قصص قصيرة

إعداد راهبات دير القدّيس يعقوب الفارسيّ المقطّع

 

 

رسالة إلى قاتل ابنه

 

حبيبي،

ربّما تتعجّب عندما ترى أنّ هذه الرسالة هي منّي، ولكنّي أطلب منك أن تقرأها بتمهّل، لأنّ عندي أخبارًا مهمّة أقولها لك:

أوّلاً، أنا سامحتك، من كلّ قلبي.

صحيح أنّك اشتركت في مؤامرة قتل ابني الحبيب، ولكنّي سامحتك.

أثناء محاكمتك، عندما اعترفت بدورك ومشاركتك في الجريمة وطلبت الصفح، وقتئذ سامحتك من كلّ قلبي.

آمل أن تثق في ذلك وتصدّقه، وتتقبّل غفراني وصفحي.

ولكن، ليس هذا كلّ ما لديّ… فأنا أريد أن أتبّناك… أن تكون ابنًا لي تعيش معي، وتتمتّع بكلّ ما لديّ من خيرات وترث مملكتي.

لقد رتّبتُ الأمور حسنًا، فإذا قبلتَ أبوّتي تسقط عنك كلّ التهم وعقوبة الإعدام، وتُطلَق حرًّا لتصير ابنًا لي.

ويجب عليك أن تعرف أنّك ملتزم بكلّ واجبات البنوّة من طاعة لأوامري ووصاياي. ربّما ترفض، إذ تعتقد أنّي سأطلب منك ما هو فوق طاقتك، أو إنّي سأقيّد حرّيّتك، ولكن إن أحببتني من كلّ قلبك، فستعرف أنّ كلّ ما أطلبه منك هو في النهاية لخيرك وصالحك.

وإن ظننتَ أنّي سأعاقبك عند مخالفتك لكلامي، فلا تقلق. لقد سامحتك عند موت ابني، وسوف أسامحك، دومًا، عندما تطلب منّي ذلك من كلّ قلبك.

إن قبلت عرضي هذا، فأتمنّى أن تناديني من الآن فصاعدًا “يا أبانا”.

أحبّاءنا، هذه الرسالة موجَّهة لنا جميعًا، فهل نردّ جوابًا بالقبول؟!!

 

 

 

صليب وقيامة

جلس الشابّ الروسيّ مع أحد المبشّرين بالمسيح يستمع بإصغاء شديد إلى قصّة سقوط البشريّة وحتميّة التجسّد الإلهي… وأخذ المبشّر يروي له عن المسيح الذي نزل إلى أرضنا، وأخذ يجول ويصنع خيرًا ويشفي كلّ مرض في الشعب، ثمّ بدأ يروي له عن تعاليم المسيح ووصاياه، ثمّ عن حقد رؤساء اليهود وكراهيّتهم.

وكان الشابّ الروسيّ مشدودًا بأقوال المبشّر، وبدأ يشعر بالحبّ والجاذبيّة تجاه هذا الإله المحبّ العجيب.

استمرّ المبشّر في الشرح حتّى وصل إلى أحداث الصليب، ثمّ موت المسيح. وهنا صرخ الشابّ: “لماذا؟ لماذا مات؟ لقد بدأت أحبّه… كنت أظنّه أنّه لن يخذلني”. وجلس الشابّ على الأرض حزينًا، ظانًّا أنّ حياة المسيح انتهت إلى هنا. فأقامه المبشّر مطمئنًا إيّاه أنّ المسيح بعد ما مات ودُفن غلب الموت وقام من الأموات. فقفز الشابّ طربًا، وأخذ يصيح مع المبشّر: “المسيح قام… المسيح قام”.

أحبّاءنا، هل تعتقدون أنّه من الممكن أن يموت المسيح على الصليب وتنتهي الأحداث من دون قيامة؟! بالتأكيد لا. لأنّه لولا القيامة لبقي التلاميذ خائفين في علّيّتهم، وظلّت مريم المجدليّة باكية عند القبر، ولم تبشّر الجميع بالخلاص. ثمّ إنّ الموت لا يقدر أن يُمسك المسيحَ، بل إنّ المسيح بالصليب والقيامة أبطل الموت وسحقه.

