نذر الاستقرار

نذر الاستقرار

الأب أنطوان ملكي

 

في التقليد الرهباني، يقدّم الراهب ثلاث نذور: الفقر، العفة، والطاعة. في خدمة إلباس الإسكيم للراهب يسأله الكاهن سلسلة من الأسئلة: “أتلبث ثابتاً في الدير وفي النسك حتّى نسمتك الأخيرة؟ أتخلص الطاعة للرئيس ولسائر الإخوة بالمسيح حتّى الممات؟ أتحتمل بصبر جميع أحزان السيرة الرهبانية وضيقاتها لأجل ملكوت السماوات؟ أتحفظ ذاتك في البتولية والعفة والورع؟” ويجيب الراهب: “نعم، بمؤازرة الرب أيها الأب المكرّم”. بالإمكان اعتبار هذه الأسئلة وكأنها طقس اتّخاذ النذور. فالسؤال عن الطاعة واضح، وعن الضيقات أو الفقر واضح، وعن العفة واضح. ما هي هذه النذور؟ ماذا عن السؤال الأول حول الثبات في الدير؟ وماذا عن العلمانيين؟

الفقر

إذ ينذر الراهب الفقر لا يعود يقبل أن يقتني أي ملكية، ولهذا هو يوزّع كل ما يملك قبل دخوله الدير أو يهبه للدير نفسه. طبعاً، الممارسة التقليدية لم تعد هي نفسها في كل مكان. لكن قوانين الكنيسة المتعلّقة بالأديار إذا وُجدَت، في العالم كما في أنطاكية، تنظّم احتفاظها بممتلكات الراهب السابقة ويلحظ بعضها نقلها للدير. المهمّ أن الراهب لا يقتني، وبحسب القديس باسيليوس الكبير، الأديار نفسها لا ينبغي أن تقتني. فالمقصود في قوانين القديسين ليس التخلّص من القنية بمعناها المادي وحسْب، بل التخلّص من التعلّق والقلق المرافقين للقنية ولتنظيمها وتطويرها. من هنا أن فكرة الدير/المصنع أو الدير/المعمل أو الدير/المزرعة ليست موجودة في التقليد الأرثوذكسي. الراهب يعمل لا ليعيش وحسب بل الأهم من ذلك أنه يعمل ليتخلّص من البطالة، والأدب الرهباني زاخر بهذا التعليم. ومن هنا أيضاً أن الفكرة التي سادَت، وما يزال كثيرون من داخل الكنيسة يؤمنون بها، بأن الراهب شخص غير منتِج ليست صحيحة، وهي إن دلّت على شيء فعلى أنّ قائلها أو متبنّيها لا يؤمن بالصلاة. فالصلاة هي عمل الراهب الأول والأساسي. من هنا أن الراهب لا يقتني شيئاً كي لا يكون عنده همّ غير الصلاة.

العفة

النذر الرهباني الثاني هو العفّة. من أسماء الرهبنة الحياة الملائكية، حيث يجاهد الرهبان ليسلكوا كالملائكة. الصلاة المستمرّة هي عمل الملائكة لذا يسعى الرهبان إلى السلوك عينه. الملائكة غير جسمانيين لذا هم بلا مقتنيات وهذا ما يقوم به الرهبان أيضاً. وكون الملائكة غير جسمانيين فهم لا يزوّجون ولا يتزوّجون ولا يخضعون لمتطلبات الجسد. من هنا أن الرهبان في نذرهم العفة، أي البتولية مصحوبة بالورع، يسلكون كالملائكة، أي يسعون إلى أن يبلغوا رتبتهم وسلوكهم، فيحاربون لا خطيئة الجسد بل أيضاً الفكر الذي قد يؤدّي إليها. وهذا يكون عن طريق ترويض الجسد بما يتفق مع الحياة التي اختاروها. في هذا جهاد عظيم، إذ إنه ليس في وجه شهوة الجنس وحسب بل أيضاً غيرها من الأهواء التي بتنا لا نلحظها أحياناً في حياتنا اليومية، كالشهوة للطعام والتفنن في الملبس والتعطّر وغيرها، مما يتحكّم في إنساننا “الاجتماعي” المعاصر.

