لقد وجدنا الفردوس

لقد وجدنا الفردوس*

الأرشمندريت أميليانوس رئيس دير سيمونوبترا

إعداد راهبات دير مار يعقوب الفارسي المقطع – دده، الكورة

 

تحدّثنا الطروباريّاتُ التي تُرتَّل في أسبوع مرفع الجبن عن الفردوس الضائع، وتلقي الضوء على تعرّي الإنسان من اللباس الذي نسجه الله له وألبسه إيّاه في الفردوس. فبعد أن طُرد آدم من الفردوس، أخذ ينوح وينتحب قائلاً: “ويحي أنا الذي بالسذاجة أمسيت عريانًا الآن وحائرًا. فيا أيّها الفردوس لن أنال في ما بعد نعيمك، ولا أعاين ربّي وإلهي وخالقي، لأنّي سأعود إلى الأرض التي منها أُخذت، فأهتف إليك أيّها الرؤوف المتحنّن: ارحمني أنا الواقع” [ذوكصا خدمة غروب أحد مرفع الجبن]. إنّ المعصية التي سقط آدم فيها، والتي سببّت له هذه الخسارة الجسيمة، صارت، هي عينها، سببًا في توطيد علاقة قويّة وصداقة حميمة مع الله على الأرض أعمق من التي كان يتمتّع بها معه في الفردوس وأمتن

عندما نقرع الناقوس  le Talandoإيذانًا باحتفالنا بخدمة كنسيّة ما، فإنّ القندلفت يقرعه على إيقاع ثالوثيّ: “آدم! آدم! آدم! لقد وجدناه!” ليس المقصود هنا بآدم الساقط إنّما بآدم الجديد، بالحياة الجديدة التي بدأت بعد السقوط. يُعلنها في أنحاء الدير كلّه وفي الجوار، وفي الأرض كلّها حتّى إنّ صوته يشقّ عنان السماوات، ثمّ نلتقي مع آدم المخلوق الأوّل من جديد هناك في الكنيسة.

ها قد فُتحت أبواب الفردوس! وها قد تخلّى الشاروبيم والسيف اللهيبيّ عن وظيفتهم في حفظ باب عدن كيلا يتمكّن آدم من الدخول إليه: “فطرد اللهُ آدمَ، وأقام شرقيّ جنّة عدن الكروبين وبريقَ سيف متقلّب لحراسة طريق شجرة الحياة” (تكوين3: 24)، وعادوا ليسبّحوا الله، ويعملوا على حفظنا وحمايتنا لكي نبقى مستوطّنين الفردوس. والآن، ما عاد آدم يبكي ويندب، إذ عندما كسّر المسيح الأبواب النحاسيّة والأمخال الحديديّة أخذه بيده، منتشلاً معه الطبيعة البشريّة كلّها، وردّ له، من جديد، اعتباره، وأكّد له بأنّه سيقف به، ثانية، أمام وجه الله خالقه. وهكذا أدخلنا المسيح، نحن أيضًا، إلى فردوس جديد، فردوس أسمى رفعةً من الأوّل الذي هو الكنيسة.

ولكي نفهم سرّ الفردوس هذا، دعونا نلجأ إلى بعض النصوص الكتابيّة، ونقارن الحقيقة التي عاشها آدم في الفردوس بامتياز مع واقعنا المعاصر: الفردوس، الآن، هو الدير حيث الحياة المسيحيّة البسيطة السهلة. في هذا الموضع يمكننا أن ندرك عِظَم البركة والغبطة التي أجذلهما الربّ علينا وجعلنا مستحقّين لهما. نحن نعلم أنّ الرهبنة، بمعناها الأساس والعميق، تشكّل مجتمعًا كنسيًّا ليتورجيًّا كما كان الحال في الفردوس، فالدير، إذًا، هو صورة عن الفردوس من حيث المفهوم والعمل. وهكذا يمكننا أن نجيب عن التساؤلات المطروحة عن معنى وجود الراهب في الدير، قائلين بأنّ الأمور التي زرعها الروح القدس فينا تُفهم وتُدرك بالقلب، وعندها نستطيع أن نعي معانيها الشريفة السامية.

1 – الفردوس: مكانه، وماذا قيل عنه في الكتاب المُقدّس؟

غرس “الربّ الإله الفردوس شرقيّ عدن”، وكلمة “الشرق” تؤكّد لنا بأنّ الفردوس كان موجودًا على الأرض. وعبارة “الرب غرس” تعطينا صورة واضحة عن محبّة الله الشخصيّة للإنسان وحنانه وغزارة عطاياه. وتوحي إلينا كلمة فردوس بوجود مكان غير محدَّد عجيب مغلَق ومحصَّن، ولا يمكن أن تقتحمه قوى الأعداء. أمّا كلمة “عدن” فتعني الأطياب التي قدّمتها الطبيعة، لأنّ ثمار الفردوس كانت طيّبة المذاق لذيذة الطعم. وأمّا هنا، يُقصَد بها الطيّبات الروحيّة الحاصلة من جرّاء حضور الله.

يصف لنا القدّيس يوحنّا الدمشقيّ عظمة الفردوس وجماله، فيقول: “يقع الفردوس في الشرق في الموضع الأكثر ارتفاعًا عن الأرض”. لقد حدّد القدّيس وضع الفردوس بأنّه مكان مرتفع، وذلك لكي يُظهر لنا روعته وبهاءه. ويضيف: “المناخ لطيف والنسيم عليل، ويلفّ هواءٌ منيرٌ المكانَ من جهاته كلّها. يا له من أمر غريب! لقد تكلّم الدمشقيّ عن الهواء من دون أن يُشير إلى هبوبه، بل أعلن، فقط، بأنّ الفردوس كان مضاءً بالهواء الخفيف النقيّ، ولكنّ الهواء لا يُضيء! من المؤكّد بأنّ هذا الهواء كان في خدمة الإنسان ليمدّه بالنور الإلهيّ. عندما يملأ الهواءُ المكانَ يشكّل نوعًا من الغيوم تشبه السحابة المنيرة التي أضاءت على ثابور، وغمرت التلاميذ وأنارتهم: “وإذا بسحابة منيرة ظلّلتهم” (متى 17: 5). ويتابع القدّيس يوحنّا الدمشقيّ: “إنّه مكان مملوء نورًا”. لم يوضّح ماهيّة هذا الضوء، بل اكتفى بالإشارة إلى أنّه نور ينتشر ويملأ الكلّ، نور يختلف عن ذاك الذي يحدثه الهواء. تدلّ عبارة ” مملوء نورًا” على أنّ المكان كان مفعَمًا بالألوهيّة التي كانت دائمًا تتمثّل بالنور. ليس لهذا النور منشأ منظور، بيد أنّه يملأ الكلّ، لأنّ الله حاضر في الكلّ، وفي الوقت عينه، يأتي ويملأ الجوّ، ثمّ يغيب دون أن يغادر المكان الذي هو قائمٌ فيه!!!

