وحده. مكسيموس المعترف لم يبخل بلسانه ويده في سبيل اعترافه بالحق الأبدي. رومانوس الحمصي المرنّم لم ينفكّ مرنماً ومنشداً ومسبحّاً مَن لا تنقطع ملائكة السماء على تسبيحه. يوحنا الدمشقي وصل السماء بالأرض بتسابيحه اللاهوتية وصلواته النسكية. بطرس الدمشقي قدّم كل ما يملك فصار ناسكاً ومعلّماً محبة بمعلّمه. أندراوس الدمشقي أنشد ووعظ في العذراء واللاهوت، فلم يبخل. سمعان العمودي صار شعلة عمودية وصلت إلى قديسي السماوات، حيث كان يتوق أن يكون، فكان.

الأب باسيليوس أراد أن يعطي كما أعطى المسيح، جسداً ودماً، محبة وتضحية. سار على خطى القديس يوسف الدمشقي. فلم يرَ سوى الآخر، سوى المجروح والمتألم والمهان، لم يرَ سوى المسيح في النازف، فشاء أن تسيل دماؤه لتروية المجروح، وأن يقدّم روحه لإراحة المحتضر. نسي ذاته ليذكر الآخر؛ نسي أين هو وكيف هو، لأنه لم يرَ أمامه إلا مسيحاً آخر مصلوباً، ليس على خشبة الصليب هذه المرة، بل على قارعة رصيف تشبّع إرهاباً وقتلاً ودماً وحزناً. أرادت الوحوش أن تنحر السلام في بيت السلام، وأن تقتل الشهداء في أرض الشهداء. لم تعلم هذه الوحوش أنه في الألم نحن نكبر، وفي الحزن نحن نفرح، وفي الشدائد نحن نرتاح، وفي الصليب نحن نعيش، وفي الموت نحن نقوم. ففي هذه جميعها يعظم انتصارنا بالذي أحبّنا أولاً، فأحببناه لاحقاً، لأننا به نحيا ونتحرك ونوجد.

هذا هو الكهنوت الحقيقي: الكهنوت الذي على صورة كهنوت يسوع المسيح. حقاً مغبوط هو العطاء أكثر من الأخذ. كلما أعطينا كلما اغتنينا، وكلما نقصنا كلما كبرنا. فهل أراد الأب باسيليوس أن يُري كل شماس وكل كاهن وكل مطران في أنطاكية كيف تكون أبجدية الكهنوت المسيحي، وكيف تُقام هذه الخدمة الرسولية المقدسة؟ هل أراد أن يلقننا درساً في التجرّد والإخلاء من كل شيء، كما أخلى المسيح ذاته على الصليب، حبّاً بنا؟ لقد فعل، وأجاد في ما فعل. لقد خسرنا كاهناً على الأرض وربحنا قديساً في السماء. خسرنا إنساناً على الأرض وربحنا ملاكاً في السماء. خسرنا أباً على الأرض وربحنا شفيعاً في السماء. هكذا تكون المحبة المسيحية، وليس ما نتبجّح به من كلمات وحروف. هكذا هي التضحية المسيحية، وليس ما نتعلّمه في المعاهد والجامعات. هكذا تكون خدمة السامري الصالح، وليس ما نجترّه من أقوال وقصص وأمثال.

ألم يقل الرسول العظيم بولس: “لأن ليس أحد منا يعيش لذاته ولا أحد يموت لذاته”؟ (رو 14: 7). الأب باسيليوس لم يعش لذاته، وهو الذي نذر خدمة يسوع في كل شخص وفي كل مكان. نذر الرهبنة المقدسة، فصار عذراء عفيفة للمسيح، عذراء أخلصت وأبقت زيت مصباحها مشتعلاً، ففتح المسيح لها الأبواب، وأدخلها في ملكوته. “فإن عشنا وإن متنا فللرب نحن”. وهل يستحق الرب أقل من هذا؟ مع ذلك فالقلة النادرة هي مَن تستطيع أن تُظهر كلام بولس في حياتها، وفي موتها. باسيليوس نصّار فعل هذا، في حياته وفي موته، لأنه كان من هذا القطيع الصغير، القطيع الذي لا يخاف ولا يرهب. فعاش للرب ومات للرب. فالمحبة لا تطلب ما لنفسها. لهذا السبب لا تسقط المحبة أبداً. إنها، كالأشجار، تستشهد واقفة، وإن ماتت، قامت من الأموات لتحيا وتُحيي معها الكثيرين.

هكذا هم المسيحيون دائماً وأبداً. يعيشون كمجهولين وهم معروفون، يظهرون كمائتين وهم يحيون، يبدون حزانى وهم فرحون، فقراء ولكنهم يغنون كثيرين، كأن لا شيء لهم، وهم يملكون المسيح، يملكون كلَ شيء. الأب باسيليوس كان فقيراً فاغتنى وأغنى. كان مجهولاً في حياته، فعرفه الناسُ في مماته، وعرّف الناسَ مَن هو المسيح. كان لا يملك أي شيء، فصار الآن يملك كل شيء، صارخاً: في هذه جميعها يعظم انتصارنا بالذي أحبّنا. وفي هذه جميعها يكمل فرحنا في الذي أفرحنا.

ليت أنطاكية تخرج من أتونها، من ليلها، ومن ظلامها. ليتها تتغلب على وحوشها، قبل أن تأتي الساعة الأخيرة. لم تركع أنطاكية يوماً ما، ولن تركع. ومهما طال ليل الخطيئة، فلا بد لنهار البرّ والقداسة أن ينبلج. الرحمة العظمى هي ما نطلب، وعظيمةٌ هي رحمة الله. إنها يمٌ لا حدود له. ومهما طال الليل، ليل الظلم، والخطيئة، وليل القتل والتآمر، ليل الإسخريوطي وألف اسخريوطي، ليل خفافيش الخطيئة السوداء، فلا بد لنهار القيامة ولنور القيامة أن يغمرا الكون. فالمسيح قام من الأموات، ولم يبق ميتٌ في القبر. المسيح قام من الأموات فلا نعد بعد نخاف الموت. المسيح قام من الأموات فلنفرح ونتهلّل: إنه هو فرحنا وحياتنا، أصلنا ومآلنا، بدايتنا ونهايتنا. لقد صار الراقدون مواطنين في الفردوس السماوي، حيث لا تنهد، ولا حزن، ولا بكاء، ولا دم، ولا توجع، بل المسيح هو الكل في الكل. له المجد والشكر والسجود إلى الأبد. آمين!

عيد نقل رفات العظيم في القديسين يوحنا الذهبي الفم

27 كانون الثاني 2012

Leave a comment