إذًا، لا يوجد صليب من دون قيامة، فإنْ كان المسيح أوصانا بأن نحمل صليبنا ونمشي وراءه، فهو بذلك يريد أن يدخلنا إلى القيامة. فنحن لن نتمتّع بفرح القيامة وانتصارها ومجدها إلاّ بالدخول، أوّلاً، في مدرسة الألم والباب الضيّق وحمل الصليب.

أحبّاءنا، في كلّ مرّة تستيقظون باكرًا للصلاة وحضور القدّاس الإلهيّ، أو تسهرون قليلاً في الصلاة، أو تتعبون قليلاً محبّة بالمسيح بتأديتكم خدمة ما، فأنتم تدخلون مدرسة الألم. في كلّ مرّة تغصبون أنفسكم لعمل صالح كالصوم أو الصدقة أو التسامح، فأنتم تدخلون من الباب الضيّق المؤدّي إلى القيامة. وثقوا أنّه لا يوجد صليب بلا قيامة، وإنّ الباب الضيّق يؤدّي إلى الحياة، إذ إنّه بعد كلّ صليب قيامة.


حادثتا احتضار

دُعي الكاهن الأب ثاوذورس لمناولة القربان المقدّس لشخصين كانا على وشك الانتقال إلى ربّهما. الواحد منهما كان رجلاً غنيًّا عنيدًا وبخيلاً، والآخر كانت أرملة فاضلة أنشأت ثمانية أولاد على الصدق ورجاحة العقل في ظروف من الفقر المدقع والعمل الشاقّ.

رافق الأبُ ثاوذورسُ الشمّاسَ لفرنديوس وهو يحمل بيديه القربان المقدّس. زارا، أوّل الأمر، الرجل الغنيّ، الذي ما إن علم بحضور الكاهن حتّى رفض مقابلته، وأخذ يصرخ بقوّة: “لا أريد أن أتناول، فأنا لا أحتضر، لماذا جئت إليّ؟ اغرب عن وجهي. احمل ما معك واذهب”. حاول الكاهن، بشتّى الوسائل، تهدئته، ولكنّه أصرّ على الرفض، ولم يقبل ببقاء الكاهن إلى جانبه ولو لوقت قصير.

وهنا سأل الشمّاس الكاهن: “هل يمكننا، يا أبتِ، أن نذهب إلى السيّدة ماريّا ريثما يهدأ هذا الرجل؟”. قبل الكاهن عرض الشمّاس، وذهبا إلى السيّدة ماريا. وعندما دخلوا بيتها المتواضع الفقير، شاهدوا أولادها وأحفادها، وكثير من الأقارب حول فراش المحتضرة، والكلّ يبكي عليها وينتحب لفقدها، إذ كانت لهم المثال الطيّب الحنون الوديع.

ما إن دخل الكاهن إلى الغرفة يرافقه الشمّاس، حتّى سمح لهما الله أن يريا نورًا بهيًّا يحيط بالسيّدة، وملائكة الله حول الفراش، يحاول كلّ منهم أن يمسح العرق المتصبّب على جبين هذه المرأة المباركة، عرق التعب والجهد الذي بذلته في خدمة أسرتها. وليس هذا فقط، بل رأيا والدة الإله وهي تحمل منديلاً تمسح به العرق عن جبينها، وكانت السيّدة ماريّا تهمس بابتسامة مشرقة: “افرحي يا عروسًا لا عروس لها، افرحي يا نقيّة، يا ملكة الكلّ وسيّدة البشر والملائكة”.

وعندما أزمع الكاهن أن يناول السيّدة حنى الملائكة وجوههم وسجدوا للكأس المقدّسة التي كانت تحوي دم الربّ وجسده الأقدسين، ثمّ أقبلت والدة الإله مع الملائكة، وقبّلوا الكأس المقدّسة بكلّ وقار وتقوى، وأومأت والدة الإله إلى الكاهن ليدنو من ماريّا ويناولها القدسات الشريفة.

وبعد أن تناولت، أخذ الملائكة روح هذه المرأة التقيّة، وسلّموها إلى يديّ والدة الإله، فصعدت بها تحتف بها الملائكة إلى السماء. أشرقت الغرفة برائحة العطر الجميلة، في حين كان الأب مع الشمّاس مشمولين بالانذهال والخشوع معًا، فأخذا يباركان الله ويمجّدانه، إذ أهّلهما لرؤية هذا الحدث العجيب.

