معلوماتية الحياة الروحية

معلوماتية الحياة الروحية

الأب أنطوان ملكي

 

يحكي المؤرّخون عن ثلاث ثورات غيّرت وجه التاريخ. الثورة الزراعية، قبل المسيح ببعض آلاف من السنين، وعلى إثرها انتقل البشر من البداوة إلى العيش في تجمّعات ثابتة. ثم الثورة الصناعية أواخر القرن الميلادي الثامن عشر وفيها انتقل الناس إلى الاتكال على الطاقة وصارت قوى الأرض تستمد منها قوتها. إلى أن جاءت الثورة الثالثة وهي ثورة المعلومات في القرن الماضي. وترافقت هذه الثورة مع تطور سريع في مختلف أنواع التكنولوجيات. وبنتيجتها صار عندنا علوم للمعلومات وأنظمتها، وإدارتها، واقتصادها، وفلسفتها، وحتّى لاهوتها. والسرعة التي تتقدّم بها هذه الحقول لا يسهل مجاراتها، خاصةً وأن منتجاتها اندسّت في كل جوانب حياتنا. فمَن يتخيّل حياةً من دون هاتف ذكي وسيارة ذكيه وتلفزيون ذكي وغسالّة ثياب ذكية، وتطول اللائحة لنصل إلى أبواب البيوت وأنظمة حمايتها ومراقبتها. وهنا يخطر لي التساؤل الذي طرحَته إحدى الكاتبات: أترى الرسول بولس كاتب نشيد المحبة الذي يورده في الإصحاح 13 من الارسالة الأولى إلى الكورنثيين، لو جاء في عصرنا هذا هل كان أضاف إلى نشيده السؤال التالي: “إن كنتُ أتواصل مع ملايين الناس عبر الإنترنت، ولو كنت أجيد استعمال الفايسبوك والسكايب والواتساب، وليس لي محبة فلستُ شيئاً”؟

أمام هذا الواقع الواقع المغمور بروح المعلوماتية، يصير التحدّث عن معلوماتية الروح أمراً مشروعاً. للولوج في هذا الموضوع وبلوغ المنفعة فيه، سوف أعرض أولاً قولة العلم فيه ومن ثمّ تعليم الآباء.

ماذا يقول العلم؟

المعلوماتية هي علم معالجة المعطيات والمعلومات للبلوغ إلى المعرفة ومنها إلى الحقيقة اعتماداً على وسائل وطرق علمية محددة منها ما يختص بهذا العلم ومنها ما هو مأخوذ من العلوم الأخرى.

يتدرّج العلم بين المعطيات (Data) والحكمة مروراً بالمعلومات والمعرفة. المعطيات هي رموز. وهي المادة الأولية التي لا تحمل أي معنى بذاتها وهي دون أي علاقة بالمكان أو الزمان. وعندما نجد مجموعة من المعطيات نحاول ربطها بأشياء أخرى لإعطائها معنى. أمّا المعلومات (Information) فهي مجموعة من المعطيات مرتبة ترتيباً مفيداً، يجيب عن أسئلة مثل “مَن؟”، “ماذا؟”، “أين؟”، “متى؟” والمعلومات تعطي وصفاً أو تعريفاً أو منظوراً. لهذا، مجموعة المعطيات بحد ذاتها لا تكوِّن معلومات إلا إذا حملَت علاقة فيما بينها. لهذا، يتعلّق الأمر كثيراً بمتلقّي المعلومات، وكيفية ربطه بين أجزاء هذه المجموعة من المعطيات. فالمعلومات إذن هي فهم العلاقة التي بين المعطيات لذا هي ترتبط بالسياق الذي ترِد فيه. الدرجة الثالثة التي يحكي عنها العلم هي المعرفة (Knowledge) التي يصفها بأنها تطبيق المعطيات والمعلومات للإجابة عن سؤال “كيف؟” فهي تتضمّن الاستراتيجيات والتطبيق العملي والطرائق. فالمعرفة هي مجموعة المعلومات عندما تكون مفيدةً. أمّا تكديس المعرفة، أي حفظها، فليس كافياً كونه لا يؤدّي إلى معرفة جديدة إلا عن طريق مهارات تحليلية وإدراكية تشكّل درجة فوق المعرفة تسمّى “الفهم”. إذاً، “الفهم” هو استطاعة الاستدلال على معرفة جديدة باستخدام التحليل والإدراك وهو يقع ما بين المعرفة والحكمة. أمّا الحكمة (Wisdom) وهي الدرجة الرابعة فهي “الفهم” المقيّم الذي يظهر عندما تُفهَم المبادئ الأساسية لعناصر المعرفة. تحاول الحكمة خلقَ سياق أوسع من المعرفة لذا هي تتضمن المبادئ والأخلاق والبصيرة والمثال. أهم جواب تقدمه الحكمة هو على السؤال “لماذا؟” والحكمة عملية استقرائية وغير حتمية ولا تخضع لقانون الاحتمالات، ومن شروطها الوعي لأنه المُتوقَّع منها هو فهم ما لم يكن مفهوماً من قبل وطرح أسئلة حيث لا يوجد أجوبة بحسب المعرفة البشرية. لهذا السبب يرى العلم أنّ الحكمة  هي عملية التفريق أو الحكم بين الحق والباطل، بين الخير والشر. ويستنتج العلماء، العاقلون منهم، أنّه لا يمكن للحاسوب أن يحوي الحكمة أبداً لأنها حالة بشرية  تحتاج إلى كائن ذي روح، وتوجد في القلب كما هي في الذهن.

