القداسة والتقديس

القداسة والتقديس

الخورية سميرة عطية

من أمالي مادة سير القديسين

  1. القداسة:

القداسة صفة من صفات الله وهو مصدرها وهكذا يرد في الكتاب المقدس عن الله أنه قدوس لأنه منزه عن الخطيئة والفساد ويمجّد من الملائكة بتسبيح لا ينقطع إلى الأبد “قدوس، قدوس، قدوس”. أما الإنسان فهو ليس قدّيساً من نفسه ولكنه يتقدّس بالمشاركة في قداسة الله وهذا لا يتم بقوى الإنسان الذاتية ووسائله بل بفعل نعمة التقديس الإلهية.

التقديس هو فعل ينتج عن المشاركة بين الله والإنسان، الله هو المقدّس بالدرجة الاولى، لذلك يفصل الكتاب المقدّس بين المقدِّس وهو يسوع المسيح وبين المقدَّسين وهم البشر المؤمنين (عب11:2). التقديس هو عمل الثالوث القدوس الذي يتمّ بشركة الروح القدس (2تسا2: 13) عبر المقدّس الذي هو المسيح.

  1. التقديس:

التقديس حقيقة وواقع: جميع المسيحيين دون استثناء هم قدّيسون لأنهم تقدسوا.

  • بالمعمودية: بالماء والروح.
  • بالميرون: بالمسح أي بهبة الروح القدس، ونلاحظ أن المسح بالميرون يسمى أيضاً “الختم” لأنه بالمسح تتغلغل نعمة الروح القدس إلى أعماق الإنسان (أف1: 13).
  • بسرّ الشكر الإلهي: الذي يتم بفعل الروح القدس كما يظهر ذلك بوضوح من كلمات الخدمة الإلهية “محولاً إياه بروحك القدوس”.
  • – بوسائل النعمة الإلهية المتنوعة

إن فعل التقديس الحاصل حقيقة، لا يتم فقط بواسطة الأسرار الإلهية التي هي بداية التقديس (رو8: 73). تلزم أيضاً محاولة الإنسان الشخصية. لذلك يتوجه الله إلى من وُهبوا هذه النعمة بقوله: “كونوا قديسين لأني أنا قدوس”، “كونوا كاملين” ….. كذلك القديس بولس يذكر “فإذا كنا نحيا بالروح فعلينا أن نقتفي آثار الروح” (غلا5: 25) الإنسان يقتفي آثار الروح عندما يحيا حياة الفضيلة وأما حياة الخطيئة فإنها تطفىء الروح (1تسا5: 19). الخطيئة لا تطفىء الروح وحسب بل تفقد الإنسان نعمة التقديس الموهوبة له من الله.

في العهد الجديد نلاحظ التركيز على دعوة الإنسان إلى العيش بحسب الروح وتجنّب الحياة بحسب الجسد مع تحليل مفصّل لكلا الحالتين وبيان النتيجة التي تقود اليها كلّ منهما. أنظر (غلا5، 19)، (رو8: 13)، (1تسا4: 3،8)، (أف1: 14)، 2كور3: 6)، (2تسا2: 13).

يتضح لنا من الآيات المذكورة أنه بقدر ما يحيا الإنسان بحسب الروح، يميت أعمال الجسد ويغتني بشركة الروح القدس إلى أن يتقدّس كليّاً (1تسا5: 23).

إن جهاد الإنسان هذا للتنقي من الاهواء مدعوم بنعمة الروح القدس. القديس مرقس الناسك يقول: “لا يمكننا أن نقوم بأي عمل في سبيل قداستنا بمعزل عن النعمة”.

ما هو دور الإنسان في التقديس؟

التقديس نعمة من الله يجاهد الإنسان ليحصل عليها وجهاده يهدف الى:

  • المحافظة على نعمة القداسة المعطاة له أولاً لذلك يقول القديس بولس “… بل أقمع جسدي وأستعبده، مخافة أن أكون أنا نفسي مرفوضاً بعدما وعظت غيري” (1كور: 27:9).
  • العمل بمشيئة الله ليكون قادراً أن يحصل على قداسة أكمل أو أعمق. أي المشاركة الكاملة بنعمة الثالوث القدوس، لذلك يقول القديس بولس: “بسبب هذا أحني ركبتي لدى أبي ربنا يسوع المسيح الذي منه تسمى كل عشيرة في السموات وعلى الأرض. لكي يعطيكم بحسب غنى مجده أن تتأيدوا بالقوة بروحه في الإنسان الباطن ليحلّ المسيح بالإيمان في قلوبكم وأنتم متأصلون ومتأسسون في المحبة حتى تستطيعوا أن تدركوا مع جميع القديسين ما هو العرض والطول والعمق والعلو وتعرفوا محبة المسيح الفائقة المعرفة لكي تمتلئوا إلى كل ملء الله”.
  • التألّه:

