عن بدعة قيد الإعداد في الكنيسة الأرثوذكسية
الميتروبوليت ييروثيوس فلاخوس
نقلها إلى العربية الأب أنطوان ملكي
كلمة “بدعة” مستمدة من الفعل اليوناني (αίρομαι)، أنا أختار، وهو يدلّ على اختيار وتفضيل جزء معين من التعليم، وتحويله إلى مطلَقٍ على حساب الحقيقة الكاملة كلها. من وجهة نظر الأرثوذكسية، الهرطقة انحراف عن تعليم الكنيسة المثبّت كما صاغه الرسل وآباء الكنيسة، وخاصة في المجامع المحلية والمسكونية. على سبيل المثال، تمّت صياغة التعليم عن اتحاد الطبيعتين في المسيح في المجمع المسكوني الرابع، وطبقاً لها يتمّ اتّحاد الطبيعة الإلهية والبشرية “من دون امتزاج أو تشوّش ولا انقسام ولا انفصال” في أقنوم الكلمة. عندما يشدد شخص ما على الطبيعة الإلهية على حساب الطبيعة البشرية، فإنه يقع في بدعة الطبيعة الواحدة. عندما يقوم شخص آخر بالإفراط في التأكيد على الطبيعة الإلهية على حساب الطبيعة البشرية، ولا سيما على حساب اتحاد الطبيعتين، يقع في بدعة النسطورية.
هذا يدل على وجوب أن نقبل عقائد الكنيسة كما وردت في الكتاب المقدس والتقليد المقدس، أي في كتابات الأنبياء والرسل والآباء الذين صاغوها في المجامع المحلية والمسكونية. أما في خلاف ذلك فإن الحقيقة التي كشف عنها الإيمان تخضع للتغيير. ويأتي هذا التغيير في الغالب من خلال التكهنات والأفكار التقوية حول حقائق الكنيسة العقائدية.
1. نوعا الإكليسيولوجيا المزعومان في اللاهوت الأرثوذكسي
يتحدث علماء لاهوت مرحلة ما بعد الآباء عن نوعين من الإكليسيولوجيا، الإكليسيولوجيا الكتابية البدائية (primitive biblical ecclesiology) والإكليسيولوجيا الآبائية اللاحقة، ويقولون إن النوع الثاني من الإكليسيولوجيا والروحانية غيّر النوع البدائي، الذي تمّ التعبير عنه “بالمجد الأخروي لملكوت الله“.
أيضاً يتحدث علماء لاهوت ما بعد الآباء، تحت تأثير البروتستانتية، عن “اللاهوت الأفلاطوني الحديث الإفاغريوسي (نسبة إلى أفاغريوس البنطي)” و“اللاهوت النسكي المكاريوسي (نسبة إلى مكاريوس المصري)“. وبهذه الطريقة ينقسم اللاهوت الأرثوذكسي.
ووفقاً لهذه النظرية، فإن التعبيرين عن الحياة الهدوئية، أي “التصوّف التأملي” عند إفاغريوس و“المادية الروحية” عند مكاريوس المصري، عِبر القديس غريغوريوس اللاهوتي، القديس غريغوريوس النيصصي، القديس مكسيموس المعترف والقديس سمعان اللاهوتي الحديث في الكنيسة، ويبلغا الذروة عند القديس غريغوريوس بالاماس. إذاً، بحسب علماء اللاهوتي ما بعد الآبائيين، فإن الهدوئية والرهبنة المعاصرة قد تشكلتا من خلال هذين الاتجاهين.
هذه النظرية الجديدة، التي تحاول قلب حياة الكنيسة النسكية التقليدية، تؤكّد أن درجات الحياة الروحية، أي التطهّر والاستنارة والتمجيد، هي تأثير من أوريجنس. وبحسب هذا الرأي، فإن إفاغريوس تأثّر بأوريجنس، وكان لهذا التأثّر مفعول على الآباء اللاحقين (مكاريوس المصري، الكابادوكيين، مكسيموس المعترف، سمعان اللاهوتي الحديث، غريغوريوس بالاماس وغيرهم)، ووصل حتّى إلى القديس نيقوديموس الأثوسي، وبطبيعة الحال، آباء الفيلوكاليا.
تقوّض هذه النظرية التقليد الهدوئي والفيلوكالي وكل تعليم آباء الكنيسة عن تحرير النوس من الخيال والشكل، وتنقية القلب، واستنارة النوس ومعاينة الله، وصلاة النوس في القلب، وما إلى ذلك. وبعبارة أخرى، إنها تنتهك كل متطلبات اللاهوت الأرثوذكسي، والإكليسيولوجيا الأرثوذكسية والإفخاريستيالوجيا. كما سوف يتّضح أدناه، هذه في الواقع بدعة قيد الصنع في الكنيسة الأرثوذكسية.
ينبغي التعامل لاهوتياً مع نظرة “الإكليسيولوجيا المزدوجة” المزعومة، وإلا ينشأ ورم خبيث في جسد الكنيسة مع عواقب غير متوقعة. هنا سوف نفنّد هذه النظرية غير الأرثوذكسية بإيجاز، أمّا في القسم التالي فسوف نحلّل المسألة بمزيد من التفصيل.
أولاً وقبل كل شيء، ينبغي التأكيد على أن وجود “إكليسيولوجيا مزدوجة” و “روحانية مزدوجة” غير ممكن في الكنيسة. فالكنيسة هي جسد المسيح وما يصنّف بالروحانية هي الحياة في المسيح والروح القدس التي يعيشها المسيحيون من خلال الأسرار المقدسة والتقليد النسكي. ترتبط الإكليسيولوجيا الحقيقية ارتباطاً وثيقاً بتجسّد المسيح والعنصرة. في مطلَق الأحوال، لا تشكّل الهدوئية إكليسيولوجيا معينة. بل هي حياة الإنجيل وحفظ وصايا المسيح، وهي مطلب أساسي للمشاركة في قوة الله غير المخلوقة المطهِّرة المنيرة والمقدِّسة. إن العبادة في الكنيسة والأسرار تقدم هذا التقليد الهدوئي بالكامل. وهذا ما تمّ تثبيته مجمعياً في مجمع 1351، الذي يُعتَبَر المجمع المسكوني التاسع.
نعلم من مجمل تعليم الكنيسة أن تعاليم وخبرة الأنبياء والرسل والآباء متطابقة. لا يختلف الرسل عن الأنبياء، ولا الآباء يختلفون عن الرسل والأنبياء، فهم يشتركون في نفس التجربة والإيمان. الفرق هو أن أنبياء العهد القديم رأوا الكلمة غير المتجسّد، بينما في العهد الجديد وحياة الكنيسة يرون ويشاركون في الكلمة المتجسّد. كل شيء آخر لديهم مشترك. يقول القديس غريغوريوس بالاماس بشكل خاص: “… أي شيء آخر غير الكمال الخلاصي في المعرفة والعقائد يتكوّن من التفكير بنفس الطريقة كالأنبياء والرسل والآباء، ومع كل هؤلاء في الأساس، الذين من خلالهم يشهد الروح القدس عن الله ومخلوقاته“.
ونحن نعلم أيضا من لاهوت الكنيسة أن خبرة المعاينة الإلهية، التي تجري بكلمات لا تُسّر، ليست نفس تسجيل هذه الخبرة الذي يستخدم كلمات ومفاهيم وصوراً مخلوقة. إلى هذا، فإن الاختلاف في المصطلحات بين الأنبياء والرسل والآباء لا يشكل فرقاً في الخبرة. من المؤكد، أن الآباء والمعلمين في القرنين الثالث والرابع استخدموا مصطلحات معينة اعتمدوها من لغة عصرهم، لدحض الهراطقة. مع ذلك، هذا لا يعني أنهم غيّروا مضمون المصطلحات. قال الأب يوحنا رومانيدس: “التعامل مع المعتقدات الكاذبة جعل زيادة المصطلحات ضرورية. للتعامل مع الهراطقة نستخدم إعلانات الإيمان وهذه المفاهيم، كما نحاول أن نضرب قلب الاعتقاد الكاذب“.
لذلك من الغريب أن يًنظَر إلى التعليم عن التطهّر والاستنارة والتمجيد على أنه أوريجيني أو أفلاطوني حديث على اعتبار أن الآباء تبنّوا هذه المصطلحات ككلمات أو كوقائع. فيما هذه المصطلحات موجودة في الكتاب المقدس في مطلق الأحوال. لقد اتُّهِم القديس كيرللس الإسكندري باستخدام عبارات من نسطوريوس. ولذلك كتب في الرسالة التي أدرجت في وقائع المجمع المسكوني الثالث أنه لا ينبغي لنا تجنّب كلّ ما يقوله الهراطقة، إذ أن هناك أيضاً أشياء توافق تعليمنا. قوله الفعلي هو: “لا حاجة للفرار من كل ما يقوله الهراطقة ورفضه، لأنهم يعترفون بأشياء كثيرة نعترف بها أيضاً“. ويذهب إلى الإشارة إلى أمثلة ذات صلة. وهذا يعني أن المهم ليس ما إذا كان المصطلح قد قدّمه أوريجينوس أو إفاغريوس البنطي أو مكاريوس المصري. المهم هو أنه اعتُمِد من القديس باسيليوس الكبير، القديس غريغوريوس اللاهوتي، القديس غريغوريوس النيسسي والآباء اللاحقين، وتمّ تأكيده مجمعياً، على أنه من التقليد الأرثوذكسي. وبالتالي، طريقة التفكير بأنّ تعليم الكنيسة الثابت الذي اختبره آباء الكنيسة هو أوريجيني أو افاغريوسي أو ماكاريوسي أو غيره، ليست طريقة أرثوذكسية.
علاوة على ذلك، هناك فرق كبير بين اللاهوت والفلسفة، ويتجاوز هذا الفرق مجرد استخدام المصطلحات. اللاهوت هو نتيجة إعلان الله إلى الممجَّدين، في حين أن الفلسفة هي نتيجة التكهنات واكتشاف العقل البشري. إن وصف التقليد الهدوئي بأنه أوريجيني أو افاغريوسي أو ماكاريوسي أو حتى أفلاطوني حديث بسبب وجود تشابه خارجي في الكلمات هو تفسير سطحي، لا بلّ هو يعبّر أيضاً عن شيء أعمق، أي بعبارة أخرى هو محاولة لتقويض التقليد الأرثوذكسي الهدوئي.
مدى كون هذه الاستنتاجات سطحية واضح من حقيقة قدرة هؤلاء الناس وبالطريقة نفسها على إلقاء اللوم على آباء الكنيسة لاعتمادهم مصطلحات من الوثنيين والهراطقة (شخص، أقنوم، جوهر، الطاقة وهلم جرا) كما غيرها من العوامل الثقافية الخارجية، كما أن هؤلاء الناس يصفون بالوثنية لاهوت الآباء عن الإله الثالوثي وإكليسيولوجيتهم. لقد ذهب هرناك (Harnack) وغيره من البروتستانت إلى هذا الحد، وليس مستبعداً أن هؤلاء الأرثوذكس الذين يفكرون بشكل سطحي وخارج عن التقليد الأرثوذكسي، لأنها يجهلون محتوى التقليد السماوي والعميق، قد يصلون أيضاً إلى هذه النقطة (وقد وصل البعض بالفعل).
في نهاية المطاف، فإن الرأي القائل بأنه تسود في الكنيسة إكليسيولوجيا مزدوجة – بدائية وأكثر حداثة – هو ما يسمى “لاهوت ما بعد الآباء“. إنها نظرة متأتية من البروتستانت وبعض الأرثوذكسيين الذين يحاولون بهذه الطريقة إنكار تعليم الآباء، وعبادة الكنيسة، والتقليد الهدوئي، وبطبيعة الحال، الرهبنة. ومن المدهش حقاً أن علماء اللاهوت والفلاسفة المذكورين أعلاه يسعون إلى جعل اللاهوت الأرثوذكسي بروتستانتياً عِبر الإشادة بالتفسير البروتستانتي وتقويض التقليد الهدوئي الكنسي الآبائي، من أجل “إكليسيولوجيا بدائية” تشير إلى الإفخارستيا الإلهية ومملكة الله، وتعتمد ببساطة على نصوص العهد الجديد.
