الحياة الزوجية والنسك

الحياة الزوجية والنسك

الشماس بافل سرزانتوف

نقلها إلى العربية الأب أنطوان ملكي

 

كل شيء بدأ مع الجدين الأولين، آدم وحواء. لقد أوصِيا في الفردوس بألاّ يتذوّقا شجرة المعرفة (أنظر تكوين 17:2). وصية عدم الأكل من هذا أو من ذاك مألوفة لدى الأرثوذكسي، فهي وصية الصوم، أقدم الوصايا وأحد المؤثّرات الأولى في الحياة العائلية.

كما نعرف، أولى العائلات جرّبها الشيطان أصل كل الشرور. لم يستطع ذاك الحسود أن يرى حياتهما السعيدة بهدوء. كسر آدم وحواء الوصية فاستُدعيا إلى الحساب، فحاولا أن يرميا اللوم أحدهما على الآخر وكأنهما غير مخطئين بالكليّة. لكن ليس هذا وحسب، بل أن آدم لام زوجته التي، كما يشدد هو، قد تلقّاها من الله. هكذا تمّ السقوط في الخطيئة، دون أن يتوب الناس على ما فعلوه، فحرمهم الله من الفردوس وأعطاهم كفارة. فلنستذكر كلمات هذه الكفارة التي أعطاها الله، فقال للمرأة: “تَكْثِيرًا أُكَثِّرُ أَتْعَابَ حَبَلِكِ، بِالْوَجَعِ تَلِدِينَ أَوْلاَدًا. وَإِلَى رَجُلِكِ يَكُونُ اشْتِيَاقُكِ وَهُوَ يَسُودُ عَلَيْكِ” (17:3)، وللزوج قال: “بِعَرَقِ وَجْهِكَ تَأْكُلُ خُبْزًا حَتَّى تَعُودَ إِلَى الأَرْضِ الَّتِي أُخِذْتَ مِنْهَا. لأَنَّكَ تُرَابٌ، وَإِلَى تُرَابٍ تَعُودُ” (19:3).

دخلت الأحزان حياة الكائنات البشرية. إن احتمال الأحزان بصمود هو جزء من النسك. مهمتنا هي تذكّر أن الأحزان أتت كنتيجة للخطيئة. علينا أن نحتملها من دون غضب ولا تمتمة ضد الله. المرض مؤلم والموت، أي العودة إلى التراب، أيضاً مؤلم. هذا الشعور ينبغي أن يذوب بالتوبة فتسمو أفكار الموت الثقيلة لتصير ذِكراً له. بعد السقوط، صار على آدم أن يعمل وبجهد. هكذا صارت حياته وهكذا هي حياتنا. على كل إنسان أن يفكّر في كيف يقتات هو وعائلته، لذا قد يقوم في بعض الأحيان بأعمال صعبة ومضجرة.

رأى أحد الرعاة أن بعض أبناء رعيته يحبَطون من العمل الذي يكررونه كل يوم فأشار عليهم بأن عمل المتزوّج هو مثل طاعة الراهب. كما نعلم، لا يختار الرهبان أعمال الطاعة مما يوافق أذواقهم، فالراهب يعمل كل ما يُعطى بركة للقيام به، سواء كان جذّاباً أم مضجراً. الطاعة تعوّد الراهب على قطع مشيئته وبالتالي القيام بمشيئة الله. بالنسبة لآدم وذريته، مشيئة الله، بعد السقوط إلى ظروف غير فردوسية، هي في ألا يتأفف الإنسان من وضعه وأن يتوب ويضع رجاءه في الله الذي يقود البشر إلى ملكوته.

بالنسبة للمرأة، الحمل هو زمان تجربة خاصة. عليها أن تفكر في طفلها أكثر مما تفكّر بنفسها، أن تهتمّ بصحتها، أن تحفظ نظامها الغذائي، وربّما التخلي عن عمل مربح من أجل الطفل، أي أن تتخلى عن نموها المهني. هذا هو جهادها في التخلي عن الذات. طبعاً من دون الإشارة إلى ألم الولادة والاهتمام المستمر بالوليد والانشغال به.

على أهل الطفل أن يحرموا ذواتهم من الحد الأدنى من الراحة والنوم. إنهم مهتمون بصغيرهم، وهم يصلّون في الأوقات العصيبة من أجل صحة ولدهم: “أيها الرب، أنت تعرف كل شيء، ومحبتك كاملة. خذ نفس (فلان) وافعل ما أرغب في فعله ولكني أعجز عن ذلك”. وإذا ما وُلِد الطفل معاقاً… فالحاجة هي إلى إيمان عظيم بتدبير الله لحمل هذا الصليب الثقيل.