التألّه بحسب تقليد الكنيسة الارثوذكسية هو هدف الله من خلق الإنسان. ولكن الإنسان بسبب سقوطه في الخطيئة لم يتمكن من الوصول إلى التأله. لذلك وجب أن يتجسّد ابن الله الكلمة. نقرأ في طروبارية البشارة: “…، لقد خاب آدم قديماً فلم يعد الهاً كما كان قد اشتهى، فصار الإله إنساناً لكي يصير آدم الها…” ويؤكد القديس غريغوريوس اللاهوتي أن “الغني يفتقر، يفتقر من أجلي بالجسد، لكي أغتني أنا بألوهته” (كلمة في الظهور الإلهي). وكذلك القديس اثناسيوس يقول أن المسيح “تجسد لكي يؤلهنا”.

التألّه ليس تغييراً للطبيعة البشرية ولكنه سموّها وارتقاؤها.

  • كيفية وصول الإنسان إلى التألّه:

مع أن قاعدة التبنّي هي الحصول على الخلاص بالمسيح عن طريق الأسرار ولكن التألّهلا يتم فقط بالمشاركة في هذه الأسرار بل يُكتسَب بالجهاد ضد الشيطان ومعاثره وممارسة الفضائل والأعمال الصالحة. والقديسون بصفة خاصة هم المجاهدون والنساك.

يتنقّى الإنسان في جهاده ضد الشيطان بتغلّبه على أهوائه: أي بعدم الغضب، بالاتّضاع، بعدم محبة المال، بالصوم، بالعفة، ويرضي الله بقدر ما يسلك بحسب مشيئته بالصلاة، بالتوبة وبمحبته له من كل قلبه وذهنه.

إن تنقية الإنسان لذاتّه وممارسته للفضائل ليست هي الهدف بحد ذاتها ولا تكفي لأن يصل الإنسان إلى التألّهبل إنها الواسطة فقط إلى ذلك وهي ما تجعل الإنسان مؤهلاً لتقبل عطية الله، وهذا ما نفهمه جلياً من أقوال الآباء: يقول القديس باسيليوس الكبير “الذين يتخلّون عن الأرضيات مرتفعين فوقها يصبحون مستحقين للشهادة لعطية الروح القدس”. وفي المجال نفسه يقول القديس سمعان اللاهوتي الحديث: “أن الأعمال الصالحة مشكورة ولكنها تنتهي إلى الصفر وتتلاشى عندما يتوقف ذاك الذي يؤديها عندها ولا يسعى لأن يتناول من قداسة الله، لأن كل الأعمال الصالحة تتمّ في سبيل الوصول إلى هذا الهدف”. (الكلمة16،4)

هذا التقليد الذي لم يتغير، نجده أيضاً عند القديسين الحديثين، القديس سيرافيم ساروف يكتب: “أن الصلاة والصوم والسهر وكل الأعمال المسيحية مهما تكن جيدة بحد ذاتها وبالرغم من أنها وسائل ضرورية للحصول على شركة الروح القدس ولكنها ليست هي وحدها هدف الحياة المسيحية. هدف الحياة المسيحية هو نيل نعمة الروح القدس” (من حديث مع موتوبيلوف).

  • ما هو التألّه:

مما سبق يتضح لنا أن التألّه هو شركة الروح القدس. والآباء يتكلمون بوضوح عن التألّه بشركة الروح القدس. وهذه الشركة تتمّ بنعمة الله فقط وليس في جوهره. وأما الفرق بين القديسين الذين هم في شركة الروح القدس وبين البشر الآخرين الذين تظهر من خلالهم أعمال الروح القدس، فهو شاسع كما يقول القديس غريغوريوس بالاماس. لأنه طالما بقي الشرّ في الإنسان وطالما أنه لم يتنقَّ كلياً لا يستطيع أن يتقبّل موهبة الروح القدس. ولهذا يدعى القديسون : “صديقين كاملين” “حاملين المسيح” “حاملين الروح” المتوشحين بالله، هياكل الله. ومن هنا نفهم القول “عجيب الله في قديسيه” “وفي القديسين تستقرّ وتستريح”.

  • نتائج التألّه:

بشركة الروح القدس يتألّه الإنسان بكليّته (انظر 1تس5،23) أي بالروح وبالقوى (بالأفعال) وكذلك بالجسد.