وقبل أن يغادر الكاهن المنزل، سأل أحد أقارب المنتقلة عن سيرتها، فأجاب بأنّها كانت مثالاً في الخدمة والمحبّة، ليس فقط لأسرتها وأقاربها، بل، أيضًا، لكلّ من يسأل خدمة أو حاجة. لم تعرف التذمّر بعد فقد زوجها، بل قامت بكلّ وداعة وإيمان ثابت بالربّ بتربية أبنائها على محبّة الله والكنيسة، حتّى إنّها شجّعت إحدى بناتها لكي تتكرّس للربّ في أحد الأديار، وكانت هي فخورة بذلك لا تنفكّ طالبة صلوات ابنتها لكي يمنّ الربّ عليها بآخرة صالحة. غادر الكاهن والشمّاس البيت وهما متهلّلان لما سمعا وشاهدا، عائدين إلى الرجل البخيل.

وحالما دخلا اقشعر بدنهما، إذ رأيا مئات الشياطين حول سريره يلوّحون برماح رهيبة يخزون بها جسده في أماكن مختلفة: في الركبتين والقدمين واليدين والبطن والعينين… كانوا يخزون جميع أجزاء الجسد التي أخطأت بينما أخذ الرجل يصرخ متوجّعًا، فيما أُغمي على الشمّاس من الخوف والهلع.

حاول الكاهن، عبثًا، إقناع الرجل بأن يتناول الأسرار الطاهرة، ولكنّه أصرّ، أيضًا، على الرفض. وعندها غرز أحد الشياطين حربته في جوفه، فأسلم الروح من دون أن يعترف أو يتناول.

بكى الكاهن أسفًا على هذا الرجل، وعندما أراد الانصراف، استوقفه ابن الرجل قائلاً: “أرجوك، يا أبانا، أن تذكر أبي في صلواتك. فهو لم تكن حياته مرضيّة لله، إذ كثيرًا ما كانت المقاهي والسهر الليلي يخطفانه من عائلته، لا بل كان يدفعنا، نحن أبناءه لنحذو حذوه، مدّعيًا “أنّ العالم هيك”، بل كان يسخر منّا إن شاهدنا نصلّي أو نقرأ الكتاب المقدّس، وفي كثير من المرّات كان يمنعنا من الذهاب إلى الكنيسة. أمّا أمّي، فكانت نقيض أبي، تقيّة مؤمنة تحاول جاهدة لتطبيق الوصايا الإلهيّة، وتسهر على تربيتنا سهر من سيعطي حساب وكالته. لذلك، أعيد توسّلي، يا أبانا، أن تصلّي لأبي عسى الله يغفر له جهله وخطاياه”.

هزّ الكاهن رأسه وهو يقول: “من واجب الكاهن، يا بنيّ، أن يذكر العالم كلّه أحياء وأمواتًا، لأنّ الجميع أولاده، ولأنّه يبغي خلاص الجميع”. طأطأ الكاهن رأسه مشيرًا إلى الشمّاس أن يتبعه، ثمّ خرج وهو يهمس: حقًّا إن ما يزرعه الإنسان إيّــاه يحصــد.

 

صلاة خاطئة

أُصيب مرّة طفل وحيد لأرملة بمرض عضال حتّى شارف على الموت، ومن شدّة الحزن والألم واليأس حملته أمّه في ليلة مظلمة باردة، وأخذت تركض به في الشوارع متوسّلة بجنون إلى كلّ من تصادفه أن يصلّي لكي يُشفى وحيدها. وبينما هي تركض وقلبها يتمزّق ألمًا، إذا بها تصادف امرأة كانت خارجة لتوّها من نوبتها في بيت للخطيئة.

ركعت الأمّ الملتاعة أمامها، ووضعت طفلها، الذي كان يلتقط آخر أنفاسه، بين قدميها. كان الألم قد سلبها عقلها ورزانتها. أخذت تتوسّل إلى المرأة الخاطئة أن تفعل شيئًا، أن تصلّي معها لكي يتعافى وحيدها.