ويتابع الدمشقيّ قائلاً: “هو مكان مقدَّس ولائق بسكنى الإنسان المخلوق على صورة الله. ليس الفردوس مكانًا للوجود البشريّ فقط، إنّما، أيضًا، مكانٌ للحضور الإلهيّ”. لم يكن لعدن معنًى حسيًّا، وحسب، إنّما مجازيّ، أيضًا، يُدرك بالنفس والروح، فالفردوس يحوي الأشياء كلّها بما أنّه حسّيّ، وبما أنّه مجازيّ يُبيّن لنا بأنّ مسكن الإنسان هو مسكن الله أيضًا. وبكلام آخر وكأنّ الله اقتسم ثوبه الخاصّ مع الإنسان الأوّل. هذا كلّه يشير إلى مدى تنازل الله وانحنائه نحو الإنسان، ومقدار بذل ذاته بكلّيّتها له. لقد منح اللهُ الإنسانَ كلّ شيء، ولهذا دُعيت عدنُ فردوسًا. أقام آدم في الفردوس، وراح يتمشّى فيه ويتنزّه ويرقد حيثما أراد، وكأنّ الفردوس صار خاصّته الدائمة أي إنّ الله بات مسكنه الدائم، لأنّ الفردوس هو مكان إلهيّ. لقد أحاط اللهُ آدمَ بنفسه، ولذلك لم يكن للفردوس سور ولا حرّاس من الملائكة أو رؤساء الملائكة، لأنّ الله الخالق نفسه كان حارسَه وحاميه.

قد نتجاور لسنوات عديدة، ومع ذلك لا يعرف واحدنا الآخر، أمّا في الفردوس، فرغم شسوعه ووسعه كان الله وآدم يتعايشان ويتعارفان، ولم يكن في عدن سواهما حتّى الحيوانات لم تكن قد وُجدت بعد، لأنّ الله خلقها بعد أن صنع الإنسان لكي تخدمه: “وجبل الربّ الإله من الأرض جميع الحيوانات البرّيّة وجميع طير السماء، وأتى بها آدمَ…” (تكوين 2: 19) كما يعلّمنا القدّيس يوحنّا الدمشقيّ. وهكذا يتّضح لنا بأنّ الله  كان كلّ شيء بالنسبة إلى آدم، وفردوس آدم هو الله نفسه، لأنّ كلّ شيء فيه مُقدّس. ولنلج، الآن، إلى حديقة الدير لنرى وجه التشابه بينها وبين الفردوس. بالحقيقة، هناك وجها شبه. الأوّل: إنّ الفردوس، كما أسلفنا، كان بمنأى عن المساكن، بل وُجد في مكان ما من الشرق، أي أنّه بعيد جدًّا. كذلك الدير، فهو، دائمًا، على حدة، منفصل عن العالم، عن الأماكن. أمّا التشابه الثاني، فهو أنّ الدير يكون، عادة، مغلَقًا ومحاطًا إمّا بسور أو مبنيّ على صخور شاهقة كدير سيمونس بترس مثلاً. إذًا هو كالفردوس لا يمكن للعالم الوصول إليه، وهذا يُشير إلى أنّ الله وحده حامي الرهبان وحافظهم، ولذلك لا يمكن لزوبعة العالم وتجارب الناس أن تخرق سوره (الروحيّ طبعًا). كلّ شيء في الدير مُقدَّس، لأنّ الجميع يعملون في خدمة الله، ومحبّة بالله. لا يوجد في الدير تجارة أو مصانع أو مشاريع بشريّة بالمعنى العامّ للكلمة، إذ لا شيء فيه “دنيوي”، فالأشياء والأعمال كافّة وحتّى المباني هي “آنية مقدّسة” تنتمي إلى عالم الله.

ولكي نفهم، بشكل أوضح، ما عاشه آدم في عدن، دعونا نستعين بأقوال الأنبياء وكتاب الرؤيا المليء بالرموز عن الفردوس الأرضيّ، والتي تُثير فينا حبّ التعرّف على الفردوس السماويّ.

لقد سبق أن قلنا بأنّ كلّ شيء في الفردوس مكرّس لله أو يخصّ الله كما يذكر زخريّا النبيّ: “في ذلك اليوم يكون على جلاجل [الأجراس الصغيرة] الخيل قدس للربّ، والقدور في بيت الربّ تكون كالجامات [الكؤوس، ومفردها جام] أمام المذابح، بل كلّ قدر في أورشليم وفي يهوذا تكون قدسًا للربّ” (14: 20). جلاجل الخيل هي صورة تُطبَّق على حياتنا اليوميّة، وتبلغ بنا إلى فهم المعاني السماويّة، أي إنّه حتّى جلاجل الخيل مقدَّسة ومُكرَّسة لله. كذلك الأوعية، رغم سواد لونها وقذارتها، فهي مُقدَّسة ومخصَّصة لله. كلّ آنية، مهما كانت، فهي تُقدّم التمجيد لله بما أنّها تخدم مجد الله، وتصير نورًا يضيء الإنسان وتملأه من المجد.

