النّعمة الإلهيّة مِضخّة السّلام في القلب

النّعمة الإلهيّة مِضخّة السّلام في القلب

الأرشمندريت توما بيطار

 

يا إخوة، الحلقة بين الرّبّ يسوع والآب السّماويّ والمؤمنين بالرّبّ يسوع هي حلقة مغلَقة. “ليس أحد يعرف الابن إلاّ الآب”. إذًا، مستحيل على أحد أن يعرف ابن الله، إلاّ بنعمة من الآب السّماويّ. “ولا أحد يعرف الآب إلاّ الابن”. إذًا، مستحيل على أحد، أيضًا، أن يعرف الآب السّماويّ، إلاّ بالابن. بهذا المعنى، مَن يدّعي أنّه يعرف اللهَ الآبَ ولا يعرف الابن، فهو كاذب، وليس الحقّ فيه. ومَن قال إنّه يعرف الابنَ ولا يعرف الآب الّذي أرسله، فهو كاذب، وليس الحقّ فيه، أيضًا. هذه الحلقة مغلَقة. لكنّ الابن هو الّذي يكشف حقيقةَ الآب السّماويّ؛ ومن ثمّ، حقيقةَ نفسه؛ لأنّه يقول، هنا: “لا أحد يعرف الآب إلاّ الابن، ومَن يريد الابنُ أن يكشف له”. الموضوع هو موضوع كَشـْفٍ. مستحيل على الإنسان أن يعرف الآب والابن بالفلسفة والعلم. لا يمكن أن يُعرَف الآب، ولا الابن، إلاّ بكَشـْفٍ من فوق. هذه فكرة أولى. تداعياتها أنّ كلّ الّذين يدّعون، في العالم، أنّهم ديانات، ولا يعرفون ابن الله، ولا يسمّون بابن الله، ولا يحفظون وصيّة ابن الله، هم أصحاب ديانات من صُنْع الأرض، وليست، أبدًا، من الله.