الطاعة

النذر الرهباني الثالث هو الطاعة لرئيس الدير، أي الأب الروحي أولاً، ولكل إنسان آخر من ثمّ. تحقيق هذا النذر يتطلّب من الراهب لا تواضعاً وحسب، بل انسحاقاً داخلياً ترفضه فلسفات هذا الدهر وعلوم نفسه واجتماعه. هذا لا يتحقق بين ليلة وضحاها، بل ينتج عن تدريب وتفاعل ورعاية وتردد وصراع داخلي بين ما نتربّى عليه في منازلنا عن كبر النفس وحرية الفرد وغيره وبين ما خطّه الآباء القديسون من خبرات سكبوها بشكل تعليم وأحياناً قوانين. إلى هذا، يتمادى الشيطان في محاربته للمريد في هذا الميدان أكثر من غيره، فيحرّك عاطفة المريد في اتجاهات مختلفة. فلدى البعض يغذي التعلّق العاطفي بالأب الروحي، إلى أن يهدم هذا البناء العاطفي في لحظة ما حين يحوّل هذا التعلّق إلى ثورة وتمرّد كارثيين إذا كان ينقص الأب الروحي، أو الأم الروحية، التمييز والبصيرة الروحية الكاملة. غالباً ما تكون هذه الثورة وراء تراجع المريدين عن محراثهم ونظرهم إلى الوراء وبالتالي تركهم الدير، ما قد يكون انتحاراً روحياً بالنسبة إليهم، قد يتحوّل انتحاراً جسدياً إذا ما تمكّن الشرير منهم. الاتّجاه الآخر الذي يستغلّ الشيطان عاطفة المريد من خلاله هو تغذية تعلّقه العاطفي بالأب الروحي وإقناعه بأن هذا هو التواضع الحقيقي وبالتالي هذه هي القداسة، فيقتنع المريد بأنه قد حقق قداسته الذاتية وبالتالي فإن طاعته، الناتجة بالحقيقة عن التعلّق لا عن التواضع، هي مصدر القداسة ولا حاجة للجهادات الأخرى. قد تتحوّل الطاعة تملّقاً طفولياً، يلاحظه زوار الدير حين يرون هذا الراهب، أو الراهبة، كالصنم في حضور الأب الروحي، بينما تتخطّى اجتماعياته أبناء المجتمع في غياب أبيه.

لا بدّ عند  الكلام عن الطاعة من التوقّف عند الأب الروحي نفسه. فصاحب التمييز يعرف حدود تلميذه، فيعرف كيف ينتقل بين الرئاسة والأبوة، أو الرئاسة والأمومة. إلى هذا، لا تنشأ موهبة التمييز لديه كعطية من الروح القدس وحسب. بالتأكيد، هي عطية من الروح، لكنها تتكوّن وتنمو من عيشه كإبنٍ لفترة لا يعرفها إلا الله. من هنا خطورة تسليم الرئاسة إلى الذين لم يختبروا هذه الحياة بما يكفي. ليس كل الرهبان رؤساء أديار أو آباء روحيين، فالعملية ليست تطوراً وظيفياً يُحتَسَب بالسنوات، بل هي نمو روحي مشعٍ يلحظه الإخوة في الدير، من هنا أن قوانين الرهبان تخدد أن اختيار الرئيس يأتي من انتخاب الإخوة وليس من تعيين المطران. المطران يثبّت ما تختاره الجماعة وليس العكس. فأن يفرض الأسقف رئيساً على دير ما، يعني أنه، بالدرجة الأولى، ليس فاهماً لديناميات حياة الدير وأن تعاطيه مع تطوّر الحياة الروحية ونضج الإخوة هو تعاطٍ نظري. يعود هذا التعاطي بالدرجة الأولى إلى أن كثيرين من المطارنة، في العالم الأرثوذكسي عامةً وفي أنطاكية بوجه خاص، ينظرون إلى الأديار على أنها معامل خياطة أو مزارع خضار أو في أفضل الأحوال مكاتب ترجمة. إن هذا التعاطي القليل الحكمة يعرّض جماعة الدير للانقسام أو بعضها للتمرد. في نهاية الأمر، الرهبان بشر، وبالتالي يخطئ مَن يظن أنّ بمجرّد دخول الدير يصير الإنسان راهباً. في سيرة القديس سيصوي الكبير أكبر أمثولة حيث أنه وقد تخطّى المئة من العمر كان لا يزال يسعى إلى أن يتوب.