من ثم يأتي العلم إلى تحديد الحقيقة فيرى أنها، ببساطة، الظاهرة التي تثبت بالتجربة والدليل والملاحظة.

لا بدّ هنا من إيراد ما نستنتج مما سبق وهو أن مجموعةً من المعطيات ليست معلومات، مجموعة من المعلومات ليست معرفة، مجموعة من المعارف ليست حكمة، ومجموعة من الحِكم ليست حقيقة. لكن الاستنتاج الذي يزيد من صعوبة مهمتنا هو أن العلم يقدّم تدرجاً واضحاً من المعطى إلى المعرفة، لكنه يخرج عن هذا السياق كلياً عندما يحكي عن الحقيقة. فهو يعتبر أن الحقيقة أعلى من المعرفة، لكنه لا يبرهن الرابط بينهما. ويصير الأمر أكثر صعوبة عندما يعجز العلم عن تحديد الحقيقة إلا عن طريق الكلام عمّا هو عكسها بقوله أن الحقيقي هو ما ليس كاذباً أو زائفاً، فنصير بحاجة إلى تحديد الكذب والزيف وغيره.

إذاً في ختام الجزء الأول من هذا الحديث، المعلوماتية كعلم تقوم بكل ما هو مطلوب منها، إلا إنها لا تقدم الجواب الشافي لأن ما بلغته قابل للطعن والمراجعة والاستنساب والتفسير وليس مقبولاً من الجميع.

لكن قبل الولوج إلى معلوماتية الحياة الروحية لا بدّ من لفت النظر إلى بعض الظواهر الناتجة عن تطور علوم المعلومات والتي تأتي في صلب مقاربتنا لهذا البحث. فقد تخطى عدد مستعملي فايسبوك المليار وغيره من برامج الشبكات الاجتماعية فاق مئات الملايين، مع ما يعني ذلك من انشغال الناس لساعات طويلة، ومع ظهور علوم جديدة رديفة لعلوم المعلومات كالطب النفسي السيبراني الذي يُعنى بمشاكل الإدمان على المعلومات، والريبة المعلوماتية، ومع تزايد العنف الإلكتروني والحديث عن الحروب السيبرانية، وأهم من ذلك مع انتشار المدوّنات وسهولة إنشاء الصفحات والمواقع، ماذا يقول العلم عن هذا الوضع؟ يتوقف العلماء عند ضحالة المعلومات التي تتكاثر كميّاً دون أن تؤدّي إلى أي معرفة، لا بل أن مفعولها المعرفي يكون عكسياً في أحيان كثيرة، وإلى تغلّب المتعة على البحث المنتِج. من جهة أخرى، غابت المرجعيات في نشر المعطيات والمعلومات حيث صار كل إنسان مصدراً بحد ذاته، ففي المسيحية مثلاً صار لكل مدوّن الحرية في قول ما يشاء ونشر تفسيره للإنجيل أو للتقليد أو لتاريخ الكنيسة. أما سرعة انتشار المعلومات التي وُجِدَت لتكون نعمة فتحوّلت نقمة إذ يطغى السرعة والسعي إلى تحقيق السبق على التحقق والتمحيص والتأكّد، فوصلنا إلى وضع ازداد فيه علم الناس على حساب معرفتهم، وضلالهم على حساب يقينهم، وكثر المحللون الذين يدّعون الحكمة والتنبوء واستطلاع الغيب، وتضاعف عدد المؤمنين بالخرافات بدل أن يتناقص وتساوى الصحيح بالمبتَذَل والأصيل بالمفبرَك والحقيقي بالوهم حتّى صارت البرمجيات مصادر إيمان والأعمال السينمائية مناشئ لأديان.