دعونا نتأمّل في هذه الآية من سفر الرؤيا: “ولا يدخلها شيء نجس ولا ممّن يعمل بالرجس أو بالكذب إلاّ من كان اسمه مكتوبًا في سفر حياة الخروف” (رؤيا 21: 27)، ويقصد الأسماء التي كُتبت في ملكوت السماوات. ونحن، أعضاء الكنيسة، ألن تُسجَّل أسماؤنا في سجلّ الحياة؟ هل يمكن أن يستثني الله أحدًا، أو أن يكون غير عادل؟ هل يُعقَل أن يقول للواحد أنا أحبّك، فتعال إليّ، ويطرد الآخر قائلاً له: إليك عنّي؟ هذا بالطبع غير ممكن. إن كنّا قد كُتبنا في كتاب الحياة، فهذا يدلّ أنّنا دخلنا ملكوت السماوات بقوّة. ورغم أن طبيعتنا ما زالت متغيّرة متأرجحة، إلاّ أنّنا نستهدف السماء، ونتوق إلى سكنى الفردوس، لا بل أصبحنا، منذ الآن، من سكّانه، وإن كنّا لا نزال نعيش هنا على الأرض، لأنّ الفردوس موجود، في الوقت عينه، على الأرض وفي السماء. إنّها حقيقة واحدة ثابتة، وليست حقيقتين مختلفتين، فنحن نسكن الفردوس ونتنزّه فيه، وفي الوقت عينه، نتّجه نحوه، كما كان آدم تمامًا. قد تكون عيوننا الداخليّة ما زالت مغلقَة ولا نستطيع أن نفهم هذا السرّ حاليًا، ولكنّها الحقيقة الحقيقة بأنّ الله فتح الفردوس، ووضعنا، نحن أيضًا، داخله كما فعل مع آدم. ولكن، ما علاقة هذا الموضوع بالدير؟! وما هو الدير؟ إنّه الكنيسة في معناها الكامل، تجتمع يوميًّا ليلاً ونهارًا، حاضرة، أبدًا، للتسبيح وللخدمة. لا تتوقّف الجماعة الديريّة عند ممارسة الخدم الليتورجيّة اليوميّة، إنّما تنشد، بسعي دؤوب ومن دون انقطاع، عبر كلّ عمل وخدمة إلى الالتفاف حول كلمة الله باسم المسيح، مؤلّفة، بذلك، الكنيسة المثاليّة. لهذا تستعمل كنيستُنا الديرَ كصورة عن الفردوس ونموذج له لكي نفهم أسرار الدهر الآتي. الكنيسة هي إعادة الوصال الشركويّ الذي كان يتمتّع به آدم مع الله في الفردوس. الدير هو صورة لمدينة الله السماويّة على الأرض. الفردوس يمثّل حقيقةً حيّةً في الدير. وأمّا المبرِّر الأساس لوجود الدير، فهو لأنّه هو ملء الكنيسة الحيّة المعاشة، ونحن جميعنا ندخل في إطار هذه الكنيسة. كلّ شيء في الدير مكشوف أمام ناظرَي الله. كلّ شيء فيه هو للإنسان، والإنسان هو لله. الله ومعه الملائكة والسماء والنجوم تجتمع في هذا الملكوت الذي أعطانا إيّاه الربّ. لهذا، تتوسّط الكنيسة الرئيسيّة مباني الدير وتسمّى الكاثوليكون. فالكنيسة هي مركز حياتنا ليست الشعائريّة الدينيّة منها وحسب، بل هي محور حياتنا كلّها وأساسها ووجودها. فهل أنتم فخورون بكنيستكم؟ كم ستكون مهيبة وجليلة، بالأكثر، كنيسة أورشليم السماويّة!

ولا بأس إن تابعنا بحثنا في الرؤيا، فنقرأ : “رأيت بعدها سماءً جديدةً وأرضًا جديدة لأنّ السماء الأولى والأرض الأولى مضتا ولا يوجد البحر بعد” (رؤ 21/1 ). يتكلّم يوحنّا الإنجيليّ عن حقيقة سماويّة، ويشرح لنا ما هو الفردوس. رأت عين الرسول النبويّة بأنّ: “السماء الأولى والأرض الأولى مضتا”. مع سقوط آدم انجذبت الطبيعة البشريّة كلّها في تيّار الفساد والانحلال، فكان مصيرها الموت. اضطربت السماء والأرض مع سقوط الإنسان الأوّل، وتبدّلتا، وما عادتا كما كانتا من قبل. أمّا الآن، فستتغيّران، أيضًا، لتصيرا “سماءً جديدة وأرضًا جديدة”. لن تعودا حسيّتين كما نراهما الآن، لكنّهما ستصيران لامادّيّتين، روحيّتين، وهذه هي الحقيقة التي سيصبح عليها عالمنا، إذ دخلت السماء والأرض في موكب التحوّل، وسوف يتمّ هذا التحوّل بصورة نهائيّة في حالته الإسخاتولوجيّة [الأخرويّة، ما يتعلّق بالآخرة].

كلّ شيء تغيّر. السماء الجديدة (أي مدينة الله)، والأرض الجديدة (أي أورشليم السماويّة)، وحضور الله. علاقتنا مع الله ومع الأرض ومع السماء ستأخذ، منذ الآن، ميزةً روحيةً أخرويّة. الذي كان قبلاً ما عاد الآن موجودًا.  بمعنى آخر، في هذه السماء وعلى هذه الأرض وفي قلوبنا الخاطئة، يتجدّد حضور الله لأنّه مقيم داخلنا. دخل هذا التجديد في ديناميكيّة سريعة دفعت العالم كلّه، والإنسان بخاصّة، نحو الكمال! يُجدّد الله، منذ الآن فصاعدًا، العالم تجديدًا عميقًا، وما حضور هذا الروح الإلهيّ في العالم سوى الفردوس مهما عصفت به الآلام والأحزان، فالأرض والسماء كوكب واحد، والله يملأهما معًا. يكتب الرسول بولس في الرسالة إلى العبرانيّين: “وإلى كنيسة الأبكار المكتوبين في السماوات، وإلى الله ديّان الجميع، وإلى أرواح الأبرار الذين بلغوا الكمال…” (عب 12/23 )، فكنيسة الأبكار السماويّة تعادل، إذًا، “موطننا” الأرضيّ. وهذا ما يؤكّده لنا القدّيس بولس في رسالته إلى أهل فيليبي: “أمّا نحن، فوطننا في السماء ومنها ننتظر بشوق مجيء مُخلّصنا الربّ يسوع المسيح”. (فليبي3: 20 ).

الفردوس والعالم والسماء هي أسرار لا يمكن للإنسان أن يفهمها فهمًا كاملاً لأنّها تتعلق بحقائق إلهيّة، بيد أنّه يُدركها بقلبه ويلمسها بإرادته، ولذلك لا يمكنه إلاّ أن يهتف: “نعم، هذا ما صنعته من أسرار وحقائق، يا إلهي، وأردته أن يكون، وليس هناك ما يناقضه”.

إنّ طريقة الحياة التي نحياها في هذا المكان السماويّ أي الدير هي خارجة عن حدود المعرفة العقليّة، لأنّها حياة تسمو على العالم، إنّها فوق العالم. إنّه عالم آخر مختلف تمامًا، ويتخطّى العالميّات كلّها. هو فردوس حاضر في العالم، وفي الوقت نفسه، في أعماق قلوبنا. إذًا، نحن لا نسكن الفردوس، فقط، وإنّما نشترك مسبقًا بأطيابه، ونتذوّق ما تذوّقه آدم عندما كان يتمتّع بنقاوة الطفولة في الفردوس، ولم يكن بعد قد بلغ مرحلة النضوج. كان طاهرًا، ومع ذلك لم يستطع أن يفهم الأسرار الموحى بها. إنّ التجربة التي تعرّض لها آدم لقنّته درسًا، ولذلك لا بدّ للفشل الذي تكبّده هو من أن يُساهم في نجاحنا نحن.

هناك في مغارة بطمس، مكان ظهور الرؤيا، سمع القدّيس يوحنّا صوتًا: “وسمعت صوتًا جهيرًا من العرش يقول: هوذا مسكن الله مع الناس، وسيسكن معهم ويكونون له شعبًا والله نفسه يكون معهم إلهًا لهم” (رؤيا 21: 3). مسكن الله ينزل “كوعاء هابط كأنّه سماط عظيم معقود من أطرافه الأربعة ومدلَّى على الأرض” (أعمال 10: 11)، فهذا السماط العظيم ما هو إلاّ رمز لملكوت السماوات. يحوي الفردوس الجديد الحيوانات الطاهرة وغير الطاهرة أي الصالحين والخطأة التائبين، فالجميع يعيشون معًا في الفردوس، ويكملون تقدّمهم في هذا الجوّ الفردوسيّ، حتّى يبلغوا إلى حضن الله.