النذر الرابع: الاستقرار

يشير السؤال الأول إلى نذر هو الاستقرار في الدير، ما معناه في الممارسة الرهبانية أن الراهب يبقى ملازماً ديره ولا ينتقل من دير إلى آخر. وهذه الفكرة قديمة، إذ قبل أن تَرد رسمياً في أي من القوانين، كان القول من آباء الصحراء: “اثبت في قلايتك، وقلايتك تعلّمك كل شيء”. لا يبدو الثبات أو الاستقرار صعباً جداً، وقد يبدو أقل صعوبة من الفقر والعفة والطاعة. لكن الحقيقة هي أنه الأكثر صعوبة. “شيطان نصف النهار” الذي نذكره في صلواتنا هو من أعتى محاربي الرهبان منذ البداية، وهو يتميّز  بإثارة الميل إلى ترك القلاية وزيارة الآخرين حيث يحذّر الآباء من النميمة وغيرها مما هو أسوأ منها من التجارب. الثبات في القلاية هو المعركة الأقسى ونراها في شكلها الأكثر تطرفاً عند العاموديين، أي الرهبان الذين عاشوا على العواميد، كالقديس سمعان.

إن هذا الاستقرار يطرح مشكلة يتأثّر بها بعض الرهبان كما العلمانيين. فبسبب توفّر وسائل النقل والاتّصالات، صار سلعة نادرة في عالمنا المعاصر حتّى صرنا نعرف، والبعض يقبل، وجود رهبان جوّالين في العالم. قد يبرر البعض هذا الأمر بأن هناك حاجة إلى مبشّرين، وهي ليست أقل حدة منها في القرون الأولى للمسيحية، والمفتَرَض أن الرهبان هم الأكثر تمسّكاً بالصورة الرسولية وبالتالي يجب أن يُفرَز بعضهم لهذه البشارة. إذا صحّ هذا الكلام فهو لا ينطبق على كل الرهبان، وبالتالي ينبغي أن يكون اختيارهم قائماً على أعلى درجات التمييز ومن أولئك الذين ثبُت موتهم للعالم والقادرين على الاحتضان الروحي لا العاطفي، وعلى الإرشاد لا الاهتمام وحسب.

هل ينطبق هذا الكلام على غير الرهبان؟ وهل لغير الرهبان نذور؟ طبعاً، وهي نفسها التي للرهبان، كلٌّ في موقعه الذي سمح الله بوجوده فيه وأراد له القداسة هناك. ينبغي الفصل هنا بين الإكليريكي والعلماني. فما لا شكّ فيه هو أنّ الإكليريكي، إن لم يكن قد حقق هذه النذور قبل سيامته، لا يستحقّ السيامة ولا الكهنوت. هناك كلام كثير، القديم منه والحديث، القانوني منه والتعليمي، عن عفة الكهنة وفقرهم الطوعي وطاعتهم.

أمّا العلماني فالمفتَرَض أنّه يطيع كنيسته وأباه وأمه، الجسديين والروحيين، وكاهنه وزوجته وأولاده ورئيس عمله ووطنه والقوانين التي تنظّم مجتمعه وإرشادات أطبائه، وغيرها من الأمور التي تتطلّب تواضعاً وتدريباً وصوماً وتغلّباً على الذات وصبراً ومحبة وانفتاحاً واحتضاناً للآخرين. قد يمكننا القول أن طاعة العلمانيين، في القرن الحادي والعشرين، باتت أصعب من طاعة الرهبان. فللراهب مرجع واحد هو أبوه الروحي أو رئيس ديره ومنه يعبر إلى كل العلاقات الأخرى، بينما العلماني مفتوح على كل الجهات ومعرّض لتضارب الرغبات والطلبات والمتطلّبات.

أمّا العفّة عند العلمانيين فلا تقلّ تطلّباً عنها عند المتوحّدين، وهي شاقّة في التبتّل كما في الزواج. يشير الآباء الروحيون المعاصرون إلى أنها أكثر التحديات انتشاراً، فوسائل الإعلام والإعلان وحتى كتب المدارس كلّها تثير الغرائز وتحرّك شهوات الجسد والبطن والتبرّج والتعطّر وغيرها مما يتضارب مع السلوك العفيف إذا ما تخطّى حدود اللياقة والترتيب. هذا كله دون إغفال عفّة اللسان التي يهملها الكثيرون.

