قوّتي في الضّعف تـُكمَل

قوّتي في الضّعف تـُكمَل

الأرشمندريت توما بيطار

“لا تخف، أيّها القطيع الصّغير”. الرّبّ يسوع هو الرّاعي، ونحن القطيع. والقطيع صغير، لا بمعنى العدد، بالضّرورة؛ بل بمعنى أنّه ضعيف، وأنّه معرَّض لهجمات الذّئاب؛ لأنّ اتّباع السّيّد يفترض أن يكون الإنسان خروفًا لله. وما دام خروفًا؛ فهو، في عالم الذّئاب، في موقع الضّعف؛ لأنّ الخروف لا يمكنه أن يصير ذئبًا؛ وإن تصرّف كذئب، كفّ عن أن يكون خروفًا للمسيح.

إذًا، طبيعة الحياة المسيحيّة تجعل الإنسان في حالٍ دائمة من الضّعف. وهذا، وإن كان صحيحًا بصورة دائمة، وإن كان يشكّل عثرة للعديدين، فإنّه مجال لنزول قوّة الله علينا. الله لا يستقرّ فينا، إذا كنّا أقوياء، بل ونحن في حال الضّعف؛ لأنّه يريد أن يكون هو قوّتنا. لذلك، نردّد في المزامير: “قوّتي من عند الرّبّ الّذي صنع السّماء والأرض” (مز120: 2). والرّسول بولس ينقل، صراحة، حوارًا له مع ربّه، يقول فيه الرّبّ: “قوّتي في الضّعف تُكمَل” (2كور12: 9). لذلك، وإن كان بعضنا يعثر لأنّه ضعيف؛ فإنّ علينا، بالإيمان، أن نثبت حتّى تحلّ علينا قوّة المسيح. تجربة المسيحيّين، عبر التّاريخ، كانت أنّهم كثيرًا ما أرادوا أن يكونوا أقوياء، ورفضوا أن يكونوا ضعفاء، وقالوا إنّ الرّبّ الإله يعينهم في مسعاهم. استعملوا السّيف، وقتلوا، والرّبُّ الإله كان قد قال لهم ببطرس: “ردّ سيفك إلى غمده، لأنّ كلّ مَن يأخذ بالسّيف، بالسّيف يُؤخذ” (متّى26: 52). المسيحيّون، في التّاريخ، كانوا، دائمًا، مجرَّبين بأن يكونوا ذئابًا. والرّبّ الإله أعطانا نفسَه ذرّيّةً جديدة: “هذا هو حمل الله الرّافع خطيئة العالم” (يو1: 29). ما دام الإنسان لا يقبل منطق الضّعف، فلا يمكن أن تحلّ عليه قوّة المسيح، بل يبقى في بشرته، ويستعمل الله ليدعم منطقه، وغروره، وتمسّكه بالقوّة، بحسب هذا الدّهر. يسوع يقول لهذا القطيع: “لا تخف”. المسيحيّون كانوا، وما زالوا، يتصرّفون بدافع الخوف، مع أنّ يسوع أعطاهم نعمة خاصّة لكي يقوَوا على الخوف الّذي فيهم. الإنسان المسيحيّ خائف، في كلّ الأحوال: خائف على مستقبله، على مصيره، على صحّته، على ممتلكاته… خائف كيفما تحرّك. ومَن كان في الخوف، فهو ليس مكَمَّلاً في الحبّ الإلهيّ؛ لأنّ الحبّ يطرح الخوف إلى خارج. لذلك، الرّبّ الإله يُسبغ على هذا القلب سلامه. لكنّ هذا السّلام لا يأتينا بصورة تلقائيّة. لا بدّ لنا من أن نمرّ بمراحل حتّى نقتني سلام المسيح وقوّته، وحتّى يتبدّد الخوف من أفقنا. أوّلاً، لا يمكن الإنسان إلاّ أن يشعر بالخوف. المهمّ ألاّ يستسلم