“الكلمة” بين الحقّ والتـّلفيق!

“الكلمة” بين الحقّ والتـّلفيق!

الأرشمندريت توما بيطار

 

يا إخوة، يسوع، هنا، يُقيم توازيًا بين نفسه والخطيئة. إذا تكلّم يسوع على الحقّ، فإنّه هو الحقّ؛ وإذا تكلّم عل الثّبات في الكلمة الإلهيّة، فهذا معناه الثّبات في الإيمان به، وفي محبّته وطاعته؛ وإذا تكلّم على الحرّيّة، فلأنّه هو الحرّيّة، معرفته حرّيّة، محبّته حرّيّة، اتّباعه حرّيّة. إذًا، يسوع يدعونا إلى الإيمان به، إلى الالتصاق به، إلى الثّبات فيه. هذا هو البرّ. وفي مقابل ذلك، مَن لا يسلك في الحقّ، أي مَن لا يسلك في إثر يسوع؛ يسلك، حتمًا، في الباطل. كذلك، مَن لا يتّبع يسوع، لا يكون حرًّا. مَن لا يسلك في كلمة يسوع، يكون مستعبَدًا لخطيئته. لاحظوا أنّ يسوع يتكلّم على الخطيئة بصيغة المفرد، لا بصيغة الجمع. إذًا، هو لا يتكلّم على الخطايا كأحداث سالبة، مخالفة للوصايا، في حياة النّاس، بقدر ما يتكلّم على الخطيئة باعتبارها عدمَ السّلوك في الحقّ، وعدمَ اتّباع يسوع، وعدمَ الإيمان به. هذه هي، في الحقيقة، الخطيئة. بعد ذلك، الخطايا تفاصيل. لكنّ الخطيئة، كواقع كيانيّ، هي أن يجهل الإنسان يسوع، هي ألاّ يكون الإنسان في عشرة يسوع، في محبّة يسوع. الّذي لا يعرف يسوع بهذا المعنى العميق، بهذا المعنى الحميميّ، يكون، حتمًا، في الخطيئة. المقابلة، إذًا، هي بين يسوع والخطيئة: أن يسلك الإنسان في إثر يسوع، أو أن يسلك في الخطيئة! أن يسلك في النّور، أو أن يسلك في الظّلمة! أن يسلك في الحقّ، أو أن يسلك في الضّلال! هذه هي المقابلة. لذلك، الكلمة الأخيرة الّتي تلفّظ بها يسوع، في إنجيل اليوم، تضع المعيار الّذي يميّز بين الحقّ والباطل، بين النّور والظّلمة، بين الحرّيّة والعبوديّة. قال يسوع لليهود: “لو كان الله أباكم، لكنتم تحبّونني، لأنّي من الله خرجت وأتيت”. إذًا، الموضوع هو محبّة يسوع.

في ضوء هذه المقابلة، نقول إنّ كلّ الّذين لا يعرفون يسوع، في هذا العالم، أي كلّ الّذين لا يدخلون في عشرة يسوع، لا يتعاطَون الحبَّ ويسوع؛ هؤلاء هم، حتمًا، جاهلون لله، لا يعرفون الله! هؤلاء مقيمون في الظّلمة، مقيمون في الخطيئة، ولهم أب واحد: الله ليس أباهم، أبوهم هو الشـّيطان! وهذا، بالضّبط، ما قاله يسوع لليهود: نفى، أوّلاً، أن يكون الله أباهم، ثمّ قال لهم: “أنتم من أبٍ هو إبليس، وأعمال أبيكم تعملون”. طبعًا، هذا الّذي أقوله لا نعرفه على مستوى التّحليل الفكريّ. هذا نعرفه على مستوى الحسّ الكيانيّ، على مستوى القلب. الإنسان الّذي يعرف يسوع، الّذي يحبّ يسوع، الّذي يسلك في إثر يسوع، ولو لم يكن يتحدّث اللّغة الصّينيّة، مثلاً، أو الهنديّة، فإن التقى قومًا من الصّين أو الهند، إن التقى قومًا تختلف طريقة حياتهم، في الكثير من مظاهرها، عن طريقة حياته؛ فإنّه، بالرّوح، يعرف ما إذا كان يسوع مقيمًا في هؤلاء القوم، أو غيرَ مقيم فيهم؛ ولا يحتاج إلى أن يدرس كتب هؤلاء النّاس. هو يحتاج إلى أن يلتقيهم، إلى أن يدخل معهم في علاقة؛ ومن خلال هذه العلاقة، يستبين مَن هو أب هؤلاء القوم: أهو الله، أم هو إبليس؟! من جهة أخرى، إذا جاء قوم من الصّين وقوم من الهند، والتقَوا قومًا يحبّون يسوع في هذه البلاد؛ فإنّهم، إن دخلوا في علاقة مع الّذين يلتقونهم من سكّان هذه البلاد، يستطيعون، بسهولة، أن يعرفوا، ما إذا كانوا هم ليسوع! يستطيعون، بسهولة، أن يعرفوا ما إذا كان يسوع في هؤلاء القوم الّذين يلتقونهم أم لا! يسوع لا يُعرَف بالعقل. يسوع يُعرَف بالحسّ الكيانيّ، أوّلاً وقبل كلّ شيء.