أ – تألّه النفس (التفكير والإرادة):

إن البشر يصلون إلى التألّه، يعيشون بحسب الروح كما ذكرنا سابقاً والدعوة (كونوا قديسين، لأنني انا قدوس) (1بطرس16:1) أو (كونوا رحماء لأن اباكم رحوم) (لو36:6)، ليست سوى دعوة إلى الإرتقاء بالفكر والإرادة إلى فكر الله وإرادته.

وتتحقق هذه الدعوة بتألّه الإنسان حيث يعود ليأخذ الصورة الأولى والمثال الذي منحه إياه الله عند الخلق. عند القديس مكسيموس المعترف نجد أن الإنسان لا يصبح فقط صورة المسيح الحية، بل هو المسيح نفسه بالنعمة أو بالتمثّل”. نتيجة هذا التألّه هو عودة الإنسان إلى حالة ما قبل السقوط واستتباب السلام بينه وبين الحيوانات المتوحشة وعوامل الطبيعة.

وهكذا نجد قديسين يسيرون على وجه الماء ويتصرّفون إزاء الحيوانات المتوحشة وكأنها أليفة وهي تخضع لهم مثلاً (القديس أنطونيوس، جراسيموس الأردني، سيرافيم ساروف…).

بالتألّه يكتسب القديسون المحبة الكاملة، التواضع، الإستنارة، محبة الحقيقة، وهكذا يصلون باستنارتهم بالروح القدس إلى مستوى الوحدة في جوهر تعليمهم وإن اختلفت أساليب تعبيرهم التي يفرضها الزمان والمكان.

ب – تألّه القوى (الأفعال):

إن تألّه القوى هو نتيجة طبيعية لتألّه النفس. بالتألّه يمتلىء الذهن والقلب والإرادة والجسد بنعمة وقوة الله. المتألّهون لا يسمّون ويرتقون بالطبيعة فقط ولكنهم يكتسبون القوة الإلهية ذاتها كما يقول القديس غرغوريوس بالاماس. وبهذه الطريقة تصبح أقوال الإنسان، قواه وأعماله تعبيراً عن النعمة والقوة الإلهيتين. ويؤكد القديس نفسه أن المتألهين يتصرفون باسم الله وعوضاً عنه كما الملائكة القديسين” (الفصل التاسع عشر من الشركة المؤلّهة).

القديس باسيليوس الكبير يعلّمنا بوضوح “أن النفوس الحاملة الروح تتخفف وتصبح روحانية وليست هي فقط بل أنها تشعّ بالنعمة نحو غيرها أيضاً (عن الروح القدس الفصل التاسع).

ما هي القوى الإلهية التي تلاحظها عند القديسين؟

  • – نعمة معرفة خفايا القلوب.
  • – النبؤة: أي معرفة ما سيحدث مستقبلاً.
  • – القدرة على اجتراح العجائب المختلفة مثلاً: شفاء المرضى، إخراج الشياطين… الخ وهذا ما وعد به السيد: “الحق أقول لكم، إن من يؤمن بي فالأعمال التي أنا أعملها يعملها هو أيضاً ويعمل أعظم منها” (يوحنا14: 12).
  • – الحياة الإلهية: إن الحياة الإلهية هي البرهان الرئيسي على تألّه الإنسان كما يقول القديس غريغوريوس بالاماس. فبما أن التألّه هو شركة الروح القدس لذلك فإن الذين استحقوا التألّه يقبلون مواهب وثمار الروح القدس، ومن بينها تأتي بالدرجة الأولى المحبة التي هي بحسب القديس بولس أفضل الطرق (1كور12،31) وأعظم المواهب (1كور13،13) ورباط الكمال (كولو3،14). لذلك فالقديسون هم أهل المحبة قبل كلّ شيء.

بعد كل ما تقدّم نجد من الضروري أن نذكر أنه بالرغم من أن نعمة الروح القدس تكون ساكنة في القديسين دائماً، إلا أنهم لا يتصرّفون دائماً بالقوة والفعل الإلهيين، ولكن كما يقول القديس باسيليوس الكبير “بحسب الحاجة” (عن الروح القدس الفصل 26). أي أنه في الأحوال العادية يتصرف القديسون كبشر عاديين بسيطين. ونلاحظ أن القديسين ليس فقط لا يسعون إلى فعل العجائب، بل على العكس، إذ إنهم يحاولون تجنبها. خاصة أنه من أهم ميزاتهم التواضع وعدم الأنانية ويعتبرون الضجة التي تثار حول شخصهم وإسمهم خسارة لهم وهذا ما يميّزهم بشكل جذري عن الدجالين والمدّعين.