كيف نقابل، يا ترى، هذه الصورة مع ما يُعاش في الدير؟ وكيف نتقدّم ونحن في هذا الفردوس نحو الله؟ العلامة المميّزة لتقرّبنا من الله هي ممارسة الصلاة باستمرار سواء كان في الكنيسة أو خارجها أو أثناء الأعمال الديريّة أو في القلاّية. في كلّ مكان، في كلّ عمل، في كلّ اختبار نشعر بأنّنا قد دخلنا الفردوس حقيقةً، أو، بالأحرى، لم ندخله إنّما قد وجدناه، ونتمتّع بخيراته كلّها، ونتغذّى من أطيابه، ونحرثه بحماس وحرارة ومثابرة، لنجني الكمال الحقيقيّ.

يقول سفر الرؤيا عن هذه المدينة التي تخصّ الله: “ولها سور عظيم عال، واثنا عشر بابًا، وعلى الأبواب اثنا عشر ملاكًا …” (21: 12)، فما معنى هذا؟ سور الفردوس السماويّ أعلى بما لا يقاس من سور الفردوس الأرضيّ. لا شيء يُضاهيه في الحجم، لأنّ الله هو نفسه السور المرتفع جدًّا، هو الحارس، وبنفخة فيه يُحرِّك الأشياء كلّها ويُنيرها، لأنّه الكلّ في الكلّ. تحاط الأديار بالأسوار العالية ذي القواعد الثابتة المتينة، ولنا مثال على ذلك أساسات الأديار في الجبل المُقدَّس، التي إن شاهدتموها لا بدّ لكم أن تصرخوا منذهلين: “حقًا، إنّ كلّ شيء هنا هو صورة عن الفردوس!”.

لماذا اثنا عشر يا ترى؟ لأنّ الذين يملأون الفردوس هم كثر، فالملائكة قائمون على الأبواب ليحرسوها ويؤمّنوا لنا الحماية اللاّزمة كلّما سعينا إلى توطيد علاقتنا بالله عبر يقظة دائمة. أمّا الأبواب العديدة فلكي تخرج الملائكة منها وتدخل. ولكن، هل، يا ترى، هم بحاجة لهذه الأبواب كلّها؟ وهل ينزل القدّيسون الذين سبقونا إلى الفردوس إلى الأرض؟ وهل نستطيع نحن أن نصعد إلى السماء؟ يوضّح لنا القدّيس يوحنّا بأنّ الصلة أو الشركة بين الفردوس السماويّ والفردوس الأرضيّ، أو بين الكنيسة وأورشليم السماويّة، غير منقطعة. فمعسكر القدّيسين يتواصل باستمرار معنا، ونحن، بدورنا، نتواصل معهم عبر صلوات الكنيسة وممارسة أسرارها. هناك دورة مستمرّة من فوق إلى أسفل تتمّ عبر هذه الاثني عشر طريقًا أو الاثني عشر بابًا. فالعدد اثنا عشر عدد رمزيّ يمثّل عدد أسباط بني إسرائيل الاثني عشر أو الرسل الاثني عشر. أتعابنا وصلواتنا ودموعنا، كلّها تدخل عبر أبواب الفردوس الاثني عشر هذه، وتصل إلى أذنَي إلهنا العظيم، وتُقدَّم إلى ابن الله الوحيد.

ذكر لنا القدّيس يوحنّا بأنّ السماء والأرض ليستا إلاّ مدينة واحدة لها قوّة واحدة وشركة واحدة، وأمّا المسافات بينهما فقد أُلغيت بالكلّيّة. يقول المزمور التسعون: “لأنّه يوصي ملائكته بك ليحفظوك في جميع طرقك” (90: 11). ولذلك تقف الملائكة على الأبواب متأهّبة، وعيونهم شاخصة تترقّب كلّ إشارة تصدر عن الله لتنقلها إلينا. فالملائكة خدّام إلهيّون يحملون صلواتنا إلى الربّ، ويُصعدونها إلى السماوات، ويجعلون القدّيسين شفعاء لنا ومساعدين.

ثمّ يذكر القدّيس يوحنّا بأنّ: “أسس سور المدينة مُرصّعة بكلّ حجر كريم…” (21: 19) لم تُصنع الأساسات بأحجار عاديّة إنّما هي مرصَّعة بالأحجار الكريمة. فماذا يعني هذا؟ يعني أنّ أسس المدينة هم الرسل والشهداء القدّيسون والرهبان، فنحن بالنسبة إلى المسيح أبناء محبوبون جدًّا، وبالنسبة إلى الكنيسة نحن أحجار ثمينة كريمة. تشير الأسس غير المنظورة إلى أنّ أسماءنا مكتوبة في مصحف الحياة منذ الدهور، منذ بدء الأزمنة، وقبل خلق العالم، وقبل أن يوجد الفردوس – السماويّ والأرضيّ. لقد سبق لله أن عرفنا واختارنا وحدّد لنا الأمكنة والأزمنة “على أساسات وأسوار”، ولذلك نحن نسعى هنا على الأرض لنبلغ الملء الأخير. يرنّم النبيّ داود قائلاً: “الذين يتوكّلون على الربّ هم مثل جبل صهيون…” (24: 1) أي أقوياء وغير متزعزعين. إنّ رغبة الله ومشيئته هي خلاصنا، وهو لا يتراجع ولا يكلّ ولا يُغيّر رأيه في هذا الشأن، “لا ينعس ولا ينام حارس إسرائيل”، بل يجد، دائمًا، الوسيلة اللاّزمة ليُخلّصنا، ويتحقّق هذا الخلاص بمقدار ما نسعى في طلبه برجاء وطيد ثابت.

“لن يتزعزع إلى الأبد الساكن في أورشليم”، فمن هو هذا الساكن في أورشليم إلاّ الله؟! ما إن بُني الهيكل في أورشليم، حتّى صار يُذكر فيه اسم الله، وأخذت قبائل إسرائيل جميعها تجتمع فيه لكي تقيم الصلاة، وتشهد على قوّة ربّ الجنود وشدّة إيمان أورشليم (أي الكنيسة) وحياتها وإثمارها. ونحن، أيضًا، سنجتمع كلّنا، في ما بعد، في أورشليم – الفردوس حول الله نفسه، أي إنّ الله وأنا نسكن معًا!! “أورشليم المدينة العامرة التي أحاطت بها الأسوار” (مز 21: 3) هي مدينة حصينة توحّدت أجزائها كلّها ضمن السور الواحد. اختلفت الأماكن، وتنوّعت طرق القداسة، ولكنّها بقيت تنتمي كلّها إلى هذه المدينة، إلى أورشليم التي هي الحياة مع الله.