له، وألاّ يجعل تصرّفاته بمثابة ردّ فعل على الخوف الّذي فيه. إذا انتابنا الخوف حيال أمر ما، كائنًا ما يكون، فإنّنا؛ أوّلاً، نصرخ إلى الرّبّ الإله: “أللّهمّ بادر إلى معونتي! يا ربّ، أسرع إلى إغاثتي” (مز69: 1)؛ وثانيًا، نتمسّك بما يَعـِدنا الرّبّ الإله به، ولو كنّا نشعر، في قرارة نفوسنا، بمَيل قويّ، وأحيانًا جامح، إلى فعل العكس. لا بدّ للإنسان من أن يعبر بمرحلة صراع مع نفسه: الرّبّ الإله يقول له شيئًا، ونفسُه تقول له شيئًا آخر! مَن يصدّق؟! عليه، إذا كان مؤمنًا بالرّبّ يسوع، أن يصدّق يسوع، ولو كان صعبًا عليه أن يقتبل كأسه! الكأس، في بداية الأمر، تكون مُرّة. لكن، بالصّلاة والثّبات، تتحوّل المرارة في نفوسنا إلى حلاوة. “مِن قِبَل الرّبّ كان هذا، وهو عجيب في أعيننا” (مز117: 23). إذًا، لا بدّ لنا من أن نصارع. نفسُنا ستقول لنا أشياء تخيفنا، وستبثّ فينا الشـّكوك، وسينتابنا الاضطراب. لكن، بالصّلاة والثّبات والانتظار، لا نلبث أن نجد أنّ المعادلة تتغيّر. مهمّ جدًّا أن نعي أنّ الله حيّ! الله ليس فكرة، وليس ميتًا! هو يريدنا، أوّلاً، أن نتعب ونجاهد، ولو قليلاً. وهو، لرقّته، لا يُحمِّلنا أكثر من طاقتنا. على العكس، حين نجد أنفسنا على وشك أن نغرق؛ إذ ذاك، نجد يده تمتدّ إلينا للخلاص. أليس هذا ما فعله الرّبّ يسوع ببطرس؟! بطرس أخذ يغرق، لكنّه صرخ: “يا ربّ، أَغـِثـْني”! للحال، لأنّه كان يغرق، مدّ يسوع يده وانتشله (متّى14: 30- 31). هكذا يفعل الرّبّ يسوع بكلّ واحد منّا، مهما كانت التّجربة الّتي يكون عُرْضَةً لها. الّذي لا يجاهد لا يمكنه أن يختبر أنّ الله حيّ. يبقى الله، بالنّسبة إليه، فكرة. الّذي يظنّ أنّ الله يكون معه إذا عرف أن يدبّر أموره حسنًا، في كلّ حين، فإنّه يضلّل نفسه. الله، في الحقيقة، لا نعرفه إلاّ في التّجارب؛ لأنّ الإنسان، في التّجربة، يختبر ضعفه. ومتى اختبر ضعفه، أمكنه لا فقط أن يختبر قوّة الله، بل أيضًا أن يميّز قوّة الله، بشكل واضح وصريح. في كلّ التّاريخ القديم، الرّبّ الإله كان يعمل في ضعف إسرائيل، ولم يعمل، ولا مرّة واحدة، في قوّة النّاس. كان ينتظر، دائمًا، أن يصيروا في الضّعف؛ وبعد ذلك، متى صرخوا إليه، يبادر إلى معونتهم. لهذا، فقط في التّجارب، يُعطى الإنسان فرصة أن يعرف الله إلهًا حيًّا، وإلاّ يسترسل طول عمره في التّنظير. ينظّر كثيرًا عن الله، ولا يعرفه. إذا كان قد قيل: “بضيقات كثيرة ينبغي أن ندخل ملكوت السّموات” (أع14: 22)، فهذا معناه أنّنا بضيقات كثيرة نأتي إلى معرفة الله كإله حيّ، وإلى علاقة حقيقيّة أصيلة به.