أذكر هنا على سبيل المثال كنيسة غوغل (The Church of Google) التي لها أتباع في لبنان، وتحديداً في مؤسسات التعليم العالي، فغوغل دائم الوجود (7/24) وشامل المعرفة لأن لديه أجوبة عن كل شيء، وبسيط حتى أنّ الصلاة إليه لا تتخطى البحث فيه، وعدد استدعاءات كلمة غوغل تخطى إحصائياً (على الانترنت) الأسماء الدينية مثل الله والمسيح ومحمد، وقبل كل شيء غوغل بذاته خيّر لا يؤذي.

هنا السؤال الذي يهمنا هو: إذا كانت علوم المعلومات والمعرفة وصلت إلى هذا المستوى، وإذا كان العقل البشري يقيم في هذه البابل الفكرية، فهل الروح البشرية بمنأى عن هذا التطور؟

بدءً لا بد من رفض التسويق لفكرة تعدد الحيوات عند الإنسان. فهذه الفكرة تسويق وبروباغندا تهيء البشر لقبول الانفصام على أنه حالة طبيعية. فلإنسان اليوم حياة اجتماعية وأخرى سياسية ومهنية وفكرية ونفسية وعائلية ودينية وروحية وجنسية. قبول هذا التصنيف يهيء لقبول أن يكون منعزلاً في المجتمع وناجحاً في مهنته، أو ناشطاً في المجتمع وكافراً في دينه، يمارس الكراهية والحقد في السياسة والحنان والرأفة في عائلته، شهوانياً في سلوكه وواعظاً عن العفة والأخلاق، وغيره من التناقضات التي تهيؤنا علوم الاجتماع والنفس الحديثة وتنضم إليها علوم المعلومات مؤخراً، لأن نقبل بأن نجزئ الإنسان إلى عقول ونفوس ينتج عنها أشخاص في الشخص الواحد. فصار الجنون حجة كافية للتبرئة من جريمة القتل والتربية مبرراً للعنف والكفر. باختصار، يستطيع كل إنسان أن ينقل ما يشاء من حياة إلى أخرى، بحسب حاجته.

لم يتبنّ كل آباء الكنيسة تقسيم الإنسان إلى جسد ونفس وروح (trichotomy) لأنهم تمسّكوا بأنه شخص واحد. وحتّى الذين قبلوا هذه الثلاثية لم يتعاطوها مفصولة ولا مفككة. لهذا، لا نجد في الأدب الآبائي كلاماً عن حياة روحية، بل عن حياة في المسيح أو خارج المسيح، حياة في الروح أو حياة من دون الروح. وعلى هذا الأساس سوف نحاول أن نقرأ الوضع البشري المعلوماتي القائم اليوم على ضوء الآباء.

معلوماتية الحياة في المسيح

يربط القديس اسحق السرياني المعرفة بالإيمان، إذ بحسب تعليمه هناك نوعان من المعرفة: التي تسبق الإيمان والتي تولَد من الإيمان. الأولى هي المعرفة الطبيعية والتي تشمل التمييز بين الخير والشر. أمّا الأخيرة فهي المعرفة الروحية وهي القدرة على فهم الأسرار وإدراك ما هو مخبّأ، ومعاينة غير المنظور. كما يعلّم أيضاً عن وجود نوعين من الإيمان: الأول يأتي من السماع ويؤَكَّد ويُثبَت بالثاني الذي هو الإيمان بالمعاينة، أي الإيمان القائم على ما تمّت رؤيته. لاكتساب المعرفة الروحية، على المرء أن يتحرّر أولاً من المعرفة الطبيعية وهذا هو عمل الإيمان الذي يبيد كلّ قوانين المعرفة الطبيعية. فالميزة الأساسية للمعرفة الطبيعية هي مقاربتها بالامتحان والاختبار وهذا بحدّ ذاته علامة على الشكّ بالحقيقة. بينما في المقابل، يتبع الإيمان طريقة تفكير نقية وبسيطة وبعيدة كلّ البعد عن الخداع والامتحان المنهجي. ويؤكّد القديس اسحق على أنّ المعرفة الطبيعية تقف في مواجهة بساطة القلب وبساطة الفكر. فهي لا تعمل إلاّ ضمن حدود الطبيعة، بينما للإيمان طريقه الخاصّ إلى أبعد من الطبيعة. ويحذّر القديس من أنّه كلّما ازداد تكرّس الإنسان لطرق المعرفة الطبيعية، يزداد تملّك الخوف له وتضعف قدرته على التحرر منه. بينما الإيمان، يحرّر ويجعل الإنسان ابناً لله.