يقول القدّيس يوحنّا بأنّه لم يجد للمدينة هيكلاً: “ولم أر فيها هيكلاً” (رؤ 21: 22). الهيكل هو حضور الله والمكان الذي يتقدّس فيه اسمه. لقد ساهمت الحجارة والماس والخشب في بناء هيكل أورشليم، ولكن عندما نزل الله إلى الأرض، لكي يُجدِّد الكون ويُتحد الأرض مع السماء في الفردوس، بدّلها باللحم والعظم، وبمعنى آخر أصبح الهيكلُ جسدَه الذي اتّخذه من الطبيعة البشريّة “العجنة البشرية”، أي لبس الربّ طينتنا: “أليس للخزّاف سلطان على الطين فيصنع من جبلة واحدة إناءً للكرامة وإناء آخر للهوان…” (رومية 9: 21). الربّ، سيّد الكلّ، هو هيكلها: “لأنّ الربّ الإله القدير والحمل هما هيكلها” (رؤيا 21: 22). لقد سبق للقدّيس يوحنّا أن قال: “الهيكل لم أره”، فكيف يقول، الآن، بأنّ الله هو الهيكل؟ نعم، لأنّ المسيح لبس جسدًا، وحمل جدراننا أي جسدنا. يؤكّد هذا القول بأنّنا نحن لباس الله؛ نحن كنيسته الحيّة تمامًا كمريم العذراء الفائقة القداسة التي حملت السيّد في حشاها، هكذا نحن، أيضًا، فما إن اتّخذ الله جسدنا حتّى أصبحنا مشتركين في ألوهيّته. نحن نشكّل معه جسدًا واحدًا، والرأس هو المسيح: “فكذلك نحن الكثيرين جسدٌ واحدٌ في المسيح، وكلّ واحد منّا عضو للآخرين” (رومية: 12: 5 ). وأيضًا: “وأخضع كلّ شيء تحت قدميه وجعله رأسًا فوق الجميع للكنيسة التي هي جسده وملء الذي يملأ الجميع في كلّ شيء” (أفسس1: 22-23 ). وخلاصة القول إنّ حياتنا تحوّلت عن الأرضيّات وانتقلت إلى السماويّات، وصارت أعماقنا هيكلاً يغمره الله ويُنيره. فما عاد الهواء بحاجة لأن يصفر، ولا حاجة، أيضًا، للضوء، لأنّ الابن يقيم داخلنا، هو فينا: “ولا حاجة للمدينة، إلى الشمس ولا إلى القمر ليُضيئا فيها، لأنّ مجد الله أنارها ومصباحها الحمل” (رؤيا 21: 23).

بما أنّ الآب هو مع الابن، فهو، إذًا، معنا. حيث نكون نحن يكون هو أيضًا. وحيث يكون هو نكون نحن أيضًا، فيا له من أمر عظيم! أوَنتساءل، بعد، إن كنّا قد وجدنا الفردوس؟ لكنّنا نحن في الفردوس! لم يخترع الله فردوسًا آخر لكي نفتّش عنه، صنع منّا نحن فردوسًا، نحن في الفردوس.  ما هذا السرّ العجيب! إن أدركناه لا بدّ أن نفقد صوابنا هاتفين: “الأفضل لنا بأن تبتلعنا الأرض وتُطبق فاها علينا!”. هو سرّ قريب منّا جدًّا ومألوف لدينا، ومع ذلك فنحن نتجاهله وننساه، باستمرار، في حياتنا اليوميّة، وأثناء أعمالنا، ونحن نسير في الطريق، أو في كنف العائلة أو في أي ظرف أو موقف آخر، ولا نشعر بأنّنا موجودون في ملكوت السماوات، وبأن كلّ واحد منّا يملك مع ملك السماوات والأرض.

صنع الله منّا جلاله ومجده، فكيف، إذًا، لا ندركه ولا نلمسه في ذواتنا كلّ حين؟ الله اللاّمنظور صار خادمًا لنا، جعل ذاته تلميذًا لنا يتبعنا إلى بيوتنا لكي يقيم بشكل غير منظور معنا. هو حاضر بشكل غير منظور في هذه الكنيسة أي في هذا الفردوس، ونحن، أكبر الخطأة، حجارة كريمة في عينيه.

2- الوقوف أمام الله

كيف يجب علينا، إذًا، أن نقف أمام هذا الفردوس الحاضر في السماء وفي داخلنا؟ وما الوسيلة التي اتّخذها أجدادنا حتّى دخلوا إلى الفردوس؟ كيف وُجد آدم وحواء في الفردوس؟ كانا عريانين ولم يخجل الواحد أمام الآخر: “وكانا كلاهما عريانين آدم وزوجته وهما لا يخجلان” (تكوين 2: 5). لندخل إلى الفردوس القديم ونقابله مع فردوسنا الخاصّ. كان الإنسان الأوّل عريانًا مغلَّفًا بالنعمة الإلهيّة، حياته بسيطة وعفويّة [عن القدّيس غريغوريوس اللاّهوتيّ في مقالته الخامسة والآربعين عن الفصح المقدّس]، ولم تكن لديه مهنة. محبّته لله فطريّة، وتصرّفاته من دون تكلّف أو إرغام. حرًّا، ولم يكن يحتاج إلى شيء، لأنّ الله كان كلّ شيء بالنسبة إليه. كان عاريًا كالطفل الذي يُقدَّم إلى جرن المعمودية، ويُغطَّس في مياهه وهو عار. إنّ تعرّي الإنسان الأوّل يجعلنا نفهم معنى سرّ النذر الرهبانيّ. فالتعرّي بالنسبة إلى الراهب يُصوَّر في الرأس المعرّى المكشوف. كانوا في الماضي يمارسون قصّ الشعر بجملته عند الرجال والنساء على حدّ سواء لكي نتذكّر العري القديم، وإنّه علينا أن نستردّ ما خسرناه قديمًا في الفردوس بنزعنا كلّ رباط يصلنا بالعالم. نحن من أبناء الفردوس ولسنا من “العالم”، ولذلك يتعرّى الرهبان من “لباس” العلاقات الاجتماعيّة والمعارف والآراء والإرادة والخبرات الماضية العالميّة. ينسى الراهب الكلّ ويترك الكلّ لأنّه لا شيء ممّا هو في العالم له قيمة بحدّ ذاته داخل الدير. الشيء الوحيد المهمّ هو: كيف أعمل لكي أنمّي في داخلي المحبّة الإلهيّة وأزيدها اضطرامًا، وأفسح مكانًا لسكنى النور الإلهيّ. لا حماية للراهب الساكن في الدير سوى الله. أتعلمون بأنّه ممنوع على راهب أن يشتكي على راهب آخر أمام السلطات، وإنْ سبّب له الأذى أو أخطأ تجاهه؟ لماذا؟ لأنّ الله هو المُدافع الوحيد عنه داخل الدير، هو السور المنيع الذي سبق وتحدّثنا عنه. لا نبالي إن حكموا علينا ظلمًا، فالله يدافع عنّا. نحن كبشر نبدو متروكين وحيدين لا معين لنا، ولكنّنا أحرار. نحن لا نخجل من هذا التعرّي الذي دعانا الله لنعيش فيه، لأنّه يحوّلنا أنقياء من الدنس. ولكن، لكي نبلغ إلى هذه الحالة، علينا، بالدرجة الأولى، أن نعمل عمل الملائكة أي تمجيد الخالق من دون توقّف. اهتمامنا الأوّل، إذًا، هو التسبيح والعبادة الإلهيّة وعيش الأسرار المسيحيّة لنكون في شركة دائمة معه. زد إلى ذلك القوانين الشخصيّة والتأمّل في الكتب الروحيّة وممارسة الاعتراف لدى الأب الروحيّ. هذه الجهادات والتداريب كلّها التي يحياها الإنسان في الخفاء أو في المخدع، والراهب في قلاّيته، تساعد على تنقية النفوس من أدران الخطيئة. وهذا ما أشار إليه السيّد بقوله: “أمّا أنت، فإذا صليّت فادخل حُجرتك وأغلق عليك بابها وصلّ إلى أبيك الذي في الخفية …” (متّى 6: 6). ومن النافل القول إنّنا نختبر في الصلاة وممارسة الأسرار الكنسيّة ما رنّمه، يومًا، صاحب المزامير: “ألقِ على الربّ همّك وهو يعولك.” فلتكن، إذًا، مشيئة الربّ في كلّ أمر يراه هو مناسبًا وموافقًا لحياتنا. هذا هو مبدأ الحياة الرهبانيّة الأساس، وبه يصير الإنسان حرًّا من كلّ قيد ليحلّق نحو السماويّات. ويجب ألاّ يسهى عن بالنا أنّ للتعرّي ميزة سرّيّة، لأنّه يعني التجرّد من أفكارنا وخيالنا ومن كلّ العالميّات الباطلة التي نحتجزها داخلنا، ومن كلّ ما يدنّس قلوبنا، ويجرّها من اليمين إلى اليسار، فتدنّس النفس. فإنْ تعرّى الراهب من الله لكي يلبس عوضًا منه الأفكار الدنيويّة يكون قد انحرف إلى اليسار.