من الواضح تماماً مما يقوله هؤلاء اللاهوتيون والكتاب الجدد أن محاولة تُبذَل لتقويض كل التقليد النسكي وحياة الكنيسة، بالشكل الذي عبّر عنهما آباؤها العظماء، الكابادوكيون (القديس باسيليوس الكبير، القديس غريغوريوس اللاهوتي، القديس غريغوريوس النيسسي)، القديس ديونيسيوس الأريوباغي، القديس مكسيموس المعترف، القديس يوحنا الدمشقي، القديس سمعان اللاهوتي الحديث، القديس غريغوريوس السيناىي، القديس غريغوريوس بالاماس، وجميع آباء الكنيسة الصحويون والفيلوكاليون. وفي الوقت نفسه، يتم تقويض تعليم كل النساك القديسين الذين عرفناهم في السنوات الأخيرة (يوسف الكهف، أفرام الكاتوناكي، بايسيوس الأثوسي، بورفيريوس الكافسوكاليفي، إفرام الفيلوثي، وغيرهم) الذين يتحدثون عن الحياة النسك والتوبة والصلاة العقلية وعموماً عن طريق الإنسان إلى الله من خلال التطهّر والاستنارة والتمجيد.
وهذا يخلق أيضاً مشكلة خطيرة أخرى تقوّض كامل الإكليسيولوجيا. المقصود أن عقائد الكنيسة يتمّ تفسيرها خارج شروطها الأساسية، التي هي الخبرة التي تجد تعبيراً ملموساً في التطهّر والاستنارة والتمجيد. إلى هذا، إن حياة الكنيسة ألأسرارية أيضاً يتمّ تقويضها عندما تُقطَع المعمودية، والميرون، والمناولة المقدسة، وجميع الأسرار الأخرى عن حياة النسك، كما هي معبر عنها في التطهّر والاستنارة والتمجيد. فنحن نعلم أنه لا يمكن أن تكون الأسرار منفصلة عن التقليد الهدوئي، لأن هذا يشكّل طريقة حياة كالسحر، كما لا يمكن أن يعاش التقليد الهدوئي من دون أسرار الكنيسة، لأن هذا يؤدي إلى الفلسفة الشرقية والمصلينية (Messalianism).
3. تحليلات أوسع
إن الدحض الموجَز أعلاه لهذه البدعة قيد الصنع في الكنيسة الأرثوذكسية يمكننا من المضي قدماً في تقديم تعليقات أوسع نطاقاً وبشكل أساسي لتوسيع هذه الأفكار للتعامل مع هذه الحالة الخطيرة التي يمكن أن تضرّ أعضاء الكنيسة. ومن الواضح أنها خباثة بروتستانتية هرطوقية تسللت إلى بنية بعض أعضاء الكنيسة، ويجب ألا تصبح نمواً خبيثاُ من شأنها أن تهاجم بنية الكنيسة.
لإسقاط كل هذه النظريات أستطيع أن أعود إلى الكتاب المكون من مجلدين الذي نشرته بعنوان “العقائد التجريبية“، والذي يعرض تعليم اللاهوتي العقائدي الأصيل الموثوق الأب يوحنا رومانيدس. فهو كان على دراية بكل هذه الآراء في أمريكا، من اللاهوت السكولاستيكي والبروتستانتي اللذين درسهما. وهو الذي أوضح لنا أصالة الفكر والحياة الآبائيين. كل هذه الآراء التي طرحها بعض اللاهوتيين المعاصرين يتعامل معها الأب يوحنا رومانيدس بشكل جيد جداً بنصوص محددة. هذا هو سبب تشويههم له كثيراً. ولكن الحقيقة سوف تلمع، لأن الله لن يدع اللعنة تسود داخل مدى الكنيسة الأرثوذكسية المقدسة والمباركة، كما هو واضح من تاريخ هذه الكنيسة. ما هو أصيل سوف يحتمل الوقت والضغوط، في حين أن ما هو كاذب سوف يختفي.
سوف أركّز الآن على بعض النقاط المميزة التي تكشف عن هذا الخباثة البروتستانتية الهرطوقية التي أثرت أيضا على بعض الأرثوذكسيين.
أ) متطلبات النطق باللاهوت بطريقة أرثوذكسية
قد علّمنا الآباء القدّيسون أنه للتعامل مع تعليم ما، يجب التأكيد على متطلبات اللاهوت الأرثوذكسي. السؤال هو: مَن، في نهاية المطاف، هو لاهوتي في الكنيسة، ومن يستطيع النطق باللاهوت؟ جابه القديس غريغوريوس اللاهوتي بخطبه اللاهوتية بدعة الأريوسيين الذين استخدموا الحجج الفلسفية، ولا سيما إفنوميي زمانه الذين شكّلوا المجموعة الهرطوقية السائدة بين بين الأريوسيين. ومن السمات أنه احتاج إلى أن يحدد في بداية خطبه اللاهوتية متطلبات النطق باللاهوت. لقد أشار إلى مَن يستطيع وينبغي أن ينطق باللاهوت. ويشير القديس غريغوريوس اللاهوتي إلى أن “أولئك الذين يفخرون ببلاغتهم“، الذين يفرحون “بالثرثرات البذيئة والباطلة” وتناقضات “ما يسمى كذباً بالمعرفة“. إنهم أيضاً “سفسطائيون، سخيفون ومتلاعبون بالكلمات غريبون“. وعلى ضوء تفكير الأفنوميين الفلسفي يقول“إن سرنا الكبير معرّض لخطر أن يصير ابتذالاً“. فهو يسمّي الأفنوميين الذين يتكلّمون فلسفياً عن الله فيما يعيشون خارج تقليد الكنيسة“جدليين مولعين بالكلمات.”
لهذا هو يفسّر ما هي المتطلبات الأساسية للاهوت الأرثوذكسي فيقول أن اللاهوت ليس مجرد أي اهتمام، وبالتأكيد لا يأتي من أصل وضيع. النطق باللاهوت ليس مهمة للجميع، بل هي “لأولئك الذين اختٌبِروا وتقدّموا في الثايوريا [المعاينة]، وقد تطهّروا بالروح والجسد، أو على الأقل هم في مرحلة التطهّر“. هذا أمر أساسي، لأن من الخطِر أنّ “النجس يلامس الطاهر“، تماماً كما أن أشعة الشمس خطرة على العيون. لذلك، على مَن ينطق باللاهوت أن يكون أولا قد تطهّر، وإلا فسوف ينتهي هرطوقياً. ولتلبية متطلبات اللاهوت، يجب أن يعبر بالهدوئية. وبعبارة أخرى، يمكننا أن ننطق باللاهوت “عندما نكون متحررين من كل حالات التلوّث أو الاضطراب الخارجي، وقدرتنا الآمرة لا تخالطها صور وهمية أو خاطئة“، كخلط الكتابة اليدوية الجميلة مع بالخربشة القبيحة، أو عطر الميرون بالقذارة. على الإنسان أن يكون أولاً هادئاً لمعرفة الله. “لأنه من الضروري فعلاً أن يكون هادئاً ليعرف الله“.
يأتي تعليم القديس غريغوريوس اللاهوتي هذا في بداية خطبه اللاهوتية، مظهراً بوضوح أنّ أهمية كبيرة تُعزى إلى متطلبات اللاهوت الأرثوذكسي. إذا تم تغيير هذه الشروط المسبقة، فإن الناس حتماً يُقادون إلى الانحراف عن الحقيقة، ونتيجةً لذلك يقعون في المعتقدات الكاذبة والبدع. وبالتالي، فإن المتطلبات الأساسية للاهوت الأرثوذكسي هي الهدوئية المقدسة، السكون الإلهي، تطهّر القلب من الأهواء، واستنارة النوس. ما يتحدث عنه القديس غريغوريوس اللاهوتي ليس إكليسيولوجيا مختلفة وأكثر حداثة، بل الإكليسيولوجيا الكنسية الصحيحة التي نلتقيها عند الرسل وأنبياء العهد القديم. ليس من المؤكد على الإطلاق أن ما يتمّ التعبير عنه هو التعليم والإكليسيولوجيا الأرثوذكسيين إذا ما أُلغيَت هذه المتطلبات.
في عظته عن الظهور، يتحدّث القديس غريغوريوس اللاهوتي عن التطهّر والاستنارة والتمجيد باعتبارها الشروط المسبقة الأساسية للاهوت الأرثوذكسي لكي يحصّل إنسان ما موهبة الحقيقة الروحية ويخدم “الله الحي والحقيقي“. فقط بهذه الطريقة يمكن للمرء أن “يتفلسف” أو ينطق باللاهوت عن الله. ويتابع إلى تحديد طريقة اللاهوت الأرثوذكسي: “حيث يكون الخوف يكون الحفاظ على الوصايا؛ وحيث يوجد حفظ الوصايا يكون تطهير الجسد من تلك السحابة التي تغطي النفس ولا تسمح لها أن ترى الأشعة الإلهية بوضوح. حيث يوجد التطهّر تكون الاستنارة. والاستنارة هي إشباع رغبة أولئك الذين يتوقون إلى أعظم الأشياء، أو أعظم شيء، أو ما هو أبعد من العظيم“. هذا لا غنى عنه “لذلك علينا أن نطهّر أنفسنا أولاً، ومن ثم التكلّم مع من هو الطاهر“. ومن الواضح أن هذا إشارة إلى التطهّر والاستنارة والتمجيد، والتقدم نحو “العظيم“: معاينة النور غير المخلوق، المعاينة الإلهية، حين تُكتَسَب معرفة الله الحقيقية.
الهدوئية المقدسة هي الطريقة الأرثوذكسية للحياة كما نلتقيها في الكتاب المقدس وتقليد الكنيسة، وكما عاشها الأنبياء والرسل والقديسون على مرّ القرون. إنها ليست “إكليسيولوجيا” لاحقة أزاحت “الإكليسيولوجيا البدائية” وحلّت محلها، ولا هي أن بعض الآباء أثّروا على آباء آخرين أتوا بعدهم. أسأل نفسي: هل أنّ الذين عبّروا عن وجهات النظر هذه يعتبرون آباء الكنيسة كما لو أنهم حمقى وغير ناضجين ليقبلوا ببساطة ومن دون تحقق النظريات التي ينتجها الآخرون – نظريات غيّرت تقليد الكنيسة – وبالتالي ليكونوا قد ساهموا بسذاجة في الانحراف بعيداً عن اللاهوت الأرثوذكسي؟ أسوأ من ذلك كله، الزعم أن الكنيسة أتت في وقت لاحق إلى المجالس المسكونية بآبائها وأكّدت هذا التغيير! أنا أندهش كيف يدعم هذه الثغرات من يدّعون الأرثوذكسية، الذين يجترّون النظريات التي صاغها البروتستانت. إن وجهة النظر المذكورة أعلاه تهمل تماماً وجود الروح القدس في الكنيسة والتعليم بأن القديسين متألّهون، كما كما يرد تكراراً في نصوص الآباء والمجامع المسكونية.
عندما نتكلم عن طريقة الحياة الهدوئية نعني كامل حياة الإنجيل، والتي تشير إلى الجهاد ضد الشيطان والموت والخطيئة. شفاء الأفكار، تنقية القلب؛ وتفعيل المَلَكة النوسية بحيث يصلي النوس بطهارة لله؛ اقتناء المحبة غير الأنانية؛ والعلاج أجزاء النفس الثلاثة، وهلم جرا. ترتبط هذه الحياة النسكية ارتباطاً وثيقاً بالحياة الأسرارية وتشكّل جوهر طريقة الحياة الإنجيلية والكنسية.