لا يرفض القديس اسحق المعرفة الطبيعية بل يرى أنها المستوى الذي منه يرتفع الإنسان إلى قمم الإيمان. عندما يبلغ هذه القمم، لا يعود بحاجة لهذه المعرفة، إذ كما هو مكتوب: “لأننا نعلم بعض العلم ونتنبأ بعض التنبؤ. ولكن متى جاء الكامل فحينئذ يبطل ما هو بعض” (1كورنثوس 9:13-10). فالإيمان يكشف لنا حقيقة الكمال، كما ولو أنّها أمام أعيننا. بالإيمان نكتشف ما هو فوق إدراكنا، بالإيمان وليس بالبحث وقوة المعرفة.

في تعليم القديس اسحق أن الإيمان يقدّم طريقة تفكير جديدة لتحقيق المعرفة وهي التواضع ويظهِر أن موسى وداود وأشعياء وبطرس وبولس بلغوا المعرفة الكاملة بالتواضع. ويحدد المعرفة بأنها إدراك الحياة الأبدية أي فهم كل الأشياء في الله. ويعلّم أن في الإنسان جوع غريزي إلى الحقيقة يساعد في اكتساب الإدراك لله وفي معرفة الذات التي توصِل إلى معرفة الله التي لا تُعطى للإنسان إلا بالمسيح وحده عندما يحوّل الإنسان أعضاء معرفته بممارسة الفضائل. فالمعرفة المقدّسة تأتي من الحياة المقدّسة، بينما الغرور يظلِم تلك المعرفة.

يقبل القديس يوستينوس بوبوفيتش، استناداً إلى القديس اسحق السرياني، أن هناك ثلاث صيَغ روحية تصعد فيها المعرفة وتنزل، وبها تتحرّك وتتغيّر وهي الجسد والنفس والروح. في مستواها الأدنى تتبع المعرفة رغبات الجسد وفي عملها تكون نقيض الإيمان. مستنداً إلى قول الرسول أن العلم ينفخ في (1كورنثوس 1:8). ويضع القديس تحت هذه المعرفة الكثير من علوم الحضارة الأوروبية وفلسفاتها وصولاً إلى نظرية النسبية. أما المستوى الثاني من المعرفة فهو في كلا الجسد والنفس ويتمثّل بممارسة الفضائل أي كل عمل صالح وكل نزعة صالحة وهي التي تبدأ وتُنجَز بالروح القدس. الدرجة الثالثة من المعرفة هي الكمال. عندما ترتفع المعرفة فوق الأرض والاهتمام بالأشياء الأرضية لتتفحّص داخلها والأفكار المخبّأة هناك.

كل الآباء، المعلمين والنساك على سواء، يتحدّثون عن المعرفة. القديس باسيليوس الكبير يستفيض في تفنيده علاقة اللاهوت والعلم وخدمتهما للمعرفة. ويعلّم القديس غريغوريوس بالاماس، استناداً إلى الكتاب المقدس والآباء الذين سبقوه، عن نوعين من الحكمة ونوعين من المعرفة. القديس نيقولا فيليميروفيتش، الباحث الطبي المتميّز بمعايير الأرض والسماء، يفصل بين المعرفتين الإلهية والأرضية ويعلّم بأن الثانية تخدم الأولى دون أن تكون شرطاً أساسياً لها. القديس يوستينوس بوبوفيتش الصربي، وهو أستاذ جامعي بحسب معايير التقييم التي نعرفها، يرى أنه لا يستطيع أن يزيد نقطة على ما علّم به القديس اسحق السرياني الذي سبقه خمسة عشرة قرناً. وأخيراً، المعلّم الأب يوحنا رومانيدس الذي يبرهن علمياً أن الأرثوذكسية علم تجريبي بكل ما في الكلمة من معنى، يشدد على أهمية التمييز بين حقيقة الله وحقيقة طبيعة الكون اللتين لا يمكن أن تتشابها، وبالتالي قد تتشابه بدايات سبل الوصول إليهما لكنها تفترق متى اقتربت من صلبها.

باختصار، عند نهاية الجزء الثاني من هذا الحديث، يمكن تلخيص موضوع المعرفة الروحية في ما يرِد عند النبي إشعياء: “لأنه كما علت السماوات عن الأرض هكذا علت طرقي عن طرقكم وأفكاري عن أفكاركم” (أشعياء54: 9). فكما يرى الأب جورج عطية، في أمالي مادة العقائد: صحيح أن هناك كلام كثير عن الله، ومن بينه كلام الكتاب المقدس ذاته. ولكن معرفة كل ما كتب عن الله وحتى حفظه غيباً، والتأمل الفكري في هذه المعرفة والكتابة عنها لا يكفي لأن يجعل الإنسان عارفاً حقاً بالله… بل يجب أن تقترن معرفة كلام الله بالإيمان والإيمان بلقاء شخصيّ حي.