كم هو حسن أن نقتدي بما حدّده الرسول بولس بقوله: “وأنتم تعلمون أن يديّ هاتين سدّتا حاجاتي وحاجات رُفقائي” (أعمال:20: 34). يعني أنّ الدّيْن الواجب تسديده تجاه الله، وتاليًا تجاه الكنيسة، هو أن يمسي الإنسان نفسه كنيسة. علينا أن نصير ذلك الإنسان التي تحتاجه الكنيسة أي أن نضع ذواتنا في خدمة الله، باذلين ذواتنا كما وضع هو ذاته من أجل خلاصنا. توق المؤمن الحقيقيّ الوحيد هو الابتهاج بالربّ، وأن يبقى على علاقة متينة به، فالله يُسرّ برغبات الإنسان الصالحة. هذه هي الوسيلة التي بها تجعل حياتنا الروحيّة سهلة، وتحدّد لنا دورنا. فدورنا يظهر في كلّ ما يساهم في خلاص نفوسنا: في أعمالنا، في مهنتنا، في تصرّفنا مع عائلتنا… الله يدعونا لكي نقتفي أثره بما أنّه سكن فينا وأمسينا مسكنًا له. يقول القديس باسيليوس الكبير: “عندما يتناول أحد، باستمرار، الأسرار المُقدّسة يصبح وكأنّه صار يملك أكثر من حياة”. إنّ نعمة الروح القدس تفعل فينا عبر أعمالنا الصالحة وعلاقاتنا الحميمة بالله وبالآخر، ويستمرّ هذا الفعل بقدر ممارستنا للأسرار المقدّسة، فيجعلنا نكتشف داخلنا مجالات عدّة ومنافذ متنوّعة تفضي بنا إلى الفردوس. لم يعرف آدم فسادًا عندما كان يحادث الله، ولكن عندما دخلت الحيّة بينهما وفصلته عنه أصبح قابلاً للفساد وللانحلال. ظلّ الإنسان يُحادث الله حتّى ظهرت الحيّة مريدة أن تلغي الفردوس وتبعد آدم عنه، ونجحت مشورتُها الرديئة وأسقطته في العصيان. أمّا نحن، فلنجتهد، بقدر استطاعتنا، بألاّ تنقطع محادثتنا مع الله في فردوسنا الأرضيّ.

يقول سفر الرؤيا: “والمدينة لا تحتاج إلى الشمس ولا إلى القمر ليُضيئا لها، لأنّ مجد الله أضاءها، وسراجها هو الحمل” (21: 23). لا يتعاقب  النهار والليل في المدينة السماويّة أي إنّه لا مكان للفساد وللموت فيها بعد. لا يوجد شمس ولا قمر، لأنّ كلّ شيء بات نورًا، لا يوجد سوى الله النور الذي لا يعروه مساء، النور المشرق في فجر القيامة المجيد.

3- ما هو عملنا؟

ما هو العمل الذي يجب أن نتمّمه في الفردوس؟ ماذا فعل جدّانا الأوّلان قبلاً؟ من البديهيّ القول إنّهما كانا يعملان، لأنّ الله وضعهما في جنّة عدن لكي يحرثاها ويحفظاها: “فأخذ الربّ الإله آدم وجعله في فردوس عدن ليفلحه ويحفظه” (تكوين 2: 15). انعكس جلال الله وعظمته على الطبيعة، فكانت النباتات تخبر بجمال الله وقداسته ببساطة. ما طلبه الله إلى الإنسان بقوله له أوّلاً: “تفلح البستان في عدن” يعني إن أردنا الحياة مع الله علينا أن نعمل. من لا يعمل هو إنسان تعس في مجالات حياته كلّها حتّى الروحيّة منها، لذا، فالعمل أمر محتّم. ثمّ أمره ثانيًا: “من جميع شجر الفردوس تأكل” (تكوين 2: 16). لا تنذهلوا من أنّ الأكل هو عمل روحيّ، أيضًا، فنحن، كما سبق وقلنا، نقصد هنا المعنى الحسّيّ والمدرك للفردوس. إن أكل آدم في الفردوس من ثمار الشجر الفردوسيّ يُصوِّر لنا مسبقًا قول الربّ: “خذوا كلوا هذا هو جسدي، إشربوا منه كلّكم هذا هو دمي …” (متّى 26: 26-27)، هو صورة مسبقة عن الغذاء السماويّ، أي عن شركتنا مع الله واتّحادنا به. لم يتغذَّ آدم جسديًّا عندما تناول من ثمار الفردوس، فقط، وإنّما كان يمتصّ الألوهيّة أيضًا. صار الطعام وسيلة للشركة مع الله. بكلمات “خذوا كلوا” يذكّرنا الربّ بحالة الإنسان قبل السقوط في الخطيئة، والتي نعود إليها عبر اشتراكنا في أسرار الكنيسة.