جدير بالذكر أن إفاغريوس البنطي الذي يرى اللاهوتيون الذين يفكرون يروتستانتياً أنه أدخل الانحراف عن “الإكليسيولوجيا البدائية” وأنه أثّر بالقديس غريغوريوس بالاماس قد سامه القديس غريغوريوس اللاهوتي وخدم شماساً له أثناء كان بطريركاً على القسطنطينية. على الأكيد أن إفاغريوس تأثّر بأوريجنس في بعض آرائه وتعابيره، لكنه في الأمور اللاهوتية كان متأثّراً بلالآباء الكبادوكيين. في الواقع، إن تعليمه النسكي يحمل بصمات تقليد الصحراء الرهباني كما كان يُعاش في زمانه، بحسب ما يؤكّد الأب جورج فلوروفسكي. في مطلق الأحوال، إن تعليمه عن معرفة الله وصياغته لهذا التعليم قبلهما القديس مكسيموس المعترف والقديس يوحنا السينائي كاتب السلّم، وكل آباء الكنيسة اللاحقين.
بالتأكيد لا يمكن اعتبار لاهوت القديس غريغوريوس اللاهوتي متأثراً بإفاغريوس البنطي، على العكس، العكس صحيح. في الأمور الهدوئية القديس غريغوريوس أثّر بإفاغريوس الذي عبّر عن تقليده الهدوئي بكلماته الخاصة. يجب أن أشير هنا إلى أن اسم القديس غريغوريوس هو اللاهوتي وليس النزينزي كما كان يسمّيه أعداؤه الأريوسيون ويكرره في زماننا البروتستانت وبعض الأرثوذكس المتأثّرون بهم. نحن الأرثوذكسيون علينا أن نناديه بما نادته به الكنيسة: القديس غريغوريوس اللاهوتي بطريرك القسطنطينية.
ما يلي سوف يزيد من توضيح تعليم القديس غريغوريوس اللاهوتي.
ب) خبرة مجد الله وصياغتها بكلمات
الكنيسة هي جسد المسيح، وأعضاء الكنيسة أعضاء في جسده القائم وهم يسلكون أسراريا ونسكياً. لا يوجد نوعان أو أكثر من الإكليسيولوجيا، ولا أي نوع من الإكليسيولوجيا ينشأ من نوع آخر تحت الضغط. هناك إكليسيولوجيا واحدة، كما هو تحدده حياة الكنيسة الأرثوذكسية بكاملها. لم يغير آباء الكنيسة “التقليد القديم” الذي ورثوه، ولكنهم يعيشون موحدين عضوياً “مع جميع القديسين” وينتمون ضمن وحدة الأنبياء والرسل والآباء.
الكنيسة نفسها، من خلال الآباء المستنيرين بقوة الروح القدس، تختبر مجد الله وتصوغ خبرتها بكلمات بحسب تحديات كل عصر. وبالتالي فإن نفس الحقيقة التي كُشِفَت محفوظة، ولكن في بعض الأحيان تتغير المصطلحات والكلمات، دون فقدان معناها الروحي.
وهكذا فإن كلمة التألّه (theosis) لا توجد في الكتاب المقدس، ولكن من خلالها يتمّ التعبير عن المعاني التي تنقلها الكلمات الأخرى، مثل “الكمال“، “التمجيد“، وغيرها. لا يمكننا أن نجد كلمة هوموسيوس (المشارِك بالجوهر، المشارك بالطبيعة) أو غيرها من المصطلحات المماثلة في الكتاب المقدس. اعتمد الآباء هذه المصطلحات من الفلسفة، لأن الهراطقة في تلك الحقبة كانوا يستخدمونها. وقد أفرغها الآباء من المعنى الذي كان لها، وأعطاها معنى مختلفاً. هل يشكّل هذا، وفقاً لعلماء اللاهوت التحزريين، تغييراً في اللاهوت الأرثوذكسي والإكليسيولوجيا؟
ما فعله الآباء في ما يتعلق بالعقيدة طبّقوه أيضاً على ما يتعلق بمتطلبات العقيدة، وهو الهدوئية المقدسة، وتطهير القلب، والصلاة النوسية الداخلية، والمعاينة الإلهية، وغيرها. وكما أننا لا نستطيع أن نتّهم الآباء بتغيير “اللاهوت القديم” في ما يتعلق بعقيدة الثالوث الأقدس لأنهم استخدموا المصطلحات الفلسفية في عصرهم، كذلك لا يمكننا إلقاء اللوم عليهم لاستخدامهم بعض مصطلحات الفلسفة الأفلاطونية الحديثة، أو مجرد قبول المصطلحات التي استخدمها إفاغريوس البنطي ومكاريوس المصري. هذه ليست إكليسيولوجيا مختلفة ومعارضة، بل نفس الإكليسيولوجيا التي صيغت بمصطلحات تنقل بشكل أفضل التجربة التي عاشوها بأنفسهم الآباء المتألِّهون. في الواقع، استخدم آباء الكنيسة مصطلحات مختلفة من اللغة الفلسفية في عصرهم بهدف قلب آراء الفلسفة وآراء الهراطقة، كما سوف نرى في جزء آخر. كلّ مَن لا يستطيع أن يفهم الفرق بين الكلمات غير المخلوقة والكلمات والمفاهيم التي تمّ إنشاؤها، على ما اعتاد الأب يوحنا رومانيدس قوله، لا يمكن أن يفهم الحد الأدنى من اللاهوت الأرثوذكسي. إن خبرة مجد الله ليست هي نفسها صياغتها بكلمات.
عاش الآباء في عصر هيمنت فيه الفلسفة اليونانية وكان من الضروري بالنسبة لهم استخدام المصطلحات عصرهم للتعامل مع المسيحيين الهيلينيين. لو كانوا أحياء اليوم، لكانوا استخدموا مصطلحات عصرنا البشرية، أي لكانوا استخدموا مصطلحات من علم الحياة (الأب جون رومانيدس)، شريطة، بالطبع، أن لا يٌقضى على مصطلحات المجامع المسكونية أو تُقوّض.
وبقدر ما يمكن، فإن المصطلحات التي استخدمها الآباء وثبتتها المجامع المسكونية هي الآن حقيقة مفروغ منها. إنها جزء لا يتجزأ من التقليد. لا أحد قادر، باسم كنسية قديمة مزعومة، أن يقلبها وأن “يبطل الأسطورة التي فيها“. إن دراسات الأب يوحنا رومانيدس الأولى على آباء الكنيسة الرسوليين، وأيضاً على كتاب الصلاة في الكنيسة، تكشف أن التقليد الصحوي والنسكي هو الجزء الأكثر أهمية في التقليد الأرثوذكسي. إنه يظهِر الشروط المسبقة الحقيقية للعقائد الأرثوذكسية ومجمل حياة الكنيسة.
إن مفهوم التقليد الصحوي والهدوئي للتطهر والاستنارة والتمجيد موجود في الكتاب المقدس – بعهديه القديم والجديد – عندما يفسران مع المسلّمات الأرثوذكسية وليس بطريقة اللاهوت البروتستانتي التفسيرية. لقد قدمت مادة وفيرة حول هذا الموضوع في الكتب التي نشرتها من وقت لآخر. وسأقدّم هنا بعض الأمثلة.
التطويبات هي أول تعليم للمسيح، وهي تظهِر بالضبط ما هي الحياة الروحية، وتحافظ على كل السمات المميزة لتقليد الكنيسة الصحوي الهدوئي. تتحدث التطويبات عن فقر الروح كشرط مسبق لملكوت الله. عن الحزن الإلهي الذي يؤدي إلى التعزية؛ عن الوداعة كشرط مسبق لوراثة الأرض؛ عن الجوع والعطش إلى بِرّ المسيح الذي يجلب الشبع؛ عن الرحمة التي تجتذب رحمة الله؛ عن نقاوة القلب التي بها يعاين الإنسان الله؛ عن صنع السلام، لأنه بهذا يصير الإنسان ابن الله؛ عن الاضطهاد وقبول اللعنة من أجل بر الله، لأن هذا هو السبيل للحصول على الفرح والسعادة، والمكافأة في السماء (متى 5: 1-13).
مَن يدرس هذه التطويبات بعناية، وهي التي تشكّل في الواقع الطريق الكنسية الحقيقية إلى الحياة، يرى أن المسيحيين مدعوون بشدة إلى الحفاظ على وصايا المسيح، ولكن قبل كل شيء يلاحظ أن كل البركات العظيمة، أي معاينة الله، والمشاركة في مملكته، واختبار التبنّي كابنٍ، كلها مشروطة بحياة النسك، الذي هو التواضع، الحزن، الوداعة، نقاوة القلب واحتمال الاضطهاد والاستشهاد لمجد المسيح.
للتقدم من هناك، إذا درس الإنسان حدث تجلي المسيح على جبل ثابور ومشاركة التلاميذ الثلاثة في مجد النور غير المخلوق (متى 16: 28-17: 1-8)، إلى جانب ظهور المسيح القائم وخبرة سر العنصرة، يفهم ما يشكّل الحياة الروحية.
يشير الرسول بطرس في رسالته العامة إلى مجمل هذه الحياة الهدوئية التي على المسيحيين أن يعيشوها: “كَمَا أَنَّ قُدْرَتَهُ الإِلهِيَّةَ قَدْ وَهَبَتْ لَنَا كُلَّ مَا هُوَ لِلْحَيَاةِ وَالتَّقْوَى، بِمَعْرِفَةِ الَّذِي دَعَانَا بِالْمَجْدِ وَالْفَضِيلَةِ، اللَّذَيْنِ بِهِمَا قَدْ وَهَبَ لَنَا الْمَوَاعِيدَ الْعُظْمَى وَالثَّمِينَةَ، لِكَيْ تَصِيرُوا بِهَا شُرَكَاءَ الطَّبِيعَةِ الإِلهِيَّةِ، هَارِبِينَ مِنَ الْفَسَادِ الَّذِي فِي الْعَالَمِ بِالشَّهْوَةِ.” (2 بطرس 3:1-4).
على الإنسان أن ينأى بنفسه عن العقلية الدنيوية ويبلغ إلى الشركة مع الله. ويتابع الرسول بطرس إلى الإشارة إلى الإيمان المرتبط بالفضيلة والمعرفة وضبط النفس والصبر والقوة واللطف الأخوي والمحبة. من خلال هذه الأمور يصل الإنسان إلى معرفة المسيح. مَن يفتقر إلى هذه الأشياء “هو أَعْمَى قَصِيرُ الْبَصَرِ، قَدْ نَسِيَ تَطْهِيرَ خَطَايَاهُ السَّالِفَةِ.” (2 بطرس 5:1-9)
إنه يحثّ المسيحيين على السعي لتحقيق هدفهم: “لِذلِكَ بِالأَكْثَرِ اجْتَهِدُوا أَيُّهَا الإِخْوَةُ أَنْ تَجْعَلُوا دَعْوَتَكُمْ وَاخْتِيَارَكُمْ ثَابِتَيْنِ. لأَنَّكُمْ إِذَا فَعَلْتُمْ ذلِكَ، لَنْ تَزِلُّوا أَبَدًا. لأَنَّهُ هكَذَا يُقَدَّمُ لَكُمْ بِسِعَةٍ دُخُولٌ إِلَى مَلَكُوتِ رَبِّنَا وَمُخَلِّصِنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ الأَبَدِيِّ.”(2 بطرس 10:1-11).
في تحديد ما هو ملكوت الله هذا، يشير الرسول بطرس إلى ظهور مجد الله على جبل ثابور. هذا متميز بشكل واضح جداً عن الفلسفة، التي هي “خُرَافَاتٍ مُصَنَّعَةً“: “لأَنَّنَا لَمْ نَتْبَعْ خُرَافَاتٍ مُصَنَّعَةً، إِذْ عَرَّفْنَاكُمْ بِقُوَّةِ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ وَمَجِيئِهِ، بَلْ قَدْ كُنَّا مُعَايِنِينَ عَظَمَتَهُ. لأَنَّهُ أَخَذَ مِنَ اللهِ الآبِ كَرَامَةً وَمَجْدًا، إِذْ أَقْبَلَ عَلَيْهِ صَوْتٌ كَهذَا مِنَ الْمَجْدِ الأَسْنَى:«هذَا هُوَ ابْنِي الْحَبِيبُ الَّذِي أَنَا سُرِرْتُ بِهِ». وَنَحْنُ سَمِعْنَا هذَا الصَّوْتَ مُقْبِلاً مِنَ السَّمَاءِ، إِذْ كُنَّا مَعَهُ فِي الْجَبَلِ الْمُقَدَّسِ. وَعِنْدَنَا الْكَلِمَةُ النَّبَوِيَّةُ، وَهِيَ أَثْبَتُ، الَّتِي تَفْعَلُونَ حَسَنًا إِنِ انْتَبَهْتُمْ إِلَيْهَا، كَمَا إِلَى سِرَاجٍ مُنِيرٍ فِي مَوْضِعٍ مُظْلِمٍ، إِلَى أَنْ يَنْفَجِرَ النَّهَارُ، وَيَطْلَعَ كَوْكَبُ الصُّبْحِ فِي قُلُوبِكُمْ“(2 بطرس 16:1-19).
