فائدة القراءة الروحيّة

فائدة القراءة الروحيّة

من كتاب بستان الروح

إعداد راهبات دير القديس يعقوب الفارسي المقطّع

 

هناك أنواع كثيرة من القراءات الدينيّة. ولكنّنا نخصّ هنا نوعّا معيّنًا منها هو القراءات الروحيّة أي القراءات التي تهدف إلى إلهاب الروح بمحبّة الله، وإلى تقويم الشخصيّة وتنقية النفس والجسد من أدناسهما.

توجد ثلاثة مصادر أساس للقراءات الروحيّة وهي:

1-  الكتاب المقدّس بعهديه.

2-  أقوال الآباء والكتب النسكيّة.

3-  سير القدّيسين سواء كانوا قدّيسي البرّيّة أم الشهدء أم أبطال الإيمان.

وهذا النوع يعطي أمثلة حيّة للفضائل المسيحيّة في أعلى صورها، وفيه قال القدّيس إسحق السوريّ “شهيّة جدًّا أخبار القدّيسين في مسامع الودعاء”.

القراءة، بوجه عامّ، تجمع العقل من تشتّته، وتقتاده من طياشته في أفكار وموضوعات كثيرة إلى التركيز في موضوع القراءة. أمّا القراءة الروحيّة، فإنّها لا تكتفي، فقط، بأن تجمع العقل من جولانه في العالميّات، وإنّما، أيضًا، ترفعه إلى عالم الروح، وتفتح أمامه أبواب الإلهيّات ليذوق ما أطيب الربّ. لذا، فهي بهذا ذات فائدتين:

1-  منع الأفكار الزائلة الباطلة عن العقل أو الأفكار الشرّيرة، ولذا تُستخدم القراءة الروحيّة، أحيانًا، كسلاح للعفّة وطرد الأفكار النجسة، وكسلاح لطرد الغضب وتسكين النفس.

2-  السموّ بالفكر إلى الإلهيّات حتّى يصل الإنسان إلى حالات سامية جدًّا بدوام ارتباطه بالله.

إنّ القراءة الروحيّة باب يدخل منه الإنسان إلى حرارة النفس. فالنفس التي بردت حرارتها الروحيّة لانشغالها بالمادّيّات، أو لاحتكاكها بالخطيئة، أو لتفكيرها بما لا يليق، أو لتغرّبها عن الروحيّات مدّة طويلة، هذه النفس تعود إليها حرارتها تدريجيًّا بالقراءة الروحيّة، فتعود النفس لتتذكّر طبيعتها النقيّة، وتشتاق إلى السموّ، وتشعلها الحرارة بحبّ الله وقدّيسيه، والرغبة في محاكاة ما تقرأ من سير وفضائل عالية، ولقد قال القدّيس أمبروسيوس “لتكن قراءتنا الروحيّة غذاءنا اليوميّ، ولتكن بتأمّل، محاولين تطبيقها. ولنجاهد، على الأخصّ، بتطبيق الفضيلة التي توبّخنا مطالعتنا لها”.

من طبيعة الحرارة التي تشعل النفس أنّها تقتل كلّ ما يحارب هذه النفس من ملل أو ضجر أو توان أو كسل، وتجعل الفضائل سهلة وخفيفة في عينيّ القارئ، وتوجِد في قلبه استعدادًا لها، وتنخسه حاثّة إيّاه على البدء بالعمل. فيجد الإنسان قلبه كما لو كان فيه نار متّقدة، وعندها تتضائل الشهوات العالميّة أمام عينيه، ويشعر باحتقار لها، لا بل تختفي، أحيانًا، بالكلّيّة من ذاكرته.