يهدف عمل الأكل والشرب إلى رفع الإنسان إلى مستوى الشكر والإقتراب من الله. نتغذّى من العقائد الإلهيّة، ومن حياة الآباء وصلوات القدّيسين، فننال البهجة، ونعيش فرح الفردوس الإلهيّ. “نأكل الله ونشربه” في الكنيسة، ونسكر من محبّته يوميًّا، فيصير ملكوته أقرب إلينا. أترون كيف أنّ أصغر الأعمال، كتناول الطعام، تفضي إلى الشركة مع الله؟ نظّم الله الأشياء كلّها لكي يُذكّرنا بحضوره، ولم يُحدِّد الله إلاّ تحريمًا واحدًا بقوله: “فأمّا من شجرة معرفة الخير والشر فلا تأكل منها” (تكوين 2: 17). لم يستطع آدم أن يتذوّقها لأنّه لم يكن مستعدًّا بعد، إذ يجب أن يعرف الأسرار التي حدّدها الله منذ الدهور، وينضج في الطاعة. كذلك الحال بالنسبة إلينا، فنحن نختبر هذا الإستعداد، أيضًا، عندما يضع علينا الأب المعرّف قانون توبة لنطبّقه خلال ستّة أشهر أو سنتين أو خمس سنوات، مختبرًا بذلك طاعتنا وتوبتنا. أمّا نحن، فنُظهر، بخضوعنا، تصميمَنا على العودة وإصلاح ذواتنا وتحسين سيرتنا. الطاعة، إذًا، ضروريّة، إذ بها نزداد عمقًا ونضوجًا، وندخل في حياة الكنيسة السماويّة مع كلّ ما يمتّ إليها بصلة من رموز وصور و…، ينتصب في أعلاها المسيح، شجرة الحياة.

ويقول لنا سفر الرؤيا، أيضًا، بأنّه يوجد في الفردوس مكان واسع شاسع: “وفي وسط ساحتها وعلى ضفتَي النهر شجرة الحياة…” ( رؤيا 22: 2)، ويقصد بأنّه ما يزال هناك مكان لنا. ثمّ نقرأ: “وأراني نهر ماء الحياة صافيًا كالبلوّر خارجًا من عرش الله والحمل” (رؤ 22/1)، وهنا يتكلّم القدّيس بوضوح عن النعمة الإلهيّة التي تغمر الفردوس، وأمّا جريان ماء النهر فيمرّ في قلوبنا، وترتوي أعماقنا بالنعمة الإلهيّة في كلّ وقت وساعة، ويصير الله سيّد قلوبنا. تتفجّر النعمة من المياه حيث العرش السماوي أي تنبع من حيث يوجد الله، منبع الحياة كلّها.

قبل أن يخلق الله حوّاء وضع الحيوانات في الفردوس لكي تعلّم آدم. أيّ مُربٍّ كبير هو إلهنا! فعندما رأى آدم كيف تتآلف الحيوانات مع بعضها البعض في الفردوس تعلّم منها الحياة الإجتماعيّة. من هنا نعلم أنّ حياة المجتمع بدأت في الفردوس هناك حيث يوجد نموذج عن الحياة الأبديّة، حياة الملكوت. لذلك لحياتنا الاجتماعيّة دورٌ بارزٌ ومهمّ في نيل الفردوس. قبل أن يعطي اللهُ المرأةَ لآدم قدّم له الحيوانات ليطلق عليها أسماءها: “وجبل الربّ الإله من الأرض جميع حيوانات البرّيّة وطير السماء، وأتى بها إلى آدم ليرى ماذا يسمّيها. فكلّ ما سمّاه به آدم من نفس حيّة له اسمه” (تكوين2: 19). أراد الله أن يرفع آدم، ويجعله الملك الذي يسود على الحيوانات ويسمّيها بأسمائها، ولكن عندما رأى آدم بأن كلّ جنس من الحيوانات بدا زوجين زوجين ويعيش حياة مشتركة، وعى، عندئذ، وحدته. تكاثرت الحيوانات مكوّنة قطعانًا عدّة، وأمّا آدم فما زال وحيدًا، فشعر بحاجته إلى مُعين آخر. وعندها قال الله: “لا يحسن أن يكون الإنسان وحده، فأصنع له عونًا بإزائه” (تكوين 2: 18)، فخلق له المرأة. المسألة ليست مسألة فيزيائيّة، إنّها تدريب على معرفة الأسرار. الزواج ليس حالة مادّيّة، بل هو جسر يوصلنا إلى المسيح متى غدا ملكوتًا وفردوسًا. وهنا أودّ أن أذكّركم بقول النبيّ ملاخي حول هذا الموضوع:  “وهي خليلتك وزوجة عهدك” (ملاخي 2: 14 )، أي لا يكون لك إلاّ امرأة واحدة تمسي رفيقة دربك. لا يتوقّف الله على هذا، بل يرغب أن يكون هذا الاتّحاد علامة لحضوره، اتّحادًا لا ينفصم: “ولا يخوننّ أحد منكم زوجة شبابه (ملاخي 2: 15)، لأنّ الربّ يُبغض الطلاق. الزواج، إذًا، لا ينحلّ، لأنّ الزوجين يؤلّفان مع أولادهما الكنيسةَ وجزءًا من الفردوس. أترون إلى أيّة مرتبة رفع الله شأن الزواج؟ يبتغي الله بأن يغدو النجاح عنوان بيوتنا وعائلاتنا، وبأن تشكّل أفراد العائلة جسمًا واحدًا، لأنّه من غير الممكن أن نكون على صورة الله الواحد إن لم نكن جسدًا واحدًا مع باقي الأفراد الذين ننتمي إليهم وينتمون إلينا، ولهذا السبب قال سليمان: “إشرب ماء من جبّك ومياهًا جارية ممّا في بئرك. لتفض ينابيعك إلى الخارج، سواقي مياه في الشوارع… وليكن منبعك مبارَكًا وافرح بامرأة حداثتك…” (أمثال 5: 15-17) يذكّر النبيّ سليمان هنا المتزوّج بأن يكتفي بزوجة واحدة لأنّنا خُطبنا لله الواحد. جميل أن نرتوي بمّا تقدّمه لنا الكنيسة، فهي التي تُساعد على نموّ حياتنا الروحيّة. وما ينطبق على الزواج ينطبق، أيضًا، على الحياة الديريّة حيث ينتفي الانقسام، ويمسي كلّ شيء مشترَكًا، وهكذا يصير الدير جسدًا واحدًا باتّحاد الحرّيّات المختلفة، وبذل الذات الطوعي محبّة بالله.