يبيّن هذا النص الرسولي بوضوح دعوة المسيحيين، ماهية ملكوت الله، وكيف يمكن اعتبار إنسان ما جديراً بهذه الثايوريا (المعاينة)، وبطبيعة الحال، أن هذه هي خبرة المجد غير المخلوق المتميّز عن أي نوع من الفلسفة، أفلاطونية أو أفلاطونية حديثة.
التقليد الهدوئي واضح في الإصحاح الأول من رسالة الرسول بطرس الأولى العامّة. كل المسيحيين مُحَضّون على توطيد أذهانهم، وأن يكونوا يقظين، وأن يضعوا رجاءهم بالكامل “النِّعْمَةِ الَّتِي يُؤْتَى بِهَا إِلَيْكُمْ عِنْدَ اسْتِعْلاَنِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ“. وكأولاد للطاعة، لا ينبغي بهم أن يتكيّفوا مع الرغبات التي كان لهم حين كانوا في الجهل، أي قبل المعمودية، بل أن يسلكوا بحسب دعوة الله القدوس، حتى أنهم أيضاً يتقدّسون في كل سيرتهم (1 بطرس 13:1-17).
وهنا أيضاً اختبار البركات العظيمة مشروط بتركيز العقل واليقظة الروحية والرجاء بالتمتع بالله، أي بعبارة أخرى، المعاينة الإلهية. بهذه الطريقة يصيرون قديسين. القداسة ليست أمراً مفروغاً منه يُعطى ميكانيكيا وسِحرياً، بل هي تفترض مسبقاً عمل الله وتعاون الإنسان.
هذه أمثلة قليلة من العهد الجديد، ولكن هناك وفرة من هذه المقاطع التي تظهِر المنظور الكامل لتطهير القلب، واستنارة النوس والمعاينة الإلهية. وبالتالي لم يكن الآباء بحاجة لتبني هذا التعليم من الأفلاطونية والأفلاطونية الحديثة. يمكن للإنسان أن يجد مادة وفيرة في رسائل بولس الرسول، على شاكلة واحد من النصوص التي كتبتها وعنوانه “الهدوئية والمعاينة الإلهية في رسائل بولس الرسول“.
ج) التقليد الصحوي–الهدوئي والآباء القديسون
نلتقي التقليد الهدوئي في جميع النصوص الآبائية. ليس هناك في الكنيسة أي أبٍ مختَبَر في الحياة الروحية ولا يشير إلى التطهّر والاستنارة والتمجيد. هذه ليست مسألة تأثر بالفلسفة الأفلاطونية والأفلاطونية الحديثة، بل بالتعبير عن خبرتهم الشخصية بعبارات عصرهم. في أي حال، كما ذكرنا أعلاه، في هذا الموضوع سجّل إفاجريوس البنطي التقليد الذي وجده بين رهبان فلسطين، وذلك باستخدام المصطلحات المعاصرة له. لذلك من التجديف النظر إلى الآباء على أنهم غير ناضجين روحياً بحيث أنهم تأثّروا بالفلسفة الأفلاطونية الحديثة. حتى لو كانوا قد تأثروا خارجياً بالعبارات، فإنهم في الواقع صاغوا كامل تقليد الكنيسة الصحوي الهدوئي بالكلمات التي تبنوها.
يشير القديس غريغوريوس اللاهوتي مرات عديدة إلى التطهر والاستنارة والتمجيد. لقد استشهدت سابقاً بعبارات قليلة له تبيِّن أن التطهر والاستنارة والتمجيد هي الطريقة التي لا غنى عنها للاهوت الأرثوذكسي، وبدون هذه الشروط المسبقة، هناك خطر البدعة. وهنا يجب أن أذكر عظته عن الكهنوت، التي فيها يبرر لماذا، عندما طُرِح عليه موضوع الكهنوت، تهرّب منه وانسحب إلى البنطس. فيقول من بين جملة أمور أخرى: “لقد تملّكني شوق شديد إلى بركة الهدوئية والاعتزال، وهي ما كنت أعشق منذ البداية“. ثم يذكر أنه كان يسعى إلى التطهر والاستنارة، لأن مهمة الكهنوت عظيمة، لأن “فقط مَن كان طاهراً وسلوكه كالمسيح يمكنه أن يستوعب ذاك الطاهر“. عليه أن يجعل خطابه مشرقاً “بنور المعرفة“، وكذلك نوسه وسمعته. ومن الخطورة على شخص ما أن يكون لاهوتياً ما لم تتطهّر هذه المَلَكات الثلاث “إذا لم يكن نوسه مستنيراً، أو خطابه ضعيفاً، أو سمعته غير نقية فهو غير مقبول“.
الأكثر إثارة للدهشة من كل ذلك هو حقيقة أن خطبة القديس غريغوريوس اللاهوتي هذه، وبصرف النظر عن الإشارة إلى التطهر والاستنارة والمعاينة الإلهية التي هي الخصائص الأساسية ليس فقط للاهوت الأرثوذكسي بل أيضاً للخدمة الكهنوتية، فهو يتحدث مطوّلا عن علاج الإنسان. فهو يصف التطهر والاستنارة ومعرفة الله على أنها شفاء البشر. يريد أن يكونَ الكاهنُ معالِجاً. يتمّ العلاج في الكنيسة من خلال الأسرار والنسك، وكل عمل التجسد الإلهي يهدف إلى شفاء البشرية. وعندما يتحدث عن العلاج، فإنه يحدده في عالم الإنسان الداخلي، أي قلبه. “إن كل العلاج والجهد اللذين نقوم بهما يتعلقّان بالإنسان الخفي للقلب، وحربنا موجهة ضد الخصم والعدو الذي في داخلنا، الذي يستخدمنا كأسلحته ضد أنفسنا، والأكثر إثارة للخوف من كل هذا، أنّه يسلمنا لموت الخطيئة “.
لتعريف الفضيلة، يقدّم القديس غريغوريوس النيسسي النبي موسى كنموذج الإنسان المثالي. في كتابه “حياة موسى” يتحدث عن التقليد الهدوئي الذي لا غنى عنه لمعرفة الله. انه يكيّف مع حالة البشرية الروحية كلّ ما حدث في العهد القديم أثناء ظهور الله على جبل سيناء. أمر الله موسى بوجوب أن يكون الشعب متطهراً من كل أشكال النجاسة. حتى الحيوانات غير العقلانية يجب أن تُبعد عن الجبل، ووحده موسى يجب أن يصعد. هذا هو تطهير النفس والجسد، وأيضاً هو إزالة الملابس الجلدية، التي هي قابلية الموت والفساد.
بالإشارة إلى ارتقاء الإنسان إلى معاينة الله، كتب القديس غريغوريوس النيسسي: “إن طريقه إلى هذه المعرفة هي الطهارة، ليس فقط طهارة جسده عبر طقوس الرش، ولكن أيضاً ملابسه، التي يتم غسلها من كل الأوساخ بالماء“. التطهير يشير إلى النفس والجسد معاً. “وهذا يعني أن مَن يقارب ثايوريا الأشياء الجليّة يجب أن يكون طاهراً من كل الأوجه، حتى يكون طاهراً وغير ملوّث في النفس والجسد، مغسولاً نظيفاً من النجاسة في كليهما، حتى نظهر أطهاراً أمام الذي يرى ما هو مخفي…” إنه يوضح أن مَن يريد أن يرتقي إلى الثايوريا عليه أولاً تطهير سلوكه من كل ميل حسّي وغير عقلاني وتطهير نوسه من كل رأي تشكّل داخله بأي تحامل، ويجب أن يفصل نفسه عن حس الإدراك الذي يرافقه باستمرار. متى تطهّر من هذا، يستطيع التجرؤ على ارتقاء جبل المعاينة الإلهية، كما فعل موسى.
متابعاً هذا التفسير، يقول: “إنّ مَن تطهّر نوسه واكتسب قلبه سمعاً حاداً” يسمع صوت القوة الإلهية التي تأتي من معاينة الكائنات، يدخل إلى خيمة غير مصنوعة بيدين ويكتسب المعرفة الإلهية، الذي يظهره فيما بعد لأولئك الذين دونه “عن طريق تشابه المادة“، من خلال الخيمة المصنوعة باليد. هذا إشارة واضحة إلى المعاينة الإلهية بكلمات لا توصَف، بعد التطهّر والاستنارة، والتعبير بهذه الكلمات التي يُنطَق بها باستخدام كلمات ومفاهيم وصور مخلوقة.
للقديس مكسيموس المعترف، أبي الكنيسة العظيم الذي لعب دوراً حاسماً في حياة الكنيسة، كلام مهمّ: “المعرفة بدون تجربة … هي بالتأكيد لاهوت الشياطين“. هذا يعني أن اللاهوت هو نتيجة استنارة النوس ومعاينة الله، عندما يكشف الله نفسه للمتألّهين، لأولئك الذين عبروا بتطهّر القلب. ونتيجة لذلك، اللاهوت الذي ليس نتيجةً وانعكاساً لخبرة النوس واستنارته وللحياة العملية التي هي التطهر من الأهواء، هو لاهوت الخيال، الذي هو شيطاني بالتأكيد.
من هذا المنظور يفسّر القديس مكسيموس المعترف كتابات القديس ديونيسيوس الأريوباغي ويتحدث عن تدرجات المؤمنين الثلاثة، وفئات المخلَّصين الثلاثة. هذا هو التعليم النسكي عند القديس مكسيموس المعترف الذي نجده في كل كتاباته. إنه يشير إلى الاستيعاب الشخصي للخلاص ويقسمه إلى ثلاثة أجزاء، أي “الفلسفة العملية” أو الخبرة؛ “الثايوريا الطبيعية” أو الثايوريا؛ و“اللاهوت الصوفي” أو اللاهوت. الفلسفة العملية، التي لها جانب سلبي وآخر إيجابي، تطهّر الإنسان من الأهواء وتزيّنه بالفضائل. الثايوريا الطبيعية تنير النوس بالمعرفة الحقيقية. واللاهوت الصوفي يتوّجه بأعلى تجربة، التي يسمّيها القديس ماكسيموس المعترف الابتهاج الغامر (ecstasy). وهكذا يشير تعليم القديس مكسيموس إلى درجات حياة النسك المسيحي الثلاث: المرحلة العملية، مرحلة الثايوريا، ومرحلة اللاهوت الصوفي. كما أنه يتحدث عن التقسميات الثلاث بين المسيحيين الذين يخلصون. في بعض الأحيان يشير إليهم بالمؤمنين، الفاضلين وأصحاب المعرفة الروحية، وأحياناً بالخدّام، الأجراء والأبناء.
القديس سمعان اللاهوتي الحديث، أب النور غير المخلوق، الذي استنار بخبرة الملكوت السماوي ومعاينة النور غير المخلوق، غالباً ما يشير في أعماله إلى تقدم الإنسان من التطهّر إلى الاستنارة والتمجيد. أحد أعماله الذي يلخّص لاهوته بأكمله عنوانه “الفصول العملية واللاهوتية“، لأن الخبرة هي تطهير القلب من الأهواء، أما اللاهوت فيشير إلى استنارة النوس ومعاينة النور غير المخلوق.