جـتألّه الجسد:

من أهم نتائج التألّه هو تقدّس الجسد وتألّهه. الجسد ليس سجناً للنفس كما يعلّم أفلاطون. وليس له هدف أرضي فقط. “أما الجسد فليس للزنى بل هو للرب والرب للجسد” (1كور 13:6). الجسد يجب أن يكون هيكلاً لله. وهيكل الله مقدس. إذن فالجسد يجب أن يتقدس بالكلية بالتألّه. وبالتألّه فقط يصل الجسد إلى كامل قيمته وليس في النظريات الإنسانية الحديثة. يقول القديس سمعان اللاهوتي بالحديث عن تألّه الجسد: “إن النفس التي أصبحت بتقدسها أهلاً لأن تكون شريكة في النعمة الإلهية، تستمر بالضرورة بتقديس كامل هيكلها. لأنها حيث تكمن في هذا الهيكل وتوجد في كافة أعضائه. لذلك فنعمة الروح القدس، عندما تسكن في النفس تسكن أيضاً في هيكلها. ولكن طالما بقيت النفس في هذا الهيكل فإن الروح القدس لا ينقل هيكلها بالكامل إلى مجده لأنه من الضروري أن تكون لها حريتها وأن تبدي رغباتها وتظهر إرادتها إلى أن تنتهي حياتها الأرضية. وعندما تنفصل النفس عن الجسد يتوقف الجهاد. فإن انتصرت النفس وانفصلت عن الجسد حاملة إكليل عدم الفساد، حينئذ تسكن نعمة الروح القدس وتقدس بالكلية هيكل هذه النفس ولذلك نجد عظام وبقايا القديسين تفيض أشفية تداوي كل ضعف.

إن انفصال النفس عن الجسد يحرر الإثنين معاً من حاجة كل منهما إلى الآخر ومن تأثير أحدهما على الآخر وبذلك فإن النعمة الإلهية تفعل في كليهما بدون أي عائق حيث يصبح الإثنان بكليتهما لله تسكن فيهما النعمة الإلهية بعد أن قضيا حياة لائقة بالألوهة عندما كانا معاً. أما عند الدينونة العامة فإن الجسد أيضاً يكتسب عدم الفساد الذي منحه الله للنفس عند تقديسها (الكلمة الرابعة – الفصل الرابع).

القديس أثناسيوس يقول في ذلك أيضاً: “إن النعمة الإلهية توجد في نفوس وفي أعضاء القديسين” (شرح المزمور 117).

كذلك القديس مكاريوس يقول: “كما تمجّد جسد المسيح عندما تجلّى على الجبل بالمجد الإلهي وبالنور الذي لا يغرب، كذلك تتمجّد أجساد القديسين وتلمع. وكما أن المجد الكائن في جسد المسيح أشرق مضيئاً، كذلك أيضاً تفيض قدرة المسيح في ذلك اليوم وتشعّ خارج أجسادهم (الكلمة15،38).

وكلما كانت المساهمة في شركة الروح القدس أغنى كلما ازدادت قداسة الأجساد أيضاً. القديس يوحنا الذهبي الفم يقول: “بالموت لا تتغرب أجساد القديسين عن النعمة التي كانوا يحيون بها، بل تزداد بها” (في مديح أحد الشهداء).

نتائج تألّه الجسد هي:

أ – لمعان الوجه: أول إنسان لمع وجهه كان موسى (خروج34، 29 – 35) ثم القديس أنطونيوس، سيسوي، موسى الحبشي، وآخرون…..

ب – انتقال نعمة التقديس باللمس: هكذا نجد أن ما مسّ جسد القديس بولس لم يكن مقدساً فحسب بل كان ينقله أيضاً إلى الآخرين (أع19:12).

جـ – إفاضة الطيب: من القديسين المفيضين الطيب: الشهيد ديمتريوس، نيلوس، سمعان، نيمانيا الذي أسس دير خيلانداريوس، القديس الشهيد اغثانجلوس، القديس سيرافيم ساروف… وغيرهم…. .

د – عدم فساد البقايا المقدسة: لدى الكنيسة الأرثوذكسية العديد من بقايا القديسين التي لم ينل منها الفساد بالرغم من الزمن الطويل الذي مرّ عليها. نذكر مثلاً بقايا: القديس اسبيريدون، ديونيسيوس، جراسيموس، الإمبراطورة ثيوذورة…

هـ العجائب التي تجرى بواسطة البقايا المقدسة

و – تمجيد الجسد في الحياة الحاضرة وبعد القيامة العامة.

Leave a comment