لهذا السّبب، إذا كان القطيع صغيرًا، فهذا من تدبير الله ومن بركاته، حتّى يتسنّى لهذا القطيع أن يتشدّد من فوق! “لأنّ أباكم قد ارتضى أن يعطيكم الملكوت” (لو12: 32). لهذا، لا تخافوا شيئًا! “بيعوا ما هو لكم وتصدّقوا”! اسلكوا كأحرار! الإنسان يحتاج إلى أن يتحرّر من خوفه، ومن كلّ موضوع له علاقة بهذا الخوف. هو يحتاج إلى أن يتحرّر من تمسّكه بأمواله، مثلاً! بيعوا وتصدّقوا! لا تخافوا! لأنّكم إن فعلتم ذلك، تجعلون لكم “أكياسًا لا تبلى وكنزًا في السّموات لا ينفد، حيث لا يقرب سارق ولا يُفسد سوس”. بقدر ما يسعى الإنسان لأن يتحرّر من موضوع خوفه – طبعًا بنعمة الله، إنّما بالوعي والجهاد، في آن معًا – ينمو في النّعمة والقامة، إذ “حيث يكون كنزكم هناك يكون قلبكم”. الإنسان الّذي يكون كنزُه اللهَ، هذا يجد قلبَه في الله، ويصير حرًّا كالعصفور. لا شيء، على الإطلاق، يبلّل جناحيه ويمنعه من التّحليق في آفاق الله. “لتكن أحقاؤكم مشدودة وسرجكم موقَدة”. بكلام آخر، كونوا، دائمًا، مستعدّين للتّجربة. التّجربة لا بدّ من أن تأتي، على كلّ صعيد. يُجرَّب الإنسان بأمواله، بصحّته، بالوضع الأمنيّ في البلد… يُجرَّب في كلّ الأحوال، ولا يعرف متى تأتي السّاعة الّتي يكون فيها عرضة للتّجربة. المهمّ أن تكون أحقاؤنا مشدودة. والحـِقّ هو ما نلبس في جهته السَّير لأجل الانطلاق، لأجل السّفر. الإنسان، حين يريد أن ينام ويسترخي، يفكّ سَيره. أمّا إذا أراد أن ينطلق، فيشدّ حقويه، يشدّ سيره وينطلق لأنّه في سَفَرٍ. نحن في حال سَفَر إلى وجه الله. هذا نفعله ليل نهار. “وسُرُجكم لتكن موقَدة”. طبعًا، ليس المقصود السّرُج المحسوسة، بل أنّ استعدادنا ينبغي أن يكون كاملاً، وعينا ينبغي أن يكون كاملاً، صلاتنا ينبغي أن تكون حاضرة، في كلّ حين: “صلّوا في كلّ حين. صلّوا ولا تملّوا” (لو18: 1). هذا هو السّراج الّذي يحتاج إليه الإنسان، وإلاّ يعيش في ظلمة قلبه، وتأتيه التّجربة ولا يقدر أن يحتملها؛ فيسقط. “وأنتم كونوا مثل أناس ينتظرون سيّدهم”. نحن في حال انتظار، دائمًا. مهما كانت التّجربة، نحن ننتظر مجيء السّيّد. السّيّد في حال مجيء دائم. “كونوا مثل أناس ينتظرون سيّدهم متى يرجع من العرس، حتّى إذا جاء وقرع يفتحون له للوقت”. أيّ عرس؟! العرس السّماويّ! الرّبّ يسوع قام من بين الأموات! السّماء في عرس، نحن مدعوّون إليه، ولا بدّ للمعلّم من أن يأتي ويأخذنا إليه! هذا ما وعدنا به! يأخذنا إليه، لكي تكون لنا شركة في عرسه، لكي نجلس إلى مائدته السّمويّة، لكي نفرح! هذا هو التّعبير عن الفرح في الملكوت. المهمّ أن نكون مستعدّين، دائمًا؛ حتّى يجدنا سيّدنا، متى جاء، في اليقظة، والانتباه، والوعي، والحضرة، لا متكاسلين، ولا سالكين في التّهاون، بل صاحين منتبهين، نؤدّي عملنا بحرص، وانتباه، وأمانة لله. “طوبى لأولئك العبيد، الّذين إذا جاء سيّدهم وجدهم ساهرين”. يسهر الإنسان، ليل نهار، على حفظ الأمانة لله، وعلى تسليم نفسه إليه. “فالحقّ أقول لكم إنّه يشدّ وسطه، ويُتكئهم، ويدور يخدمهم”. الرّبّ يسوع، حين يجد الإنسانَ تعـِبًا من الانتظار والجهاد، يعزّيه شخصيًّا. هو يشدّ وسطه. الّذي يشدّ وسطه، هنا، ليس المسافر، بل مَن يريد أن يغسل أقدام النّاس، كالعبد الّذي يشدّ وسطه حتّى يغسل قدمي معلّمه. الرّبّ يسوع، حين يجدنا في حال الجهاد، يجعل نفسه خادمًا لنا، “يشدّ وسطه، ويُتكئهم، ويدور يخدمهم”! يفرح بهم! لم يأتِ الرّبّ يسوع لكي يُخدَم بل ليَخدم (متّى20: 28). “وإن جاء في الهجعة الثّانية [أي في منتصف اللّيل]، أو جاء في الهجعة الثّالثة [أي بين السّاعة الثّانية عشرة والسّاعة الثّالثة فجرًا]، ووجدهم كذلك، فطوبى لأولئك العبيد”! إذا وجدهم ساهرين في كلّ حين، طوباهم! “واعلموا هذا، أنّه لو علم ربّ البيت في أيّة ساعة يأتي السّارق، لَسَهر ولم يدع بيته يُنقَب”. بكلام آخر، نحن لا نعرف متّى يأتي السّيّد ليعزّينا، ويفتقدنا، ويشدّدنا، ويخدمنا. لكن، علينا أن نسهر في كلّ حين وفي كلّ حال، لئلاّ تنقب بيوتنا الذّئابُ العقليّة، والخوفُ، والاستسلامُ للخطيئة، والسّلوكُ في أهواء النّفس والجسد…