يقول في مقطع مميز أن الإيمان، ومخافة الله وحفظ الوصايا تجلب المكافآت “بما يتناسب مع الطهارة“. “وبقدر ما نحن متطهرون، نرتفع من مخافة الله محبته“. نحن نتحرّك من مخافة الله “تدريجياً” إلى محبته. من ثم يحبنا المسيح والآب “ويتقدمنا الروح القدس ليعدّ مكان سكن“. وهكذا “بالوحدة الساكنة في الأقانيم نصبح مسكن الآب والابن والروح القدس“.
في حديث توجّه به القديس سمعان اللاهوتي الحديث لرهبانه عبّر عن فرحته في رؤية التقدم في حياتهم “فيما تتقدمون في الإيمان والطهارة وخوف الله والتقوى والتوبة والدموع، التي بها يتطهّر الإنسان الداخلي ويمتلئ بالنور الإلهي، ويصبح بالكامل مقتنى من الروح القدس في نفس تائبة وفكر بسيط. ويصير فرحي بركةً لكم وازدياداً في الحياة المباركة التي لا تفنى في المسيح يسوع ربنا.”
نجم الكنيسة العظيم، القديس غريغوريوس بالاماس أثبت بلاهوته أن التقليد الهدوئي بتمامه هو شرط مسبق للتجربة الروحية لله ومعرفته. وهذا واضح من مقالته في الدفاع عن الهدوئية المقدسة، التي بها دمّر كل حجج السكولاستيكية الغربية، التي كان يرلعام يمثّلها، وأيضاً حجج كل البرلعاميين عبر العصور، الذين يريدون الإطاحة بإكليسيولوجيا آباء الكنيسة وبلاهوت وإكليسيولوجيا المجامع المحلية والمسكونية. ومن المثير للدهش أنه عندما أصبح مطراناً على تسالونيكي، وضع كلّ هذا التقليد الهدوئي المقدس في العظات التي ألقاها على قطيعه. هناك وفرة من المواد حول هذا الموضوع [وهي موجودة في نصوص أخرى ولا حاجة إلى تكرارها هنا]. والشيء الأكثر أهمية هو أن تعليم القديس غريغوريوس بالاماس الهدوئي عن المعاينة الإلهية ثبتته المجامع التي عُقِدَت في وقته، ولا سيّما مجمع 1351، الذي يُعتَبَر المجمع المسكوني التاسع.
من الواضح أن كلّ آباء الكنيسة المذكورين أعلاه، وكثيرين آخرين، يتحدثون عن التطهر والاستنارة والتمجيد، وعن الهدوئية المقدسة كشرط مسبق لا غنى عنه للنطق باللاهوت بطريقة أرثوذكسية. ولذلك فإن آراء لاهوتيي التخمين المتأثرين بالبروتستانتية الذين يزعمون أن الآباء تأثّروا بالنظريات الأفلاطونية الحديثة وغيّروا التقليد الذي سبقهم هو إهانة لهم. لقد كان كل هؤلاء الآباء على بيّنة من كونهم خلفاء الآباء القديسين في طريقتهم بالتفكير كما بطريقة حياتهم.
بالتأكيد، يبدو أن هناك تشابه خارجي في المصطلحات بين الآباء و الأفلاطونيين الحديثين، ولكن هناك فرق أساسي بينهما. إن تعليم الأفلاطونيين والأفلاطونيين الحديثين يشير إلى إله لا يحبّ الإنسان، لأن الحب عنده هو رغبة النفس الخالدة بطبيعتها بالعودة إلى عالم المُثُل غير المتجدد الذي سقطت منه. على النقيض من ذلك، يتحدث الآباء عن محبّة الله للإنسان.
إن نظرية الأفلاطونيين والأفلاطونيين الحديثين تقيم تمايزاً بين النفس الخالدة بطبيعتها والجسد المائت بطبيعته، وهو ما يعني أن النفس كانت تنتمي في السابق إلى عالم المُثُل غير المتجدد، وانحرفت عنه، لذلك تم إرفاقها في الجسد كعقاب. إذ تجد النفس نفسها في الجسد تسعى إلى التحرر والعودة إلى عالم المُثُل. وبالتالي، وفقاً للأفلاطونيين و الأفلاطونيين الحديثين، فإن تطهّر النفس هو في نفيها من الجسد؛ واستنارة النفس هي معرفة نماذج الكائنات أي الأفكار؛ وخلاص النفس هو الابتهاج الغامر وتحررها من الجسد.
لا تحمل هذه النظرة الأفلاطونية الحديثة أي علاقة بتعليم آباء الكنيسة، الذي بحسبه النفس هي خليقة الله وقد خُلِقَت من العدم مباشرة عند خلق الجسد. الجسد ليس سجناً للنفس، بل الله خلقه بطريقة إيجابية. إن الاستنارة هي الصلاة القلب النوسية، بعمل الروح القدس، وهي تتمّ داخل القلب، أي في الجسد. ليس الابتهاج الغامر رحيل النفس من الجسد بل تحررها من العقلية الجسدانية. أمّا التمجيد فليس عودة النفس إلى عالم المُثُل غير المتجدد، بل بالشركة مع الله والمعاينة الإلهية.
في خبرة الأفلاطونيين الحديثين لا يشارك الجسد البشري في رحلة النفس إلى الله. وهناك أيضاً يُشار إلى خبرة النور، لكنه نور يبقى منفصلاً وخارج الإنسان. إن له مكان ولون، وفي نهاية المطاف هو ضوء شيطاني. ومع ذلك، بحسب آباء الكنيسة، الاستنارة والمعاينة الإلهية هما اختبار للنور غير المخلوق. يشترك الإنسان في النور الإلهي ويختلط معه. لا تتحوّل النفس لوحدها بل ومعها الجسد أيضاً.
إذاً، إن خبرة الرواقيين والأفلاطونيين الحديثين ترتبط بالابتهاج الغامر بمعنى رحيل النوس “من الزمن والمسافات وتعاقبات الفكر المرتبة“. ومع ذلك، بحسب الآباء، إن هذه الخبرة شيطانية، كما يقول الأب يوحنا رومانيدس. وبعبارة أخرى، يسعى الأفلاطونيون الحديثون إلى التحرر من أوجه قصور الفكر الإنساني، من الأشياء المخلوقة والمتغيّرة، في حين أنه في لاهوت الآباء، يشارك الإنسان بكليّته في خبرة التمجيد.
عندما يتحدث إفاغريوس البنطي عن نوس متحرر من الخيال والصور خلال الصلاة، هذا لا يعني لاهوت الأفلاطونيين والأفلاطونيين الحديثين السلبي. بل هو بشكل أساسي وسيلة لدحض نظرية الأفلاطونيين والأفلاطونيين الحديثين حول ما يسمى عالم المُثُل وعودة النفس إليه، ومعرفة نماذج الكائنات. الروح البشرية ليست نسخة من الأفكار. وعندما يتحدث القديس مكاريوس المصري عن عودة النوس إلى قلب الإنسان من تشتته في عالم الحواس – وهذا ما طوّره القديس غريغوريوس بالاماس لاهوتياً– إنما يقول ذلك لدحض نظريات الأفلاطونيين والأفلاطونيين الحديثين حول أن الجسد الميت بطبيعته هو سجن للنفس الخالدة بطبيعتها. یرید القديس مكاريوس أن یظھر أن الجسد هو خليقة إیجابية من االله وهو يتألّه مع النفس وسوف يُقام في المجيء الثاني للمسيح.
وعليه، من غير العادل وغير العلمي وغير التقليدي أن يساوى التعليم عن النوس المتحرر من الصور والخيال وعودة النوس إلى القلب بنظريات الأفلاطونيين والأفلاطونيين الحديثين، لأن تعليم الآباء يضحد هذه الآراء. من الواضح أن الآباء ومعلمي الكنيسة استخدموا هذا النوع من المصطلحات بهدف التعامل بفعالية مع آراء الهراطقة.
يقول القديس غريغوريوس بالاماس، في شرح تقليد الكنيسة الصحوي الهدوئي ومواجهة عقلية برلعام السكولاستيكية، أن الحكمة والفلسفة البشريتين هما عكس المعرفة الروحية. في الواقع، إنه يعلن أنّ كل البدع نشأت من الحكمة والمعرفة البشريتين، أي الحكمة الدهرية. “إذا تفحّصت المشكلة، فسوف ترى أنّ كلّ البدع المؤذية أو أكثرها تستمد مبادئها من هذا المصدر“. لقد استخدم الهراطقة مبادئ الفلسفة، في حين أن الآباء نطقوا باللاهوت من اختبارهم لله. وقد مكّنتهم نعمة الله غير المخلوقة وعاينوا الله، لا الأشياء المخلوقة والأوهام الشيطانية.
من المؤكد أن الآباء استخدموا مصطلحات عصرهم للتعبير عن خبراتهم، ولكنهم أعطوا معنى وأهمية مختلفين. لهذا السبب يكتب القديس غريغوريوس بالاماس: “إذا نطق أحد الآباء بشيء مطابق لما يقوله مَن هم خارجاً، فالمسألة مجرّد كلمات؛ في ما يتعلق بالمعاني هناك فرق كبير، لأن للآباء فكر المسيح، في حين أن الذين في الخارج، “يتكلمون من الفكر البشري“. ويذكر كلمات النبي إشعياء (55: 9) “لأَنَّهُ كَمَا عَلَتِ السَّمَاوَاتُ عَنِ الأَرْضِ، هكَذَا عَلَتْ طُرُقِي عَنْ طُرُقِكُمْ وَأَفْكَارِي عَنْ أَفْكَارِكُمْ“.
هذا المقطع يبيّن أنه عندما نرى الآباء يستخدمون نفس المصطلحات كالفلاسفة، لا ينبغي أن نفترض أنهم يقولون نفس الأشياء. فقط الكلمات المنطوقة مشتركة في ما بينهم، في حين أن المعنى مختلف جداً. هذا أمر طبيعي، لأن للآباء فكر المسيح، في حين أن الآخرين يتكلّمون، في أحسن الأحوال، من فكرهم البشري، وفي أسوأ الأحوال (“ما لم يكن هناك أسوأ“)، من الطاقة الإبليسية الشيطانية.
كلام القديس غريغوريوس بالاماس هذا يوجّه ضربة لأولئك الذين يؤكدون أن الآباء قد غيّروا “الإكليسيولوجيا البدائية” وأنهم يعبّرون عن التقليد الأفلاطوني الحديث. كل من ينشر مثل هذه النظريات يدلّ على أنه لا يعرف تعليم الآباء، بل معرفته سطحية خارجية، أو أنه يسيء فهمهم عن إدراك بطريقة بروتستانتية. في هذه الحالة إنه لا يشوّه الآباء وحسب بل أيضاً كل الكنيسة التي تبنّت تعليمهم مجمعياً في عبادتها.
هنا ينبغي إضافة كلام هام آخر للقديس غريغوريوس بالاماس. بالإشارة إلى أنواع الإلحاد الثلاثة، يضمّن القديس في إحدى هذه الفئات اللاهوتيين الذين ينكرون تعليم آباء الكنيسة القديسين أو يقللون من تقديره، فيكتب: “إن عدم الشك في الآباء المتوشحين بالله هو تقوى صحيحة“. ويشير إلى تعليم القديس ديونيسيوس الأريوباغي، الذي يدعوه عظيماً، كما تعاليم القديس أثناسيوس الكبير، القديس باسيليوس الكبير والقديس غريغوريوس اللاهوتي ويقول معلّقاً: “إن التعاليم اللاهوتية للقديسين المذكورين آنفاً هي تعريف وقانون لتقوى الله الحقيقية، وكل واحد منهم يكمّل، كما هو، السور والجدار اللذين يحميان التقوى ملتفّين حولها. لأنه إذا أزال أحد ما واحدة من هذه التعاليم اللاهوتية، فإن حشداً كبيراً من الضلال الهرطوقي سوف يفيض من هناك.”