أمام هذا المشهد الرهيب وقفت المرأة الخاطئة مذهولة لا تعلم ماذا تفعل. فمن جهة كانت ترى الطفل يموت، وأمّه راكعة عند قدميها، وقد غرقت في بحر دموعها، ومن جهة أخرى أدركت أنّها إنسان غارق في الخطيئة، تعوزه الجرأة والشجاعة ليمثل أمام الله ويتضرّع لأجل هذا الطفل. لكنّ حالة تلك الأمّ كانت تذيب الحجارة، فما كان منها إلاّ أن سقطت هي الأخرى على الأرض، وأخذت تقول وهي تقرع صدرها والدموع الحارقة تحفر وجهها دون توقّف: “يا ربّ، لست مستحقّة أن أرفع نظري إلى السماء، ولا أن أتلفّظ باسمك القدّوس، لأنّ شفتيّ مدّنستان. لكن من أجل هذه المرأة والطفل أتوسّل إليك أن تفعل شيئًا…”.

ما كادت هذه المرأة تنهي تمتماتها، حتّى ظهر من السماء نور أضاء المكان، واستقرّ على هذه المرأة، المدعوّة خاطئة، وعلى الطفل.

أمّا الطفل، فاستعاد عافيته، وأمّا المرأة “الخاطئة”، فمن تلك اللحظة كانت قد وُلدت من جديد بعد أن اغتسلت بدموع توبتها.

 

صلاة ومحبّة

تروي إحدى السيّدات القصّة التالية التي حدثت معها: يعيش في منطقتنا كاهن بسيط جدًّا لكنّه معروف بقداسته وتقواه. عندما التقيت به لأوّل مرّة تعلّمت منه درسًا لا أنساه أبدًا.

اختلفتُ مرّة مع إحدى النساء في القرية القريبة منّي حيث أعيش. كانت مشاعر الكراهية تنمو داخلي تجاه تلك المرأة. فذهبت في أحد الأيّام لأشترك في القدّاس الإلهيّ في كنيسة ذلك الكاهن القدّيس. فجلست على المقعد، وبدأت أكتب أسماء الأشخاص الذين أودّ أن أذكرهم في الذبيحة الإلهيّة، وخطر ببالي قبل أن أقدّم الورقة، أن أكتب اسم هذه المرأة التي أشعر بالعداوة تجاهها، وهكذا فعلت.

عند انتهاء القدّاس الإلهيّ اقترب منّي الكاهن، وطلب منّي أن أنتظره ليقول لي شيئًا. انتظرته قليلاً، وعندما جاء قال لي: “يا ابنتي، يتوجّب علينا أن نكتب اسم من نعاديه أوّلاً، وبعدها نكتب باقي الأسماء. عندها، فقط، تنفتح أبواب السماوات، وتصل صلاتنا إلى الله مباشرة”. فتسمّرت في مكاني مذهولة من حكمة هذا الأب الكاهن وبصيرته التي وهبه إيّاها الله، لأنّي لم أخبره بقصّتي مع تلك المرأة، فكيف عرفها إذًا؟ وأنا لست وحدي الذي قدّم أوراقًا، فكيف عرف ورقتي إذًا؟ لا شكّ أنّ الله هو الذي ألهمه، وتكلّم فيه. فالمجد لله على الدوام.

أحبّاءنا، لا شكّ أنّ كلّ واحد منّا يتعرّض لصعوبات في حياته الاجتماعيّة وعلاقاته مع الآخرين. قد نشعر بفتور في محبّتنا أو عدم تقبّلنا للآخر، وربمّا نصل أحيانًا إلى حدّ نتعامل فيه مع الآخر على أنّه بغيض لنا، لا بل إنّه عدوّنا، وقد نقول: “لا أتمنّى أن اراه أبدًا”. لكنّ المسيح أوصانا أن نُحسن إلى من يسيء إلينا. إنّ الشرّ يقوَّم بالمحبّة، فقط، وعندما تتحوّل هذه المحبّة إلى صلاة حارّة عندها تصنع العجائب. يقول الأب باييسيوس: “إنّ الله يتأثّر عندما يرى محبّتنا، فيرسل نعمته بغزارة، وتنحلّ المشاكل التي كانت تبدو لنا مستحيلة الحلّ”.

Published
Categorized as قصة

Leave a comment