وعليه ماذا تكون معلوماتية الحياة في المسيح؟ إنها السعي إلى معرفة الله، معرفة مباشرة، أي شركة شخصية معه. العالم اليوم، وخاصةً عالم المعلومات القائم أولاً على شبكات الاتصال، هو مثل بيلاطس الذي سأل رب المجد الواقف أمامه: «مَا هُوَ الْحَقُّ؟». لكن السيد كان قد أجابه مسبَقاً بأن الحق أو الحقيقة ليس كلاماً بل شخصاً: “أنا هو الطريق الحق والحياة ليس أحد يأتي إلى الآب إلا بي” (يوحنا6:14).

يعلّم القديس ذياذوخوس بأن “ليس هناك أفقر من الفكر الذي يتكلم عن الله وهو يقف بعيداً عنه”. لذا معلوماتية الحياة في المسيح يجب أن توصل إلى الشركة مع المسيح، وهنا الفرق بينها وبين معلوماتية العلوم. فقد تتشابه طرقهما في البداية، لكن المعرفة في الحياة في المسيح هي معرفة وجودية ينقاد الفكر طائعاً لها، وهي تأتي من المعاينة التي دعا فيلبس نثنائيل إليها: “تعالَ وانظر”. ومتى أتى الإنسان وعاين يصل إلى المعرفة التي طلبها يسوع لتلاميذه في صلاته على جبل الزيتون وهي الحقيقة التي تجسّدت في التاريخ في يسوع نفسه.

غاية الحياة في المسيح هي بلوغ الحقيقة، لكن التدرّج إليها، بحسب في تعاليم الآباء، لا يشابه التدرّج في العلوم. التدرج في الحياة في المسيح هو من خوف الله إلى الإيمان إلى المحبة، أي من الاستنارة إلى التطهّر فالتمجيد حيث تُعايَن الحقيقة التي تحوي كل المعرفة وكل العلم وكل اليقين. كثرة المعطيات لا تصنع الإيمان. ووفرة المعلومات لا تصنع معرفة الله. وفيض المعارف الدينية لا يصنع حقيقة. من هنا تأتي الخطورة في تشكيل معلوماتية الحياة في المسيح على شاكلة مناهج علوم العالم ومعلوماتيته.

 

ختاماً، أرجو أن أكون قد وُفّقت في طرح الصورة بشكلها الشامل وأظهار الرابط بين الفكر الذي تبثّه الحضارة الإلكترونية والحياة في المسيح. فكلا السلوكين له خلفيته وبالتالي له نتائجه وتأثيراته في الإنسان. هذا الموضوع ليس ترفاً فكرياً ولا هو استنباط لإشكاليات بحثية غير موجودة. فأمامنا ظواهر ذات مؤشرات خطرة منها أولئك الذين بداية نهارهم هي تفقد الرسائل الإلكترونية وليس صلاة النهوض من النوم، وختم يومهم هو تحديث صفحتهم (wall update) على الفايسبوك بدلاً من صلاة النوم، أو ظاهرة الكهنة الناشطين إلكترونياً فيما رعاياهم لا ترى وجههم إلا في قداس الأحد، أو ظاهرة التسابق على زيادة عدد الأصدقاء الافتراضيين فيما الصداقة الفعلية معدومة، هذا حتى لا أذكر طلبات الصلوات الإلكترونية والاعترافات الإلكترونية والرعايا الإلكترونية، وغيرها. قد يهتمّ الكثيون بهذه الظواهر درساً وتحليلاً، إلا إننا نقرأ بغير كتاب العالم الذي نحن فيه ولا ينبغي أن نكون منه، ولكي نكون كذلك يلزمنا التمييز الذي هو نتيجة هذه التكاملية (synergy) بين روح الرب والبشر. حتّى العلم، بحسب ما عرضنا في الجزء الأول، يشترط التمييز للوصول إلى المعرفة، يبقى أن بلوغ التمييز هو للإنسان المستنير، كما يعلّم آباء كنيستنا، وللوصول إليه لا بد من الانتقال من المعلومات والمعارف التي في الدنيا إلى تلك التي من المسيح وذاك بموقف كياني، شامل للقلب والعقل معاً، أي موقفٍ تائب ثابت مملؤٍ رجاءً واتّضاع.

والسبح لله دائماً.

 

* حديث في خلوة طلاب اللاهوت مطلع الصوم الكبير 2013

Leave a comment