في الفكرة الثّانية، يقول الرّبّ يسوع: “تعالَوا إليّ، يا جميع المتعَبين والثّقيلي الأحمال، وأنا أريحكم”. قبل ذلك، تحدّث الابنُ عن كَشـْفِ نفسه والآب للّذين يؤمنون به. وهؤلاء، الّذين يؤمنون به، هم الّذين يأتون من التّعب والأحمال الثّقيلة. لذلك، يناديهم الرّبّ يسوع: “تعالوا إليّ، يا جميع المتعَبين والثّقيلي الأحمال، وأنا أريحكم”. على أيّ تعب يتكلّم؟! بالنّسبة إلى الإنسان، هناك ثلاثة أنواع من التّعب: التّعبُ الجسديّ، حين تكون عضلاته مُتعَبة على أثر عمل شاقّ. إذًا، الجسد يتعب. والتّعبُ النّفسيّ، وهو القلق، والهموم، والمشكلات الّتي يواجهها الإنسان، في حياته، وفي يوميّاته. هذه كلّها، متى زادت عليه، أتعبته، وأثقلت نفسه. والتّعبُ الرّوحيّ الّذي منه ينشأ، في الحقيقة، كلّ تعب، سواء على مستوى الجسد أم على مستوى النّفس. كيف ذلك؟! التّعب الرّوحيّ هو أن يكون الإنسان ضمن دائرة تأثير الشـّيطان فيه. والإنسان يكون ضمن دائرة تأثير الشـّيطان فيه، حين يتعاطى الخطيئة. الخطيئة هي من نَفَس الشـّيطان، وترتبط بأهواء الإنسان. أهواء الإنسان هي بمثابة “فيروسات” شيطانيّة، في حياته، ومنها الشـّراهة، والغضب، والعُجْب، والكبرياء. حين يكون الإنسان مُثقَلاً بتأثير الشـّيطان فيه، فإنّ هذا ينعكس عليه تعبًا كيانيًّا، بحيث إنّ التّعب الجسديّ والتّعب النّفسيّ لا يَلقيان راحة، ما دام الإنسان داخل دائرة التّأثير الشـّيطانيّ، في حياته. الإنسان يتعب، إذ ذاك، جسديًّا ونفسيًّا، ولا يمكنه أن يرتاح. الحياة لا تريح! تفاصيل الحياة اليوميّة ليست مريحة! الإنسان، دائمًا، في حلقة من التّعب، سواء على صعيد الجسد أم على صعيد النّفس. والرّبّ يسوع يدعو المتعَبين إليه، لأنّه يريد أن يريحهم: “أنا أريحكم”! طبعًا، الإنسان الّذي يدخل دائرة تأثير الله يتعب جسديًّا، لكنّه لا يتعب نفسيًّا؛ لأنّ نعمة الله تجعله، دائمًا، في السّلام، والأمان، واليقين أنّه محفوظ من فوق. الإنسان الّذي يكون مرتاحًا، على المستوى الرّوحيّ، فإنّ تعبه، حتّى الجسديّ، يصبح خفيفًا؛ لأنّ امتلاء القلب من نعمة الله يجدّد الإنسان كلّه: يجدّد طاقاته الجسديّة؛ ويجدّد، أيضًا، ما له علاقة بالنّفس، ويشدّده؛ فلا يبقى الإنسان، إذ ذاك، محكومًا بالقلق والهَمِّ، لأنّ روح الرّبّ دافئ، رفيق بالنّاس، سلاميّ: “سلامي أعطيكم، لا كما يعطيكم العالم” (يو14: 27). والرّبّ يسوع، هنا، يدعو المتعَبين والمثقَلين إليه، لأنّه يريد أن يريحهم. كيف يريحهم؟! كيف يعطيهم نعمة الله؟! الحقيقة أنّ الرّبّ يسوع لا يريح أحدًا خارجيًّا، بل يريح مَن يأتي إليه داخليًّا، أي إنّه يعطيه روحه. حين يقيم روح الرّبّ القدّوس في الإنسان؛ إذ ذاك، تكون له راحة من فوق. الرّوح والرّاحة من جَذْرٍ واحد. الرّاحة الحقّ تأتي من روح الحقّ. لذلك، نحن نسعى، في كلّ يوم، من خلال حـِفـْظِ الوصيّة الإلهيّة، والسّلوك في الفضيلة المسيحيّة، والاشتراك في الأسرار الإلهيّة، لأن نبقى ضمن دائرة التّأثير الإلهيّة، أي أن نبقى في عشرة الله، نبقى مع الله، ندخل في علاقة وِدٍّ مع الرّبّ الإله. وهذا يستنزل روح الرّبّ القدّوس، الّذي يأتي ويسكن فينا. ونحن، في صلواتنا، نستدعيه دائمًا: “هلمّ واسكن فينا؛ وطهّرنا من كلّ دنس؛ وخلّص، أيّها الصّالح، نفوسنا”! فقط، إذ ذاك، تكون للإنسان راحة. ومن دون ذلك، يبقى في تعب. حتّى لو لم يعمل جسديًّا، ولم يكن له روح الرّبّ؛ فإنّه يكون متعَبًا جسديًّا، لأنّ النّفس والجسد والقلب مرتبطٌ الواحدُ منها بالآخر، والمصدر هو القلب. حين لا يكون القلب في وضع ضَخِّ النّعمة الإلهيّة في الإنسان، فإنّ هذا الأخير، عَمـِلَ أم لم يعمل شيئًا، يكون متعَبًا. كذلك الأمر، سواء واجه الإنسان مشكلات يوميّة أم لا، فإنّه يكون متعَبًا. لماذا؟! لأنّ ما يؤثّر فيه، في الدّرجة الأولى، هو الخوف، لا سيّما من الموت. حين يجد الإنسان نفسه، في قرارة نفسه، غيرَ مُحتَضَن بروح الله، فإنّه يعاني فراغًا كبيرًا، وهذا الفراغ يتولّد منه كلّ خوف، وكلّ قلق، وكلّ ضيق، وكلّ تعب. لهذا، سعينا، في كلّ يوم، هو لاقتناء روح الرّبّ، حتّى تكون لنا راحة.

