حول “حفظ الأرثوذكسية نقية”

حول “حفظ الأرثوذكسية نقية”

المتقدم في الكهنة ألكسندر شميمن

نقلها إلى العربية الأب أنطوان ملكي

الإثنين، 17 كانون الأول، 1973

الثلاثاء الماضي، اجتمعت مجدداً مع الأب جورج غراب لمتابعة حوارنا حول الاتصالات بين الكنيسة الروسية الأرثوذكسية خارج روسيا والكنيسة الأرثوذكسية في أميركا. لقد قال: “هدفنا هو حفظ الأرثوذكسية نقية”. هنا يكمن الخلاف الأساسي. نقاوة الأرثوذكسية بالنسبة لهم هي “شكل أرثوذكسي للحياة”، لا أفكار، لا مشاكل. على العكس، إنهم يرفضونها عضوياً وينكرونها. إنهم مقتنعون بأن إنكار المشاكل عمل صائب، لأن كل مشكلة وكل فكرة هي تهديد لشكل الحياة الأرثوذكسية هذه، بينما أزمة المسيحية تكمن تحديداً في انهيار شكل الحياة الأرثوذكسي، الذي تجد المسيحية نفسها مربوطة به وخاضعة له. ليس السؤال ما إذا كان هذا الشكل جيداً أو سيئاً، قد يكون الإثنين معاً. السؤال هو ما إذا كان المرء يستطيع، أو ينبغي به، أن يثبت فيها كشيء لا غنى للمسيحية عنه، ولا للأرثوذكسية الحقيقية. إنهم يجيبون على هذا السؤال بـ”نعم” شاملة وغير مشروطة. من هنا يأتي خوفهم الغريزي من الأسرار (المناولة المتواترة وغيرها)، لأن الأسرار أخروية فلا تنطبق تماماً على الشكل الأرثوذكسي للحياة. من أجل الحفاظ على هذا الشكل الأرثوذكسي للحياة يَبقون بعيداً عن الثقافة واللاهوت، اللذين قد يثيران مشاكلاً وأسئلة وعمليات تفتيش وصراعات قد تهدد جمود شكل حياتهم. يقبل المدافعون عن هذا الشكل من الحياة الحضارةَ فقط عندما تصير بلا حراك فيعتبرونها غير مؤذية كجزء من شكل حياتهم، عندما يعرفون ما ينبغي على المرء أن يرى في هذه الحضارة أو بالأحرى ألا يرى. هؤلاء الأشخاص، إذ تخنقهم القيود التي اختاروها، هم عاجزون تماماً عن قبول أو محاولة فهم أي إبداع. المسيحية والأرثوذكسية جيدتان ومقبولتان لأنهما قديمتين، لأنهما من الماضي، لأنهما جوهر “الشكل الأرثوذكسي للحياة” وتصديقه. لهذا، إنهم ببساطة لا يقبلون أي كلمات، أي عمل إبداعي، حتى الأصيل والحقيقي، لأنها بلا “شكل مقدس” معروف. إنهم يشعرون بأنهم مهددون وفي خطر وبأن بعض الأسس الرئيسية قد اهتزّت. إن ثمار هذا النوع من الفكر هي الخوف، ضيق الأفق، والعجز الكامل عن تمييز الأرواح.

المسيحية بشكل عام، والأرثوذكسية خاصة، تمران اليوم بامتحان حقيقي لتحديد ما الذي يؤهلهما للبقاء على قيد الحياة في عالم اليوم. المدافعون عن الشكل الأرثوذكسي للحياة يعبّرون عن جواب واحد واضح وعميق فيما يحددونه. لكن لا يوجد جواب شامل وواضح من أي طرف آخر إلا الاختزالات، كمثل العودة إلى “بيزنطية”، أو الفردانية الروحية، أو قراءة النساك، أو الهروب من الواقع. أتردد في تقديم شعوري، الذي يبدو متعالياً، بأنه ليس هناك جواب. في كل ما أعظ أو أعلّم أو أكتب، أريد أن يظهر هذا الجواب، على أمل أن يسطع لامعاً عبرها. لكن هذا الجواب لا يمكن حشره في أي نظام أو أي وصفة أو أي شكل حياة محدد. لا يخرج من هذا الجواب أي قانون. إنه مجرد رؤية للحياة وما يأتي من هذه الرؤية هو النور، الشفافية، إحالة كل شيء إلى “الآخر”، الوجه الأخروي للحياة بحد ذاتها وكل ما تتضمنّه. مصدر هذا النور الأخروي، رفع الحياة بمجملها، هو سر الإفخارستيا. خطأ المدافعين عن شكل للحياة، ملموس وواضح التحديد، هو عدم إعطاء أهمية كبيرة لأشكال الحياة الخارجية. بهذا، هم على حق في مواجهة كل أصحاب الروحانية الزائفة، سواء الدينية أو الحضارية، المهووسين بفكرة الانفصال عن كل الأشكال أو إبادتها. هذا لا يعني أن المسيحية تقودنا إلى شيء من “الغيبية”. إنه يعني أن صورة هذا العالم في المسيح ومن خلال المسيح تصير عابرة، ديناميكية، منفتحة وذات اليد الطولى.

لفهم الرسول بولس حين بقول: “لأَنَّ هَيْئَةَ هذَا الْعَالَمِ تَزُولُ”، ولجعل هذا القول حقيقياً، نحتاج في هذا العالم إلى خبرة العالم الآخر وجماله وعمقه وغناه، خبرة ملكوت الله وسرّه: الإفخارستيا. لقد تأسست الكنيسة في هذا العالم للاحتفال بالإفخارستيا، لإنقاذ الإنسان باستعادة كائنه الإفخارستي. الإفخارستيا مستحيلة من غير الكنيسة، أي من دون جماعة تعرف وجهها الفريد ودعوتها، محبة وحقاً وإيماناً ورسالة، التي تتحقق في الإفخارستيا، أي ببساطة في أن تكون جسد المسيح. الإفخارستيا تعلن الكنيسة كجماعة محبة للمسيح وفي المسيح، كرسالة لتحويل كل واحد والكل إلى المسيح. ليس للكنيسة هدف آخر، لا حياة “متدينة” منفصلة عن العالم وإلا تصير الكنيسة صنماً. الكنيسة هي البيت الذي يتركه كل منا ليذهب إلى العمل ويعود إليه بفرح ليجد الحياة والسعادة والفرح، وإليه يجلب كل واحد ثمار عمله، وفيه يتحول كل شيء إلى عيد وحرية وتحقيق. إن وجود هذا البيت وخبرته هي خارج الزمن من قبل، غير متغيّرة، مفعمة بالأبدية، كاشفة لها. وحده هذا الوجود يعطي معنى وقيمة لكل شيء في الحياة، ويوجّه كل شيء نحو تلك الخبرة ويحققها. “إنَّ هَيْئَةَ هذَا الْعَالَمِ تَزُولُ”ولكن فقط بزواله يصير العالم “عالماً”: عطيةً من الله وسعادة تأتي من الشركة مع المحتوى والشكل، هيئة هذا “العالم”.

 

From Juliana Schmemann, tr., The Journals of Father Alexander Schmemann 1973-1983 (St. Vladimir’s Seminary Press, Crestwood, NY: 2000), pages 23-25.

 

Leave a comment