هذا يجعلنا نستنتج أنّ كلّ حوار بين الدّيانات هو حوار مشوب بالكثير من الضّلال. ليست الحاجة، أبدًا، إلى حوار فكريّ. إلامَ تؤدّي الحوارات الفكريّة ؟! تؤدّي، في أحسن الحالات، إلى قواسم مشتركة. تقول إنّ ما عند هؤلاء موجود عند أولائك، وما عند أولائك موجود عند هؤلاء. وهذا كلّه يُفضي إلى الاستنتاج أنّ الحوار يجب إمّا أن يتوقّف، وطبعًا، من دون نتيجة؛ وإمّا أن يستمرّ على أساس اعتراف الفريقين كلٍّ بالآخر، وبأنّه على حقّ، إنّما على طريقته. وهنا، بالذّات، يكمن الضّلال! ليس صحيحًا، أبدًا، أنّ مَن نسمّيه “يسوع”، في كنيسة المسيح، يسمّيه غيرنا بأسماء أخرى. الموضوع ليس موضوع أسماء! الموضوع هو موضوع “الكلمة”، يسوع – الكلمة، يسوع – الحقّ، سرّ الحقّ، سرّ الكلمة، سرّ الوجود الإلهيّ. هل هذا السّرّ مقيم في هؤلاء القوم وفي أولئك، في آن معًا، أو لا؟! لو كان مقيمًا في هؤلاء القوم وفي أولئك، في آن معًا، لَما كانوا يحتاجون إلى حوار، إنّما إلى لقاء. وباللّقاء، وفي اللّقاء، وبروح الرّبّ، يعرفون ما إذا كانوا يؤمنون بإله واحد أم لا. كلّ ما عدا ذلك، من توفيق وتلفيق، هذا من الضّلال، وليس من الحقّ في شيء. لذلك، كلّ ما يمكن أن يُقال عن الحوارات بين الدّيانات هو أنّها حواراتٌ القصدُ منها التّعايش السّياسيّ، والسّلطة، والقوّة… مقاصدها دهريّة، من هذا الدّهر، وهي لا ترمي إلى معرفة الحقّ، أي إلى معرفة يسوع! نحن، إذا كنّا لنكون أمناء للرّبّ يسوع، فإنّنا لا ندخل في حوار فكريّ دينيّ مع أحد، على الإطلاق. نحن نكرز بالكلمة! والكرازة بالكلمة تستلزم أمرين: أوّلاً، أن يكون “الكلمة” (أي يسوع) مقيمًا فينا. وثانيًا، أن نشهد “للكلمة”. يسوع لم يحاور اليهود كما هو معنى الحوار. يسوع كان يقول لهم إنّه هو كلمة الله، هو كلمة الآب السّماويّ. وكان، طبعًا، يستعمل الكتب الّتي عند اليهود، ليقول لهم ما قيل هنا وهناك وهنالك… هذا ينطبق عليه هو. يسوع لم يكن في وضع الحوار الفكريّ مع اليهود، إنّما كان يهمّه أن يريهم الحقّ، وأن يدعوهم إلى الإيمان به. وكان يقول لهم أين يكمن الباطل، أين يكمن الضّلال، أين تكمن الخطيئة! كلّ حوار فعّال، في الحقيقة، هو كرازة بالكلمة، بمعنًى من المعاني. طبعًا، الكرازة بالكلمة تستلزم أن يعرف الإنسان ما عند الآخرين؛ لأنّ عند الآخرين، أيضًا، بذورًا من الحقّ نثرها الله. هذا واضح في كتاب أعمال الرّسل؛ وواضح، أيضًا، عند الآباء القدّيسين. بذار الحقّ منثورة، في كلّ مكان. علينا أن نقرأ ما عند الآخرين، لنساعدهم على المجيء إلى يسوع، لنقول لهم إنّ هذا الّذي كُتب في كتبكم إنّما كُتب عن يسوع، كُتب عن الحقّ! لكن، طبعًا، في الحوارات بين الدّيانات، وكذلك في الحوارات المسكونيّة، ليس القصد، أبدًا، أن يصل الإنسان إلى الحقّ، بل إلى نوع من التّفاهم مع الآخرين! لذلك، في كلّ هذه الحوارات، كذبةٌ في العمق. وهي عقيمة، ولا تنفع في شيء؛ لا بل تؤذي؛ وتؤذي، بصورة خاصّة، المؤمنين بيسوع. كيف تؤذيهم؟! تجعلهم يقاربون ما عند الآخرين بروح التّلفيق. وتجعلهم، أيضًا، يساومون! وتُفسد عليهم كرازتهم بيسوع! لاحظوا: حيثما اشتدّت الحوارات بين الدّيانات، أو حيثما اشتدّت الحوارات المسكونيّة، توقّفت الكرازة بالكلمة الإلهيّة. لذلك، مثلاً، الكاثوليك والبروتستانت، في أميريكا، أصدروا بيانًا، قالوا فيه إنّ اليهود ليسوا في حاجة إلى الكرازة بكلمة الله، لأنّ كلمة الله موجودة عندهم!