مباشرة بعد ولادة الطفل تبدأ مهمة عظيمة وهي تربيته. حتّى لو أخذنا الوجه غير الديني للمسألة نعرف أننا لا يمكننا أن ننجز الأمر من دون معونة الله. يشدد أحد الرعاة المعاصرين على أن أساس تنشئة الأولاد وتربيتهم هو البيت، فيما المدرسة تخدم كمتمم إلى ما يجري في العائلة. المتمم مهم لكن فقط لتحسين الأمر الأساسي. غالباً ما نرى أن المطلوب من الأولاد في المدرسة هو حفظ المعلومات، وأقل من ذلك بكثير يتمّ تعليمهم كيف يفكرون بأنفسهم. وأقل من ذلك ما يتلقّون من تعليم الأخلاق. ماذا ينبغي أن يُعمّل في هذه الحالة؟ يمكن للعائلة أن تعوِّض عن نواقص التربية غير الشخصية والتجارية، إذا كان الأهل جديين في الاهتمام بطفلهم، ليس فقط بحاجاته الجسدية، بل ايضاً العاطفية منها. هذا يتطلب سنين كثيرة من الصبر.

الأهل مدعوون أيضاً إلى الاهتمام بحاجات الطفل الروحية. من الجيد تعليم الولد الصغير أن يصلي، حيث أغلب المدارس والجامعات لا تعلّم الصلاة لله. لكن لتحقيق ذلك، يجب أن يعرف الأهل أنفسهم كيف يصلّون بانتباه، أن يفهموا لغة الصلاة، أن يكونوا قادرين على شرح جوهر خدم الكنيسة لولدهم بطريقة ملائمة. مع نمو الولد نحو عمر المدرسة يجب تهيئته لاعترافه الأول. كيف يستطيع الأهل أن يشرحوا له ما هي الخطيئة وسبب حاجته لأن يخبر الكاهن عن خطاياه؟ هنا الدور الأول هو للمثال الشخصي كما لجهاد الأهل على الطريق الروحية. إذا قدّمت الأم الطفل إلى المناولة فيما هي لا تقترب من الكأس المقدسة أو من الاعتراف، أو إذا كان الأب لا يذهب إلا نادراً إلى الكنيسة، فسوف يكون إقناع الولد بحاجتنا جميعاً للأسرار الكنسية أمراً صعباً.

في البيت، إن لم يكن هناك ترتيب للفطور والغداء والعشاء حيث أن كل واحد يأكل حين يشاء، وحتّى حين لا يشاء، من الصعب على الولد أن يستوعب فكرة الصوم. لا يمكنكم أن توجهوا الأولاد إلى الصوم إذا كان مسموحاً لهم أن يأكلوا ساعة يشاؤون أو الجري في المنزل حاملين قطعة خبز أو بسكويت أو غيره. انتظام الأكل هو بداية النسك… صلاة ما قبل الأكل تعلّم أن تُبدأ كل الأمور بالصلاة…. من المهم تنمية مختلف أشكال الحياة المسيحية اليومية، الظاهر والسري منها. يمكن للحياة المنزلية أن تكون رافعة جيدة للحياة الروحية كما يمكنها أن تكون إعاقة عميقة.

إن هوى محبة الذات يظهر كأسوأ أعداء العائلة. الأنانية هي عدو خطير. إذا ما كان الزوجان لا يريدان أن يتبع أحدهما الآخر في أي شيء، مستميتاً كل منهما في الحفاظ على كبريائه، إذا كان كل منهما يعدد باستمرار ما قام به من أجل العائلة فسوف تنهار العائلة شيئاً فشيئاً. إذا كان الزوجان يسمحان بالغضب السريع وبالجدال حول التفاهات ويعجزان عن العيش بسلام معاً أو مع الأقرباء فسوف يشعران بالبؤس وسوف يمتصّ أبناؤهما هذا المثال السيء. من أصعب الأمور هو تنشئة الأولاد على مثالنا.

مطلوب من الأهل جهاد نسكي حقيقي لكي لا يسلّموا أولادهم إلى تربية التلفزيون والإنترنت أو الشوارع. هذا من جهة، أما من الجهة الأخرى، يجب الاّ يُعذّب الأولاد بالاهتمام الفائض. بالنهاية، الاهتمام المفرِط يقود إلى الطفالة والانطواء وأحياناً إلى الانتفاض على  الأهل. العائلة هي مدرسة محبة. كل النسك المسيحي موجّه نحو اكتساب المحبة. لقد اختصر ربنا ومخلصنا يسوع المسيح الوصايا كلها باثنتين: محبة الله ومحبة القريب. يقارن القديس ثيوفانس الحبيس المحبة بالنار: إن لم نطرح فيها الحطب تمت، وإذا لم تُغذَّ المحبة بين الزوجين بأعمال المحبة فسوف تموت في آخر الأمر. وما هي أعمال المحبة هذه؟ إنها الاهتمام الأساسي بالآخر، علامات الاهتمام الظاهرة وغير الظاهرة. إنها القدرة على تخطي انجرارات الغضب أثناء الشجار والتوصل أولاً إلى المسالمة. إنها القدرة على الإمساك بالميول الأنانية وتصحيح الأعمال مع الافتكار الدائم “أنا لست وحدي”.

Leave a comment