يتحدث هذا المقطع عن التقوى الحقيقية وتوقير الله، وهو ما يتفق تمامًا مع تعاليم الآباء القديسين، الذين تعليمهم اللاهوتي هو تعريف للإخلاص الحقيقي، وقاعدة وحاجز للحماية. إلى هذا، يقول أنه عندما يرمي أحدهم تعليماً آبائياً واحداً، يحلّ “حشد الضلال الهرطوقي“… وبالتالي، فإن التشكيك في تعليم القديس ديونيسيوس الأريوباغي والقديسين الأكثر حداثة يشكّل قلة احترام وانحرافاً عن التقليد الأرثوذكسي، وينتهي بالإلحاد، لأنه إنكار لإله آبائنا.
ه) التقليد الصحوي – الهدوئي والمجامع المسكونية
لقد اعتُمِد التقليد االهدوئي بقرارات المجامع المحلية والمسكونية وهو لاهوت كنسي موهوب. العقائد هي سجل اختبار الوحي، وترتبط القوانين بتعزيز وحدة الكنيسة، كما أنها تظهِر أيضاً متطلبات اختبار الوحي، ولا سيما تلك القوانين التي تعالج تنظيم توبة المسيحيين. يظهر كامل لاهوت المجامع المحلية والمسكونية في المجمع المسكوني الخامس – السادس، وخاصة في “كلمة الافتتاح” والقانونين 1 و 102.
كان للقديس غريغوريوس بالاماس دور قيادي في مجامع الهدوئية في القرن الرابع عشر (1341، 1347، 1351، 1368)، حيث حمل لاهوته الهدوئي كجوهر لاهوت جميع الآباء القديسين الأرثوذكسيين. هذه المجامع ثبّتت الهدوئية كشرط مسبق للقداسة والتألّه، كما صاغت عقائد عن لاهوت المشاركة في قوة الله المؤلِّهة غير المخلوقة. عندما يدرس المرء هذه المجامع، وخاصة مجمع 1351 الذي قبل قرارات المجمعين السابقين (1341، 1347) وهو يستوفي جميع متطلبات وصفه بالمجمع المسكوني التاسع، يدرك أن تقليد الكنيسة الصحوي الهدوئي العظيمة هو الحياة الإنجيلية والكنسية الأصيلة.
مَن يقرأ بعناية محاضر وقرارات مجمع 1351 يميّز بوضوح أن له كل صفات المجمع المسكوني، بما فيها واقع اعتنائه بمعالجة قضية عقائدية خطيرة، كتكملة لمجمعين المسكونيين الرابع والسادس؛ وأن الأباطرة وقعوا المحاضر وأن آباء المجمع أنفسهم يطلقون عليه اسم “مجمع مقدّس إلهي“. لهذه الأسباب تمّ وصفه بالفعل على أنه المجمع المسكوني التاسع. إن محاضر هذا المجمع تجعل النقاط التالية واضحة بشكل خاص:
أولاً، تم تضمين محاضر مجمعي 1341 و 1347 وبهذا اكتسبا السلطة المسكونية. يرد في محاضر مجمع 1351: “… وبعد النظر في ما سبق ذكره ودراسته بطريقة دقيقة ومناسبة، وبعد تأكيد محاضر المجامع السابقة على أنه غاية في التقوى، أو بالأحرى على ضوء هذه المحاضر…” وبالتالي، فإن تُعتَبَر جميع هذه المجامع مجمعاً واحداً، وبطبيعة الحال، أدانت هذه المجالس وجهات نظر برلعام ومن بعده أكيندينوس وغريغوراس البرلعاميين.
ثانياً، يعتبر المجمع نفسه استمراراً للمجامع المسكونية السابقة، ولا سيما المجمع المسكوني السادس، الذي أعلن أن للمسيح إرادتين: إرادة إلهية وإرادة إنسانية. وهكذا، فقد ذكر المحضر المجمعي: “وقد ثبت هذا أيضاً إذ قد أعلنه القديسون بوضوح، برئاسة المجمع المسكوني المقدس، كما تمّ بالفعل إثباته بشكل كافٍ من خلال الإعلانات الخاصة التي تمّ إيرادها“. في الواقع، برلعام وومَن يشاركه عقليته، الذين يتحدثون عن قوة الله المخلوقة، يُوصَفون بأنهم أسوأ من أصحاب الإرادة الواحدة: “وهنا يظهر بوضوح أن هؤلاء أسوأ بكثير من أولئك [أي أتباع المشيئة الواحدة]”،” أسوأ وأكثر فظاعة“، لأن أصحاب المشيئة الواحدة أكدوا أن هناك في المسيح إرادة واحدة وقوة واحدة ولكنهم اعتبروا أن هذه القوة غير مخلوقة، في حين أن البرلعاميين يعتبرون أن في المسيح إرادة واحدة وقوة واحدة، ولكن من الواضح أنهم يقبلون أن هذه القوة مخلوقة“.
ثالثاً، تسجل المحاضر آراء برلعام وأكيندينوس وغريغوراس الهرطوقية والتي تتعلّق بالقوة غير المخلوقة ومشاركة القديسين المتألّهين في القوة غير المخلوقة. والشيء المهم هو أن مجمع 1351 أكّد أيضاً قرارات المجامع السابقة التي تشير أيضاً إلى الهدوئية المقدسة، وهي شرط مسبق لا غنى عنه لرؤية قوة الله غير المخلوقة. وهذا يعني أن هذه القرارات لا تشير إلى طبيعة النور غير المخلوق وحسب، ولكن أيضاً إلى الهدوئية المقدسة، الشرط الأساسي لرؤية النور غير المخلوق.
في المحاضر أن بارلام هاجم بشدة الآباء القديسين، “الذين تطهرت قلوبهم بوصايا الله” والذين يتلقّون إضاءات إلهية سرياً وبشكل لا يوصَف. كما هاجم بعنف “الرهبان الذين يعيشون في الهدوئية“. لقد شوّه برلعام وأدان كتابةً “العديد من عادات الهدوئية” وحتى انه هاجم صلاة الهدوئيين المعتادة، وصلاة جميع المسيحيين، وصلاة “أيها الرب يسوع المسيح، ابن الله، ارحمني“.
يشير المجمع إلى العلاقة بين الهدوئية والصلاة ومعاينة النور غير المخلوق، الذي هو ملكوت الله نفسه. هناك مقطع مميز: “الهدوئية هي أمّ الصلاة. الصلاة هي ظهور المجد الإلهي. عندما نغلق حواسنا ونبدأ بالحوار مع أنفسنا ومع الله، ونحرر أنفسنا من تشوش العالم الخارجي، ندخل في أنفسنا، فسوف نرى بوضوح في أنفسنا ملكوت الله. «لأن ملكوت السماوات، الذي هو ملكوت الله، في داخلنا»، كما أعلن يسوع إلهنا“. ومن الواضح إذن أن معاينة ملكوت الله والخبرة الأخروية التي تبدأ في هذه الحياة ترتبط ارتباطاً لا انفصال له بالهدوئية. فالهدوئية ليست شيئاً دخيلاً على حياة الكنيسة في وقت لاحق، تحت تأثير الأفلاطونية الحديثة، وتخطى كما يُزعَم إكليسيولوجيا الكنيسة الأولى، التي كانت تقوم على الإفخارستيا الإلهية والشعور بملكوت الله. فالهدوئية على عكس ذلك هي الشرط المسبق لمعاينة النور غير المخلوق، كما أكّد “مجمع 1351 الإلهي المقدس“.
لقد اعتمد برلعام على الفلسفة بشكل كبير بدلاً من اتباع تعليم الأنبياء والرسل والآباء. فاعتبر أن نور الألوهية الذي أضاء على جبل ثابور لم يكن غير مقتَرَب منه ولا هو حقاً نور الألوهية، ولا كان أكثر قداسة من نور الملائكة، “بل هو دون فهمنا الخاص وأدنى منه“. وبعبارة أخرى، اعتبر برلعام أنّ “كل المفاهيم والحقائق العقلية تفوق هذا النور نبلاً“.
رابعاً، توثّق المحاضر كل هذا اللاهوت في نصوص الكتاب المقدس – العهدين القديم والجديد – وفي تعليم آباء الكنيسة القديسين، كالقديس أثناسيوس الكبير، القديس باسيليوس الكبير، القديس غريغوريوس اللاهوتي، القديس غريغوريوس النيسسي، القديس يوحنا الذهبي الفم، القديس ذياذوخوس فوتيكي، القديس ديونيسيوس الأريوباغي، القديس مكسيموس المعترف، القديس يوحنا الدمشقي، القديس أندراوس الكريتي وآخرين غيرهم. تشير الاقتباسات من الرسل والآباء القديسين إلى الهدوئية المقدسة، والصلاة النوسية في القلب، واليقظة النوس الروحية، طهارة القلب، والصلة بين الهدوئية المقدسة وأسرار الكنيسة، معاينة النور غير المخلوق، والمشاركة في ملكوت الله. وبهذه الطريقة يثبت بشكل لا جدال فيه أن الاختبار الأخروي الوحيد لملكوت الله هو المشاركة من خلال الهدوئية المقدسة في مجد الله غير المخلوق، الذي هو معاينة النور غير المخلوق.
خامساً، أكد مجمع 1351 أحكام القطع العادلة التي أعلنتها المجامع السابقة ضد برلعام وأكينذينوس، لأنهما لم يتوبا. أولئك الذين “يشابهانهما بالفكر وبكل بساطة كل الذين انتموا إلى فصيلهم” عوقبوا “كمروزين ومرفوضين من كنيسة المسيح الجامعة الرسولية“، إلا إذا غيّروا اعتقاداتهم. كما فرضت حكم الفصل وجرّدت الكهنة “من كل الوظائف الكهنوتية“، إذا تشاركوا عن علم مع هؤلاء الهراطقة. وبالإضافة إلى ذلك، فإن كلّ مَن يشالهدوئيين والقديس غريغوريوس بالاماس في المستقبل هو مدان. وفيما يتعلق بالموضوع الذي يهمنا، فإن قرارات مجمع 1351 تثبّت الإدانة السابقة.
“ولكن إذا وجد في أي وقت شخص آخر يفكّر أو يقول أو يكتب نفس الأشياء ضد أسقف ثيسالونيكي الأكثر المقدسة [يرد في قرارات مجمع 1347:” الكاهن الراهب الأكثر جدارة غريغوريوس بالاماس والرهبان معه“] أو بالأحرى، ضد اللاهوتيين القدّيسين وهذه الكنيسة، فنحن نصوّت بنفس الأشياء ضده ونضعه تحت نفس الإدانة [التجريد من الكهنوت والحرم]، سواء كان كاهناً أو علمانيا ًعادياً“.
واضح من هذا المقطع أنّ الكنيسة اعتمدت مجمعياً كامل تعليم القديس غريغوريوس بالاماس والهدوئيين عن قوة الله غير المخلوقة والنور على ثابور، ولكن أيضا حول الهدوئية المقدسة. إذن، هذا ليس تعليم القديس غريغوريوس بالاماس بل تعليم الأنبياء والرسل والآباء، والكنيسة نفسها. ليس فقط في ذلك الحين بل أيضاً في المستقبل (“في أي وقت“) أي شخص يفكر أو يتكلم أو يكتب ضد هذه الأشياء، أي شخص ينكر الهدوئية المقدسة، المعاينة الإلهية وقوة الله غير المخلوقة، سواء كان واحداً من الكهنة أو العلمانيين، هو عرضة لنفس الطرد والحرم تماماً كما جرى لمعادي الهدوئية المعاصرين للقديس غريغوريوس بالاماس.
تظهِر هذه المحاضر بوضوح مطلَق أن الذين يدّعون أن آباء الكنيسة من القرن الثالث فصاعدا تأثروا ب“إكليسيولوجيا” أفلاطونية “حديثة” ويزعمون أنّ إفاغريوس البنطي ومكاريوس المصري اكتشفاها وقدّماها، وكلاهما أثّر في وقت لاحق في الآباء اللاحقين، بشكل أدّى إلى رفض إكليسيولوجيا الإفخارستيا وملكوت الله البدائية والتغاضي عنها، هم في الواقع يعبّرون عن البدعة المُدانة من عند برلعام وأكيندينوس وغريغوراس. هم بالتأكيد برلعاميون، وهذا له عواقب وخيمة.