إذًا، هذا هو أسلوب الشـّيطان لكي يعطّل الكرازة بالكلمة، لكي يعطّل البشارة. الوصيّة الوحيدة الّتي تفوّه بها يسوع، في إنجيل متّى، قبل أن يصعد إلى أبيه، هي: “اذهبوا، وتلمذوا كلّ الأمم، وعمّدوهم باسم الآب والابن والرّوح القدس” (متّى28: 19). الحوارات المسكونيّة والحوارات بين الدّيانات تعطّل التّلمذة. ونحن، إذا كنّا لا نتلمذ، فهذا لا يمكن إلاّ أن يكون صادرًا عن عُقـْمٍ فينا! إذًا، عدم سلوكنا في الوصيّة الإلهيّة يكون دليلاً على أنّنا بتنا في العقم! الإنسان الّذي يقيم فيه روح الله، الإنسان الّذي يقيم فيه كلمة الله، لا يمكنه إلاّ أن يكرز بكلمة الله. فإذا كنّا، في الحقيقة، لا نكرز، بعد، بالحقّ؛ فلأنّنا، في الكثير من الأحيان، بتنا خلوًّا من حقّ الله فينا؛ وهذا لا شكّ في أنّه حدث، ويحدث، أحيانًا كثيرة، بسبب هذه البدائل المطروحة، في العالم: الحوارات. الحوارات، في العمق، هي أسلوب شيطانيّ، لا ينفع في شيء. أتكلّم على الحوارات الفكريّة، والحوارات العقليّة.

الموضوع، إذًا، هو: “لو كان الله أباكم، لكنتم تحبّونني، لأنّي من الله خرجت وأتيت”. وحده يسوع خرج من عند الآب السّماويّ، ولا يأتي أحد إلى الآب السّماويّ إلاّ به. لذلك، نحن نحتاج إلى أن نحبّ الجميع، وإلى أن ندخل في علاقة مُحبّيّة مع الجميع؛ ولا نحتاج، أبدًا، إلى أيّ حوار فكريّ مع أحد، لا ننفع به أحدًا، ولا ننتفع منه، أبدًا.

فمَن له أذنان للسّمع، فليسمع.

* عظة في السّبت 16 أيّار 2009 حول يو8: 31- 42

 

 

Leave a comment