ليس ضروريّا أن يحصل الاتّحاد بين شخصين مختلفيّ الجنس، إنّما هو، بالأحرى، شركة مع الآخر واندفاع نحوه، ليسيرا معًا إلى الله موضوع اشتياقهما. فنحن لن نجد الراحة، البتّة، إن لم يصبح المسيحُ “العريسَ” و”الختنَ”، والكنيسةُ الزوجةَ والقرينةَ. ففي الزواج، كما الحياة الرهبانيّة، اندفاع أخرويّ، لهما طريق ارتقاء واحد نحو الكمال والفردوس الذي دخلناه، وننمو فيه ونتقدّم.

يقول صاحب المزامير” سبحوا الربّ بأصوات التهليل” (مز46: 1 )، و” اختارنا ميراثًا له، جمال يعقوب الذي أحبّه” (مزامير 46: 4)، وهذا يعني بأنّ الله أحبّ الكنيسة والفردوس وأعطانا إيّاهما. يجب أن ترنو عيوننا إلى العالم الآخر، ولا ننسى بأنّنا دخلنا الفردوس ولا يجب أن نتراجع عنه. لا نحيا، بعد، كما لو كنّا أيتامًا نفتقد إلى أمّنا الكنيسة. لماذا نحن، دائمًا، مضطربون وقلقون وخائفون؟ لدينا المسيح، فهو البئر الذي يروينا، والسور الذي يحمينا؛ إنّنا نملك الكلّ، فلا نرهبنّ أمرًا. نحن أثمن في عينّي الله من الذهب الخالص والأحجار الكريمة لأنّنا أبناؤه. يتردّد هذا الكلام في مواضع عدّة من الكتاب المُقدّس لكي يستنهض أذهاننا المتراخية، ويليّن قلوبنا القاسية عساها تدرك، ولو جزءًا بسيطًا، من هذا الجلال. فماذا علينا عمله، إذًا، لنكون أوفياء لهذا الجمال الذي حبتنا به النعمة الإلهيّة؟ فلنجعل من حياتنا فردوسًا. يحيا الرهبان حياتهم كلّها لله، فلنقتدِ بهم، وإن كنّا ما زلنا نحيا في الخطيئة. لقد وهبنا الله سلامه، وفتح لنا كنوزه كلّها لنتشدّد بالثقة، ونحيا بالرجاء والفرح والإيمان باسمه وبأعماله.

لمّا ارتكب قايين الجريمة الأولى بقتله أخاه هابيل، وكانت يداه ما تزال مضرّجتين بدمه، لم يلمه الله على فعلته رغم معرفته بعدم توبته، بل دنا منه سائلاً: “أين هو أخوك هابيل؟” (تكوين 4: 7). على هذا النحو يتصرّف الله معنا وفي أيّة حالة نكون فيها. هو حاضر لنجدتنا في كلّ أمر ومناسبة شرط ألاّ نبتعد عنه. لنحاول أن نشعر أنّنا “خارج” العالم وفي العالم ولسنا من العالم وبخاصّة في عصرنا الحاضر! وهكذا نماثل الرهبان في نهجهم، ونلبث ثابتين بالروح والذهن وكأنّنا في الدير.

بالنسبة إلى الراهب، عالم الدير هو جماعة القدّيسين، وعالم الرجل المتزوّج هو عائلته التي يحيا بها وأفراد المجتمع وأعضاء الكنيسة، وكلّها أطر للروح القدس تندّي قلوبنا بالماء المحيي، وتغذّيها بالسلام الروحيّ، وتزوّدها بالإلهامات الإلهيّة شرط أن نبقى أوفياء للكنيسة ولتقاليدها. فالصوم مثلاً، فضلاً عن أنّه وصيّة مقدّسة، تقليد حيّ في كنيستنا، فإن لم نمارسه لا نكون مسيحيّين حقيقيّين. كيف صعد إيليّا إلى السماوات؟ متى عاين موسى الله؟ كيف حصل بولس الرسول على الدعوة الإلهيّة؟ وكذا برنابا؟ متى رأى بطرس الرؤيا: “فرأى السماء مفتوحة وشيئًا يُشبه قطعة قماش كبيرة معقودة بأطرافها الأربعة تتدلّى إلى الأرض”. (أعمال 10: 11) عندما كان صائمًا. الجميع، إذًا، صاموا. فلنحفظ نحن، أيضًا، ما وصل إلينا عبر تقليد الكنيسة.

تهدف الحياة الروحيّة، سواء كانت في الدير أو خارجه، إلى بلوغ كمال الملكوت، فلنتوغّل، إذًا، في الفردوس باتّجاه الشرق، فهو الدرب الوحيد الذي يوصلنا إلى ميناء الخلاص. الفردوس الأوّل كان قطعة في شرق الأرض، فأين هو الآن؟ لقد اختفى. وأين آدم الأوّل؟ ما عاد موجودًا. الفردوس الثاني هو الكنيسة، المكان الذي نتّحد فيه مع الله، إنّها السماء على الأرض. وآدم الثاني، المسيح، أين نجده؟ في كلّ صقع، يكفي أن تمدّ يدك، وسوف تدركه وتلمسه. يقيم المسيح في هيكله أي في داخلنا، ما يشير إلى أنّ آدم الثاني يوجد حيث نكون نحن. الله لبس جسدنا وسكن فينا، فالفردوس، إذًا، داخلنا، ونحن ممتلئون من حضوره الإلهي، فكيف يجوز لنا أن نرتكب الخطيئة بعد؟ كيف لا نشرب “الماء الذي ينبع من الحياة الأبديّة التي تفيض فينا؟ “أمّا من يشرب من الماء الذي أعطيه أنا، فلن يعطش إلى الأبد بل الماء الذي أعطيه له يكون فيه ينبوع ماء ينبع إلى الحياة الأبديّة” (يوحنّا 4: 13-14).  كيف لا نكون مُضيئين بهذا النور الذي يشعّ داخلنا؟ ينتظر الربّ بصبر وطول أناة جوابنا. أنّى وُجدنا، وإن كنّا خطأة، هناك يوجد الفردوس أيضًا. فلنشكر الله على عطيّته السنيّة، ولنهتف بثقة قلب كاملة وضمير نقيّ: “نعم، لقد وجدنا الفردوس! لقد اكتشفناه! إنّه في داخلنا! أريد أن ألبسك باستمرار، يا إلهي، لكي أصير مسكنًا لك، وأكون فردوسك أنت، فرحك وسعادتك، بما أنّك ملأت قلبي من طيب محبتّك، أنت هو ملاذي  وفردوسي”.

* من كتاب:(sous les ailes de la colombe)Catechéses et Discours.Archimandrite Emilianos. محضارة ألقيت في 19 آذارا من العام 1987

Leave a comment