و) تقليد الفيلوكاليا
بعد المجامع الهدوئية في القرن الرابع عشر، فإن التقليد الهدوئي كله، والذي كانت الكنيسة قد تبنّته مجمعياً وأكّدت على أنه كطريقة حياة إنجيلي حقيقي، كنسي وآبائي، بحاجة إلى تدوين. وهكذا بدأ تجميع النصوص المختلفة وأخيرا تم تصنيف فيلوكاليا للقديسين الصحويين. هذا لم يغفل الأسرار، ولكنه سجّل المتطلّبات الكنسية الحقيقية للاشتراك بالنعمة من خلالها.
لقد جمع افيلوكاليا ونشرها القديس مكاريوس نوتاراس أسقف كورنثوس والقديس نيقوديموس الأثوسي. وتظهِر المقدمة التي كتبها القديس نيقوديموس الأثوسي، قيمة الفيلوكاليا الكبيرة إذ تحتوي على نصوص تبيّن للناس الوسيلة لاكتشاف نعمة المعمودية المقدسة والميرون. هذه النعمة موجودة في قلب المسيحيين المعمّدين، ولكن الأهواء تخفيها في الكثيرين منهم.
من الواضح أن فيلوكاليا القديسين الصحويين تحوي طريقة الإيمان الأرثوذكسي، وهي الهدوئية المقدسة. وترتبط هذه الطريقة ارتباطاً وثيقاً بأسرار الكنيسة – المعمودية، الميرون، المناولة الإلهية المقدسة– وتظهِر للناس طريق الوصول إلى التألّه. ويترتب على ذلك أن الأسرار والهدوئية ترتبطان ارتباطاً وثيقاً معاً. لذلك فإن مَن يقلّل من قيمة الفيلوكاليا، ويتحدث عنها بشكل مهين هو في الواقع يقوض كامل تعليم الكنيسة عن النسك، والذي تم تأكيده مجمعياً.
ز) اللاهوت الصحوي، أسرار الكنيسة وعبادتها
دخل التقليد الهدوئي كله إلى صلوات أسرار الكنيسة، خدمها المقدسة وعبادتها. ومن المعروف أن الكنيسة وضعت كل لاهوتها حول الأسرار في الصلوات التي تُتلى فيها. هذه الصلوات تظهر بوضوح هدف الأسرار وما هي الشروط المسبقة هي لاختبار هذا الهدف. والهدف من ذلك هو التقديس، والتألّه ومعاينة النور، والشروط المسبقة هي التوبة والتقليد الكنيسة الهدوئي بمجمله.
مَن يقرأ خدمة “الصلاة على الموعوظ” يفهم الهدف من تعليم الموعوظين: “أبعِدْ منه كل روح شرير نجس مخفي ومعشش في قلبه“. “انزعْ عنه العتاقة، وجدده للحياة الأبدية، واملأه من قوة روحك القدوس للاتحاد بمسيحك“.
هذا يشير إلى خروج الشيطان بنعمة الله من أعماق قلب الإنسان المُقبِل على المعمودية، ومن كيانه المملوء بقوة الروح القدس، حتى يتّحد بالمسيح ويصير عضواً في جسده القائم.
تشير صلاة المعمودية إلى نداء المسيح العظيم وتذكّر بتعليم الرسول بولس: “امنح المعتمد فيه [الماء] أن يستحيل بخلعه الإنسان العتيق المنفسد بشهوات الخديعة وبلبسه الإنسان الجديد المتجدّد على صورة خالقه“. إن صلاة مباركة الماء الذي فيه سيعتمد الموعوظ لكي يصير مسيحياً تحتوي الكلمات الهامة التالية للمتقدم إلى المعمودية: “وإذا حفظ موهبة روحك القدوس وأنمى وديعة النعمة نال جائزة الدعوة العلوية وانضمّ إلى عدد الأبكار المكتوبين في السماء“. في صلاة تغسيل المعمود يقول: “أيها الرب… سرَّ مرتضياً أن تظلّ استنارة وجهك مشرقة في قلبه على الدوام“. هذه وغيرها من الطلبات إلى الله تتطلّب الجهاد مدى الحياة في التقليد الهدوئي الصحوي. من خلال المعمودية المقدسة، الله الثالوث يعطينا “التنقية المباركة“، ومن خلال المسح بالميرون المحيي يمنحنا “ختم موهبة الروح القدس المسجود له والقادر على كل شىء“.
يوجد مقطع مميز جداً من خدمة اقتبال الأرثوذكسي الجاحد المرتدّ إلى الإيمان الأرثوذكسي: “فأَنِر ذهنه بقوة وفعل الروح القدس، حتى أن شرارة المعمودية الخلاصية الباقية في نفسه تلتهب عقلياَ بنسمات النعمة، والختم المرسوم فيه يتّضح بالأكثر في قلبه وفي أفكاره، بعلامة صليب مسيحك، للرجاء بك ولمعرفة الحق، لكي يعرفك ويسجد لك أنت وحدك الله الآب وابنك الوحيد، ربنا يسوع المسيح وروحك القدوس“.
يقرأ البطريرك المسكوني صلاة تعبيرية جداً لتقديس الميرون المقدس الذي به يتم سر المسحة: “أرسل روحك القدوس وقدّس هذا الميرون. اجعله زيتاً للابتهاج بالروح القدس، ميرون التجديد، ميرون التقديس، والمسحة الملكية، ترس البر، لضحد كل القوى الشيطانية، ختماً سلامياً ، سعادةً للقلب وفرحاً أبدياً. أمّا الممسوحون فاجعلهم لامعين كمثل كوكب السماء، من دون بقعة أو عيب، وليُستَقبَلوا في أماكن الراحة الأبدية، ويحصلوا على مكافأة الدعوة العلوية“.
إن سر المسحة، الذي يقام بالميرون المقدس، مرتبط بتجدد البشر. إنه رداء ملكي، منع لكل القوى الشيطانية، وختم لا يمكن تعويضه وسعادة للقلب. إنه ينير نفس الإنسان ويعطيه مكافأة من الدعوة العلوية. إن صلاة تكريس الهيكل المقدس هي أيضا مهمّة. عندما يصلي الأسقف إلى الله لتدشين مبنى الكنيسة، في الوقت نفسه يلتمس الله تجديد البشر في مكان قلبهم: “وأن ترسل روحك الكلي قدسه علينا وعلى ميراثك وحسبما يقول داود النبي روحاً مستقيماً جدد في قلوبنا وبروح رئاسي اعضدنا.”
وفي صلاة تجديد بناء كنيسة حتّى يصير فيها المؤمنون مشاركين بالروح القدس وحتى تقدّم التقدمات النوسية في أعماق قلوبهم من خلال تطهير نوسهم: “… احفظها (الكنيسة) إلى آخر الزمان وجددها بروحك القدوس، حتّآ أننا فيها نقدّم لك القرابين غير الدموية ونصير مشاركين بالروح القدس ونتجدد في دواخلنا ونتقوّى في ملكة عقولنا، وامنحنا أن نقدّم لك سرياً أيها الإله الرب، القرابين العقلية من خلال تطهير النوس“. هذه إشارة واضحة إلى الكهنوت الروحي، إلى طقس حلول النوس في القلب عن طريق تطهير القلب الذي هو جوهر اللاهوت الصحوي.
عند قراءة صلوات الاشتراك في جسد المسيح ودمه، الموجودة ضمن صلوات القداس الإلهي، كما في صلاة الاستعداد للمناولة، يجد كل الممارسة الهدوئية كشرط مسبَق للمناولة. إحدى الصلوات النموذجية: “أيها السيد المحب البشر، إيّاك نودع حياتنا كلّها ورجاءنا، ونطلب ونتضرّع ونسأل أن تؤهّلنا لأن نتناول بضمائر نقيّة أسرارك السماوية المرهوبة، أسرار هذه المائدة المقدّسة الروحيّة، لصفح الخطايا، وغفران الزلاّت، وشركة الروح القدس، وميراث ملكوت السماوات، والدالة لديك، لا لمحاكمة ولا لإدانة.” نقاوة الضمير ليست أمراً يتمّ في تلك اللحظة. إنه يفترض مسبقاً الجهاد للتطهّر وهذا أساسي للمناولة المقدسة، حتى لا يكون “لمحاكمة أو لإدانة” بل “لشركة الروح القدس، وميراث ملكوت السماوات“.
صلاة القديس سمعان اللاهوتي الحديث قبل المناولة هي صلاة نموذجية. التواضع والجهد النسكي يأتيان أولاً ومن ثم يُسعى إلى غفران الخطايا، حتّى يجلب جسد المسيح ودمه التألّه والتقديس: “انظر إلى ذلّي. أنظر إلى تعبي، ما أكثره. واغفر لي خطاياي جميعها، يا إله الكلّ. لكي أتناول بقلب طاهر وذهن مرتعد ونفس منسحقة أسرارك الكليّة النقاوة، التي بها يحيا ويتألّه كلّ مَن يأكلك ويشربك بقلب نقي“.
إن هذه الصلاة بأكملها تعبّر عن التوبة والدموع والنفس المنسحقة، لكن في الوقت نفسه يتطلّه المصلّي نحو محبة الله للبشر. إنه يطلب رحمة الله لأنه يعرف أن المناولة المقدسة تعمل بحسب حالة المتلقّي الروحية، أي بتعبير آخر، إنّها تطهّر وتنير وتقدّس. “لكنّك تطهّر وتضيء بزيت شفقتك التائبين بحرارة، وتجعلهم شركاء النور، وتقيمهم شركاء ألوهيتك بسخاء. والأمر المستغرَب عند الملائكة وأذهان البشر أنك تخاطبهم مرّات كثيرة كأحبّاء لك أخصّاء“.
نحن نرى كل هذا التعليم النسكي في عبادة الكنيسة. في قراءة الطروبريات التي ترتّل يومياً في الخدم في الكنيسة، نجد وفرة من المواد عن تطهّر القلب واستنارة النوس والتألّه. سوف أورد مثالاً مميزاً من قانون العنصرة الذي هم من عمل القديس يوحنا الدمشقي، لاهوتي القرن الثامن العظيم: “إن الألكن اللسان لما انحجب في الغمام الإلهي كرز الشريعة المدوّنة من الله لأنّه نفض الحمأة عن حدقة العقل، فعاين الموجود وحاز معرفة الروح ناشداً تسابيح إلهية“.
يظهر في هذه الطروبارية كل لاهوت كنيستنا الممتاز. موسى، وكل معايني الله من آباء الكنيسة، اعتُبر مستحقاً لأن تغطيه العتمة الإلهية وأن يعاين ذاك الذي هو، ملاك الرأي العظيم، الكلمة المتجسّد، الذي هو اللاهوتي الحقيقي، متى طرح عن عيني نوسه “كلّ نجاسة من الأهواء وكل فكر أرضي“. متّبعاً هذه الخبرة والثايوريا، يتأسس في معرفة الروح التي هي سر مكتوم عن غالبية الناس. من ثم يعلن بفصاحة الناموس الذي وضعه الله، مع أنه بطبيعته بطيء اللسان، ويمجّد الله بترانيم موحى بها. هذا يصير لكل قديس يحمل الله. اللاهوت الأرثوذكسي، الصلوات والخدمة الرعائية تأتي جميعاً ضمن هذا المنظور.
كل المادة التي في السنكسار، أي سيَر القديسين والنساك والشهداء وكل القديسين بشكل عام، تظهِر أن القديسين اتّبعوا طريقة الحياة النسكية والهدوئية من خلال التوبة والإيمان ونقاوة القلب واستنارة النوس ومحبة الله وقبِلوا الشهادة كنتيجة للثايوريا.
