أولاد مؤمنون

أولاد مؤمنون

إعداد راهبات دير القدّيس يعقوب الفارسيّ المقطّع

خلال الحرب العالميّة الأولى، اضطرّت راهبات أحد الأديار في روسيّا لترك ديرهنّ بسبب اقتراب الأعداء الألمان. فذهبت عشرون راهبة ومئتان من أطفال ميتم الدير إلى دير آخر.

وضع الملحدون صوفيا فيودوروفنا لتهتمّ بأولاد الميتم، فقالت: “لقد عيّنني الملحدون حاضنة لأيتام الدير، وغالبًا ما كانت نادينكا وليوبوشكا تأتيان ليفضيان إليّ بمكنوناتهما. كان والداهما شيوعيّين، لكنّ الفتاتين الصغيرتين كانتا مؤمنتين. في إحدى المرّات أشفقت على ليوبوشكا من كلّ قلبي وقلت لها: “أنت تفتقدين إلى الكنيسة إليس كذلك؟ إذًا، تسلّلي إلى داخل الكنيسة أثناء لعبِك مع الأولاد الآخرين، وصلِّي هناك من أجل عائلتك”. وهذا ما فعلته ليوبوشكا بالتحديد. إذ بعدما انتهت من اللعب، مضى الأولاد وبقيت ليوبوشكا وحدها، فدخلت بيت الله بهدوء، وصلّت ثمّ خرجت. ومرّة أخرى، قالت لي الفتاة “أه! كم أتمنّى أن أتناول!”، فقلت لها: “عندما تنتهي من اللعب اذهبي إلى الراهبة التي عند الشموع وأخبريها برغبتك”. فسألتني: “أيجب أن أرتدي ثيابًا نظيفة؟”. فأجبتها: “لا، فثياب اللعب ملائمة جدًّا طالما أنّ نفسك نظيفة”. أعان الله ليوبوشكا على قضاء رغبتها المبارَكة، ومن دون علم أمّها تناولت القربان المقدّس. فأتت إليّ ركضًا مبتهجة قائلة: “أنظري، أيّتها الأخت، لقد تناولت”!!

كان الأولاد يذهبون إلى الكنيسة باستمرار، وكان الأساتذة الشيوعيّون يسألونهم: “هل تجبركم الراهبات على الذهاب إلى الكنيسة؟”، فكان يجيبون: “لا، بل نحن نحبّ الذهاب إليها!”.

لم تكن الحياة لطيفة بالنسبة للأولاد تحت حكم الشيوعيّين، فالغذاء غير جيّد، وفي الشتاء كانوا يتنقّلون بأحذية مثقوبة ومن دون جوارب. وذات مرّة علّق المسؤولون صورًا لقادتهم في غرفة طعام الأولاد، فنظرت إحدى الفتيات الصغيرات إلى الصور، وقالت ببراءة الأطفال: “آه! كم هم بشعون!”. فأشار صبيّ صغير إلى الأيقونات، وسأل: “وهل هذه جميلة؟” فصرخت الفتاة “ماذا تقول؟ إنّها جميلة جدًّا جدًّا”. وذات مساء وضعتُ للأطفال بطاطا مسلوقة ليأكلوها، ثمّ تركت الغرفة. وقد أُصبتُ بالهلع عند عودتي، إذ رأيت أنّهم ألصقوا قشر البطاطا على الأفواه في الصور. فنزعت هذه الزينة بسرعة عن الصور حتّى لا يراها أحد المسؤولين. وفي الصباح ذُعرت عندما أتيت إلى غرفة الطعام، ووجدت ثقوبًا بدل الأعين في كلّ الصور. فقد كان أطفالنا العابثون قد قصّوا أعين “الرجال العظام”.

بعد صوفيا فيودوروفنا أتت ماريا فيودوروفنا كمراقِبة. ما إن وصلت حتّى جمعت الأطفال، وراحت تعظهم معلّمةً إيّاهم عن الإلحاد: “كل شيء هو من الطبيعة. العالم كان دائمًا وسيبقى إلى الأبد. إنّه يحرّك نفسه بنفسه”. فأجاب أحد الأطفال: “ولكن حتّى العربة الصغيرة لا تسير بنفسها من دون سائق. والأحصنة، أيضًا، يجب أن يقودها السائس. وأنتِ تريدين أن يكون العالم بأسره محرَّكًا من نفسه؟!”. وأضافت إحدى الفتيات “نعم، ولا القطار يستطيع أن يسير من دون سائق”. ظهر على ماريا الارتباك، إذ بماذا تجيب على ملاحظات الأطفال الذكيّة، فقالت مؤكّدة: “الله لم يخلق الإنسان. لقد تطوّر من القرد”. وإذ بصوت صغير يسأل متهكّمًا: “إذن مَن خلق القرد؟ أأتى من نفسه؟!”.

يا للعبارات الذكيّة التي أتى بها الأولاد!! ويا للدعاية الحمقاء التي قدّمتها ماريا فيودوروفنا!! لا شكّ بأنّ الحكمة الإلهيّة هي التي أنارت الأطفال، والروح القدس هو الذي كان يتكلّم بشفاههم النقيّة وليس هم. وهكذا قرّرت ماريا ألاّ تتناقش مع الأولاد بعد هذا الدرس.

ويوم عيد الفصح اللاّمع أخبرت ماريا الأولاد بأنّها سوف تقفل البيت، وتضع المفتاح تحت وسادتها وتنام. ابتسم الأولاد وقالوا بهدوء: “اذهبي اقفلي الباب وضعي المفتاح تحت وسادتك ونامي، فالأمر سيّان، نحن سوف نكون في الكنيسة”. وبالحقيقة قام الأولاد بما قالوا، فلقد كانوا جميعًا في الكنيسة، وكان عددهم في ذلك الحين خمسين. نظرت راهبات الدير إلى الأطفال بدهشة، ورحن يسألنهم كيف تمكّنوا من الخروج من البيت المقفَل. لقد تسلّق الأولاد، بمعونة الله، نوافذ غرف النوم الصغيرة، ونزلوا عن طريق المزاريب دون أن يخشوا الوقوع من الطابق الثالث، لقد أتوا إلى الكنيسة لينضمّوا إلى جماعة المؤمنين لتمجيد قيامة ربّنا الممجّدة اللاّمعة، وليشتركوا في المناولة المقدّسة. في ذلك الوقت كانت ماريا نائمة، ولم تلحظ أنّ الأولاد ذهبوا إلى الكنيسة عن طريق المزاريب، ومن ثمّ عادوا بأمان إلى غرفهم، وناموا بسلام في أسرّتهم.

Leave a comment