يبقى أن الفقر بمعناه الروحي هو تجربة عند العلماني في زمن الاستهلاك، كما أنه صعب بمعناه المادي. لكن المؤمن يتخطّى هذه التجربة بإشراكه الآخرين معه. حين يكون كل شيء مشتركاً تحلّ البركة ويتحقق الفقر الذي يغني الروح. والشركة هنا تعني أن يكون للفقراء حصة في كلّ ما للمؤمن، وليس أهل بيته وحسب. الشركة هي أن يكون للكنيسة حصة ثابتة، ولصندوق محبتها حصة ثابتة. أهمّ من كل هذا أن لا يكون التكديس همّاً عند العلماني، وهذا أمر ليس سهلاً في هذا الزمان وخاصةً في بلادنا. العلماني الذي يبلغ هذا المثال يكون قد وجد مدخلاً إلى تحقيق الفقر على المثال المسيحي.

أخيراً يبقى نذر الاستقرار وهو تجربة أخرى للمؤمن. فأحوال العلاقات الاجتماعية والاقتصاد والسياسة والأمن تهزّ استقرار المؤمن الداخلي بشكل مستمر. عدم ثبات العلاقات الاجتماعية يترك لدى الانسان حسّاً من عدم الاستقرار لأن عشراءه يتغيّرون، ومثله تبديل الوظائف أو المساكن حيث يتبدّل الجيران وأبناء الرعية والكاهن، وهذا التبدّل يهزّ الشعور بالاستقرار. الأمر أكثر وضوحاً في الكلام عن تأثير الاقتصاد والسياسة والأمن، فالتهجير أو الهجرة او الانتقال تبعاً للرزق، كما الخوف مما قد يأتي، كلها لا تثبّت الاستقرار في نفس الإنسان. قد يمنح الزواج شيئاً من هذا الاستقرار إذ يجعل تبديل الأماكن أكثر صعوبة. لكن ماذا عن الذين لا يلتزمون برعية والمتنقّلون بين الرعايا والأديار؟ أين استقرارهم الناتج عن التزامهم برعية واحدة وراعٍ واحد، مع ما ينتج عن هذا الالتزام من الصبر وبذل الذات وبالتالي من الطاعة والمشاركة؟ إن ظاهرة العلمانيين الجوالين الآخذة في الترسّخ هي على نفس القدر من الخطورة التي في ظاهرة الأديار الرعايا وينبغي على الرعاة، بدءً من الأساقفة، التنبّه لها.

خاتمة

يمرّ الكثير من الشباب الملتزم بالكنيسة، شباناً وشابات، في مرحلة يتصدّرها سؤال مهم حول اختيار الرهبنة أم الزواج. السؤال بطبيعته يفتقر إلى الدقة لأنه من غير قصد يضع الرهبنة إزاء الزواج. قد يكون بين البتولية والزواج إزائية ما، لكنها ليست بين الرهبنة والزواج، خاصةً في زماننا المعاصر. فما هو مطلوب من المؤمن هو نفسه بالمبدأ مع اختلاف الأشكال. قد يرى البعض جرّاء انتشار الأدب الرهباني بين المؤمنين أن السيرة الرهبانية هي السبيل الوحيد إلى الخلاص. كما قد تفسَّر بعض الاقتباسات من الأدب الآبائي على أنها تضع الرهبان في مرتبة أعلى من الإكليروس والعلماني. لا مراتب في القداسة، بل سعي إليها كلّ في موقعه، وبما أعطي من الوزنات أو ما اتّخذ من المواقع.

لا يهدف هذا الكلام إلى التقليل من أهمية نذور الرهبان أو صعوبة سيرتهم. بل على العكس الهدف هو تثبيت العلمانيين الذين قد اتخذوا خيارهم، ومساعدة الذين ما زالوا يتصارعون مع خياراتهم. المهمّ أن يعيشوا للرب إذا عاشوا وأن يموتوا للرب إذا ماتوا. لكن الأهمّ هو أنّ شكل هذه الحياة أو هذا الموت ليس انتقاءً من بين خيارات بل هو نضوج يُبلَغ إليه في سلوك إنجيلي ضمن جو روحي، يبدأ في البيوت ويمتدّ إلى الرعايا ومن خلالها إلى العلاقة مع الأديار، وتحت كنف أب روحي مختبِر مرشد إلى الخلاص.

Leave a comment