“فكونوا أنتم أيضًا مستعدّين، لأنّ ابن البشر يأتي في ساعة لا تظنّونها”. الحقيقة أنّ السّاعة هي السّاعة الأخيرة، لأنّ الرّبّ الإله يريدنا أن نجاهد إلى المنتهى. القدّيس سلوان الآثوسيّ جاهد جهاد الجبابرة. كان ينام ساعة واحدة في الأربع والعشرين ساعة، وكان يصلّي ويصوم. أخيرًا، استنفد نفسه، وصار لا يستطيع أن يجاهد أكثر. وفي اللّحظة الأخيرة الّتي قال فيها: “الله قاسٍ” – لأنّه ظنّ أنّ الله يأتي نتيجة جهاد النّاس – رأى الرّبَّ يسوعَ وجهًا لوجه. الله لا يطالبنا بأكثر ممّا نستطيع. هو يريدنا أن نجاهد إلى الأخير. لكنّ مجيئه ليس ثمرةَ جهادنا، بل ثمرةُ تمسّكنا بالرّجاء به إلى المنتهى، لأنّه يعطينا نفسه مجّانًا. “ماذا يعطي الإنسان فداءً عن نفسه” (متّى16: 26)؟! الإنسان لا يستطيع أن يعطي فكاكًا عن نفسه، حتّى ولو كدّ إلى الأبد، أو عاش ما طال الأمد (مز48: 7- 8). الرّبّ الإله يعطينا نفسه مجّانًا: “بالنّعمة أنتم مخلّصون، وذلك ليس منكم” (أف2: 8). إنّها عطيّة الله. المهمّ أن نبقى مستعدّين، وثابتين في الرّجاء الصّالح إلى المنتهى، لأنّ ابن البشر يأتي “في ساعة لا تظنّونها”.

آمين.

عظة في السّبت 24 تشرين الأوّل 2009 حول لو12: 32- 40

 

Leave a comment