إن صلوات الكنيسة اليومية تخطّ هذا الطريق من التطهّر إلى الاستنارة فالتمجيد، الذي هو العلاج الوحيد للكائنات البشرية. من المذهل أن الكنيسة تريد أن يحيا المؤمنون بالسهر الروحي ليس أثناء يقظتهم وحسب بل أيضاً اثناء نومهم. في صلاة النوم الصغرى يسأل المؤمنون الله أن يرسل نعمته ليوقف جماح الأهواء ويمنحهم “عقلاً ساهراً وفكراً طاهراً وقلباً مستيقظاً ونوماً خفيفاً معتقاً من كل تخيّل شيطاني“. هذا يعني أن الكنيسة تريد أن يكون المؤمنون ساهرين، أن يكون لهم قلباً طاهراً وساهراً، حتى خلال النوم. على المسيحيين أن يعيشوا التقليد الهدوئي حتى أثناء راحة أجسادهم. فكم بالحري ينبغي أن يكون ذلك خلال النهار.
ز) تفسير الأب يوحنا رومانيدس
إن نظرة اللاهوتيين والفلاسفة الجدد، التي أُشير إليها في بداية هذه المقالة، حول الإكليسيولوجيا المزدوجة المزعومة، “التقليد الأول” و “اللاحق“، يقوض كلّ تقليد الكنيسة كما هو مُعبَّر عنه في الكتاب المقدس، وتعليم الآباء، وعبادة الكنيسة وقرارات المجامع المسكونية. أساساً، يشير هذا التقليد إلى التطهر والاستنارة والتألّه واختبارقوة الله المطهّرة والمنيرة والممجدة. إن النظرة المغرورة هذه هي خطر يريد تدمير هيئة الكنيسة الروحية وتغيير كامل اللاهوت الأرثوذكسي.
إن السؤال الذي يُطرح هو كيف وصلت هذه الجرثومة والتلوّث الروحيين إلى الكنيسة الأرثوذكسية.
الجواب هو أن العديد من اللاهوتيين أو المفكّرين الذين كانوا طلاباً في الكليات البروتستانتية وكان معلموهم بروتستانتيين، وكانوا يجلّونهم، أو الذين درسوا التحليلات البروتستانتية، من دون معرفة كافية لتقليد الكنيسة الأرثوذكسية الصحوي، جلبوا من دون تمييز هذه الآراء بشكل عشوائي إلى بيئة اللاهوت الأرثوذكسي والكنيسة الأرثوذكسية. ونتيجة لذلك، تأثر أفراد كائن الكنيسة الحي. الأب يوحنا رومانيدس، الذي التقى هذه العقلية في الكليات البروتستانتية في أمريكا، قدّم الملاحظة التالية: “ويرى البعض أن التعليم عن الكمال بحسب آباء الكنيسة المقدسة هو من أصل وثني، وأن آباء الكنيسة تأثروا بهذه الفوارق بين التطهر والاستنارة واللتمجيد، لأن هناك أوجه تشابه في الأفلاطونية الحديثة أيضاً، حيث يوجد هذا التقسيم بين مراحل الكمال بوضوح. وبسبب التشابه، تبنّى شعبنا هذه النظرة التي تأتي أساساً من دراسات قام بها بروتستانتيون.
“بعد رفض الرهبنة واعتماد قدرية كالفن أو تعليم لوثر عن خلاص الإنسان بالإيمان وحده، واجه البروتستانت شكلاً من أشكال الرهبنة في التقليد الذي واجهوه (الفرانكو لاتيني)، الذي كان قائماً على الاستحقاقات. بعد اكتشافهم أن التعليم عن الاستحقاقات خاطئ، أدانوه ومعه البتولية والرهبنة. وبالإضافة إلى ذلك، فإن لوثر بشكل أساسي، وكالفن أيضاً، أثارا ردة فعل ضد مراحل الكمال. لاحقاً، درس المؤرخون البروتستانتيون هذه المسألة، وكانوا سعداء جداً لإيجاد التشابه المدهش بين التعليم الآبائي وتعليم المشركين فأكّدوا أن أصل التعليم عن مراحل الكمال وثني.”
“لأن شعبنا متشوقون للذهاب والدراسة في الجامعات الأجنبية – أنا لا أقول أنه لا ينبغي أن يذهبوا ويدرسوا، ولكن أقلّه فليمارسوا تقييمهم، لأنهم يذهبون إلى الجامعات الأجنبية من دون تمحيص– فأنتم ترون الآن كتابات اللاهوتيين الأرثوذكسيين ممتلئة بهذه الفكرة، أنتم ترونها في كل مكان، بأن الكنيسة قد تأثرت بالوثنيين، ولا سيما فيما يتعلق بمراحل الكمال“.
هذا التفسير محفّز ومعبّر وغير قابل للإصلاح.
4. الخلاصة
أشرنا إليها في بداية هذه المقالة إلى الطريقة الهرطوقية بالتفكير، عن النوعين المزعومين للإكليسيولوجيا حيث النسخة الأخيرة تنقلب على “البدائية“، أو على الأقل أنهما تتواجدان متوازيتين جنباً إلى جنب. بتقديري، هذه الطريقة الهرطوقية بالتفكير تتطوّر بشكل بغيض ولكن “علمياً” داخل كنيستنا. للأسف عدد قليل من الناس يتنبذهون لهذا المرض الروحي. الغالبية مشغولة بمسائل سطحية، مثل الحريات الإنسانية الفردية وحقوق الإنسان الفردية، أو العقلية بعض رجال الدين والعلمانيين المسكونية، وهي أمور بالطبع خطيرة أيضاً في طريقهم. ومع ذلك، إنهم يتجاهلون هذا التخريب للاهوت الأرثوذكسي، الذي سببه التفسيرات الخاطئة، المهينة والافترائية بحق آباء الكنيسة.
ومن الواضح تماماً أن هذه الهرطقة التي يجري تصنيعها تخفي الإنسانوية البروتستانتية الغريبة عن التقليد الأرثوذكسي. يوجد محاولة لتفكيك التقليد الأرثوذكسي كله كما تمّت صياغته في الكتاب المقدس، وعبّر عنه آباء الكنيسة العظام، وتبّتته المجامع المسكونية، وودوِّن في كتب الصلوات وفي عبادة الكنيسة. إن الذين يؤيدون هذه النظريات لم يفهموا شيئاً عن جوهر اللاهوت الأرثوذكسي.
إلى هذا، إنّ الذين يعلّمون نظريات ما يسمى ب “الإكليسيولوجيا والروحانية المزدوجتين” عاجزون عن فهم التعليم الآبائي الأساسي بأنّ خبرة التألّه التي لا تصفها الكلمات، بحسب الرسول بولس، ليست هي نفسها كالتعبير عن هذه الخبرة الموحى بها بكلمات ومفاهيم مخلوقة، بحسب ما اعتاد الأب يوحنا رومانيدس قوله، لأن الآباء القديسين يعتمدون، عند الضرورة، مصطلحات العصر للتعبير عن خبرة التألّه المعلَنة. هذا ما ذكره القديس مكسيموس المعترف: “إن نوساً نقياً يرى الأشياء بشكل صحيح. الكلام الذي يمارسه يظهِر ما يعاينه“.
إن تقليد الكنيسة، كما هو مبين في سينودكون الأرثوذكسية، يعلن بوضوح: “كما رأى الأنبياء، كما كان يدرس الرسل، كما تلقت الكنيسة، كما المعلمين المنصوص عليها في العقائد، كما أن العالم كله كما اتضح من الحقيقة، لأن الخطأ قد نفي، لأن الحكمة تجعل جريئة أن تعلن، كما قرر المسيح، لذلك نعتقد، لذلك نحن نتكلم، لذلك نحن نبشر المسيح إلهنا الحقيقي … وهذا هو إيمان الرسل، وهذا هو إيمان الآباء، وهذا هو إيمان الأرثوذكسي، وهذا الإيمان قد أقامت العالم كله “.
The tradition of the Church, as it was set out in the Synodikon of Orthodoxy, clearly proclaims: “As the Prophets saw, as the Apostles taught, as the Church has received, as the teachers set out in dogmas, as the whole world has agreed, as grace has shone forth, as the truth has demonstrated, as error has been banished, as wisdom makes bold to declare, as Christ has decided, so we think, so we speak, so we preach Christ our true God… This is the faith of the Apostles, this is the faith of the Fathers, this is the faith of the Orthodox, this faith has established the whole world.”
ويوضح هذا النص أن خبرة وتعليم الأنبياء والرسل والآباء متطابقة، لذا لا يوجد مجال لـِ“إكليسيولوجيا مزدوجة“، أو نوعين من الإكليسيولوجيا المزعوم أنها تتعارض مع بعضها البعض، وإلا فإن الواحدة تحطّ من قدر الأخرى، أو حتى أن الاثنتين تتحرّكان بموازاة بعضهما. هذه النظريات يعبر عنها البروتستانت أو الدوائر البروتستانتية، وهي تقوّض الإكليسيولوجيا الأرثوذكسية نفسها.
في الواقع يوجد إكليسيولوجيا واحدة، هي تلك التي عاشها الأنبياء والرسل وآباء الكنيسة. الكنيسة هي جسد المسيح القائم والصاعد. المسيح الممجّد هو مركز الكنيسة، كما عاينه التلاميذ على جبل ثابور، واكتسبوا الشركة معه في العنصرة بقوة الروح القدس. هذا هو مفتاح الحياة الكنسية. لكن المشاركة في هذ الجسد والبقاء فيها تتحقق من خلال الأسرار والنسك. الشرط المسبق لاختبار نعمة الله من خلال الأسرار هو الهدوئية المقدسة، وبعبارة أخرى، التطهر والاستنارة والتمجيد.
من دون هذه الدمج بين أسرار والنسك تنشأ مشكلة كنسية كبيرة. وهذا يعني أن المشاركة في الكنيسة دون قيد أو شرط بمجرّد المشاركة بالقداس الإلهي والزعم بوعي ملكوت الله “من دون مراحل المشاركة في جسد المسيح” هو “وثنية إفخارستية وإكليسيولوجية” (الأب يوحنا رومانيدس)، إذ يُنظَر إلى الاشتراك في الأسرار على أنه أمر عقائدي، وقبل كل شيء ممارسة سحرية. نظرة كهذه تحبّذ الفاتيكان والبروتستانتية، ويتم الترويج لها بعقلية مسكونية. لذلك هي بدعة كبيرة يتمّ صنعها في الكنيسة، وهي تهدف إلى تجاهل التعليم النبوي، الرسولي والآبائي الحقيقي، وبعبارة أخرى، اللاهوت الكنسي. وهذه البدعة تُسمّى “ما بعد الآبائية (post-patristic) “.
يتّضح مما سبق أن الذين لم يفهموا حتى الآن ما هو اللاهوت “ما بعد الآبائي” وما يمثله حتى الآن يمكنهم أن يدركوا الآن على ضوء المكتوب هنا جوهر “لاهوت ما بعد الآباء” المستورَد. إنّ الذين ينتجون هذه النظريات في الواقع يعتبرون أن آباء الكنيسة المتوشحين بالله منذ القرن الثالث وصاعدا كانوا مضللين بالتقاليد الأفلاطونية الحديثة، والآن ظهر هؤلاء اللاهوتيون الأكثر حداثة، الذين فهموا خطأ هؤلاء الآباء العظماء ويريدون بطريقة بروتستانتية، أن يعيدوا الكنيسة إلى فترة ما قبل القرن الثالث.
إن أولئك المهجوسين بمثل هذه الآراء يظهرون أنهم في الواقع منزعجون من الهدوئية، ومن كل شيء له علاقة بها، بالتطهر والاستنارة والتمجيد، وأنهم يريدون أن ترفض هذه “الإكليسيولوجيا“، حتى يتحزّروا عن الله والأمور الإلهية. ولكن، إذا رفض أحد شروط اللاهوت الأرثوذكسي المسبقة، أي الهدوئية المقدسة، فإن الطريق تصير مفتوحة وواسعة أما لاهوت الكاثوليك والبروتستانت المدرسي والأخلاقي للوصول إلى الكنيسة الأرثوذكسية.. في الواقع هذا هو العلمانية في الكنيسة واللاهوت، أو بالأحرى، علمنة اللاهوتيين الأرثوذكس.
نيسان 2011