أمّا في الفكرة الثّالثة، فيقول الرّبّ: “احملوا نيري عليكم، وتعلّموا منّي، فإنّي وديع ومتواضع القلب”. الرّبّ يسوع سبق، في الفكرة الثّانية، أن دعا النّاس المتعَبين والمثقَلين إليه، وقال إنّه يريحهم. كيف يريحهم؟! يريحهم إذا عرفوا أن يحملوا نيره عليهم، ويتعلّموا منه. ما هي وظيفة النّير؟! النّير هو للفلاحة. الإنسان يحتاج إلى أن يفلح، أي يحتاج إلى أن ينقّي الأرض؛ حتّى تكون الأرض في حالة التّهوئة، فلا تكون فيها عفونة. على الإنسان أن يَفلَح لكي يُفلـِح، لكي ينجح. والمهمّ أن يحمل نير المسيح، أي أن يفلح بكلمة الله، وعلى كلمته. لذلك، قال الرّبّ: “تعلّموا منّي”، أي [تعلّموا منّي حَمْلَ النّير، تعلّموا منّي الفلاحة]. والمُبتغى هو أن يصير الإنسان، باتّباعه الوصيّةَ الإلهيّةَ وبحَمْلـِه النّيرَ الإلهيَّ، وديعًا ومتواضعَ القلب. الغاية من كلّ وصيّة أن يبلغ الإنسان الوداعة وتواضع القلب. بهذا، يصير شبيهًا بالرّبّ يسوع. كلّ سعينا، في الحقيقة، هو لاقتناء الوداعة وتواضع القلب. ما هو تواضع القلب؟! هو أن يبلغ الإنسان حدًّا يشعر معه، كيانيًّا، بأنّه لا شيء، وبأنّ كلّ ما له هو عطيّة من عند أبي الأنوار. متى بلغ هذا الحدّ من الحسّ الدّاخليّ الكيانيّ، فإنّه يتحرّر من تأثير الأهواء فيه، ومن تأثير كلّ العناصر الخارجيّة فيه، أيضًا. يبلغ، إذ ذاك، بالتّواضع، السّلامَ، أي الوداعة. الوداعة هي أن يقتبل الإنسان أن يُساق إلى الموت، كالحَمَلِ، ولا يفتح فاه! إذ يتحرّر الإنسان من الخوف، والقلق، والغضب؛ فإنّه يصير وديعًا كالمعلِّم. ومتى سلك على هذا النّحو، فإنّه يجد راحة لنفسه، بمعنى أنّ روح الرّبّ يُسَرّ بالسّكنى فيه، فيرتاح. كلّ شيء، إذ ذاك، حتّى التّعب الجسديّ، يصير مجالاً للرّاحة. يعمل الإنسان قليلاً أو كثيرًا، فيكون هذا، في الحقيقة، مجالاً للرّاحة، لا مجالاً للتّعب. طبعًا، نحن عندنا خبرة في هذا المجال، ونعرف معنى هذا الكلام. الإنسان إذا أحبّ، فإنّه يتعب بفرح، يتعب براحة! أمّا الإنسان الّذي لم يحبّ؛ فهذا، ولو تعب قليلاً، فإنّ تعبه يكون كبيرًا. لهذا، بسكنى روح الرّبّ فينا، كلّ شيء يصبح مجالاً لتَفَتُّح روح الرّبّ. هذه هي الرّاحة الحقّ. يتفتّح روح الرّبّ فينا؛ فنفرح، ونتهلّل، ونمجّد، ونشكر، ونسبّح.

هذه هي، إذًا، الطّريق، “لأنّ نيري ليّن، وحملي خفيف”. النّير اللّيّن هو الّذي لا يجرح، ولا قسوة فيه. الرّبّ الإله يجعل كلّ حـِمْلٍ على عواتقنا ليّنًا. وحملي خفيف“! فليتوقّف الّذين يقولون إنّ الوصيّة صعبة، لا بل مستحيلة؛ لأنّ الرّبّ يسوع يقول، بوضوح، إنّ حمله خفيف! الوصيّة خفيفة، وليست ثقيلة، أبدًا! ما يجعل الحمل ثقيلاً هو عدم رغبتنا في أخذه على عواتقنا. المشكلة تكمن فينا نحن! الإنسان، إذا رغب في أمر من كلّ قلبه، لا يلقى صعوبةً إلاّ وتكون قابلةً للتّجاوز. أمّا مَن ليس في نيّته أن يحمل حملاً ما؛ فإنّه، متى حمله رغمًا عنه، يجده مُتْعـِبًا، ثقيلاً، ويزداد تعبه وثقله حتّى يتخلّى عنه. لهذا، الرّبّ الإله لا يمكن أن يُحمِّل أحدًا فوق طاقته، ولا يطلب من أحد ما ليس هو (أي الرّبّ يسوع) مستعدًّا لأن يجعله قادرًا على حَمْله. المطلوب، فقط، هو الإرادة؛ وأن نطلب، من كلّ القلب، ومن كلّ النّفس، ومن كلّ القدرة، ما يعرضه علينا الرّبّ الإله. بعد ذلك، كلّ شيء يكون مُيَسَّرًا في حياتنا، وفي يوميّاتنا. لا تبقى هناك مشكلة، على الإطلاق. كلّ المشاكل، كلّ الصّعوبات، كلّ الضّيقات تكون تحت ضَبْطِ الضّابط الكلّ، الّذي يجعل كلّ شيء لمنفعتنا.

فمَن له أذنان للسّمع، فليسمع.

عظةحول متّى11: 27- 30 في السّبت 5 كانون الأوّل 2010

Leave a comment