إنّ الذي يقرأ عن وصايا الله وشرائعه وعن الفضائل في تنوّع صورها، يجد في القراءة مرآة سليمة ينظر فيها إلى نفسه، أو يجد فيها ميزانًا يزن به شخصيّته وأعماله. وبهذا تكون القراءة مادّة لمحاسبة النفس، إذ يحاسب الإنسان نفسه مفتّشًا فيها ليرى هل توجد فيها تلك الفضائل التي قرأ عنها، أم هي محرومة منها بعيدة عنها. وكلّما قرأ الإنسان سير القدّيسين، وكلّما نظر إلى المستويات العالية التي ارتقوا إليها في تعب وجهاد ومثابرة وصبر، حينئذ يشعر بصغر قيمته وضآلة شأنه، ويرى أنّه مجرّد مبتدئ في الطريق لم يخطُ فيه بعد أيّة خطوة ذات قيمة، وهكذا تقتاده القراءة إلى التواضع الحقيقيّ المبني على معرفة سليمة للنفس. وكلّما تزداد قراءته يزداد اتّضاعه، لأنّه يتذكّر قول الربّ “من يعرف كثيرًا يطالب بأكثر”.

حسن جدًّا أن تكون فضائل القدّيسين وحياتهم طريقًا لتواضعنا، وإنّما الأحسن أن تكون هذه الفضائل حافزة لنا على الغيرة المقدّسة ومحاولة محاكاتهم. ولكن على الإنسان هنا أن يعرف مقدار قامته الروحيّة، فلا يضع لنفسه – وهو مبتدئ- تدريبًا أو فضيلة وصل إليها قدّيس بعد جهاد طويل دام سنوات مديدة، ويريد هو أن يقفز إليها قفزةً واحدة مستهينًا بالأمر، إنّما يجب أن يكون ذلك بإفراز وحكمة، فنختار منها ما يناسبنا وما تساعد عليه ظروفنا الشخصيّة ودرجتنا الروحيّة.

القراءة الروحيّة هي، أيضًا، مادّة للصلاة، ويختلف نوع الصلاة باختلاف نوع القراءة. فهناك قراءة تُشعر الإنسان بخطاياه ونقائصه، فيحني هامته في استحياء وانسحاق وندم، معترفًا أمام الله بذنوبه وآثامه الكثيرة طالبًا منه الرحمة والمغفرة. وقراءة أخرى تبسط أمامه الفضائل في سموّها، فيصلّي بلجاجة وإلحاح طالبًا من الله عونًا ونعمة ليستطيع أن يسير في طريق الآباء، ويقوى على محاكاتهم. وقراءة ثالثة تحرّك في القارئ محبّة الآخرين، فيرفع يديه إلى فوق طالبًا من أجلهم. وهناك قراءة تعرض أمام الإنسان صفات الله وعظمته التي لا تحدّ، فيسجد في خشوع ممجّدًا الله ومباركًا إيّاه، شاعرًا بعدم استحقاقه للتحدّث معه على هذه الدرجة من المجد. وهناك قراءة أخرى تلهب القلب بمحبّة الله، فيلهج باسمه وهو لا يدري ماذا يقول، وبين الحين والآخر تخرج من كلّ جوارحه عبارات الشكر والاعتراف بالجميل.

وكما أنّ القراءة مادّة للصلاة فهي، أيضًا، مادّة للتأمّل، فقد تقرأ قصّة من قصص الآباء، وتتأمّل مقدار النعمة التي أعطاها الله لهذا الأب، أو تتأمّل مظاهر الحبّ الذي ربط بين هذا المخلوق وخالقه، أو يسبح عقلك في سلّم الفضائل الذي صعد به القدّيس درجة فدرجة إلى الله. كذلك، أيضًا، قد يقرأ الإنسان موضوعات روحيّة سامية يكتنزها في عقله، ثمّ يعود فيجترّها وتغتذي بها روحه ويجد فيها مادّة للتأمّل في خلواته وفي صلواته.

القراءة الروحيّة مرشد في الطريق إلى الله، تعرّف الإنسان مشيئة الله، وتكشف إرادته المقدّسة وتنير سبله، لذلك قال المرنّم “سراج لرجلي كلامك ونور لسبلي”. يقرأ الإنسان كلام الله وسِيَر الآباء الذين امتلأوا من روحه القدّوس، فيكتسب جانبًا كبيرًا من المعرفة النافعة، وتنكشف أمامه طرق الحياة الطاهرة والسلوك السليم والتصرّفات الحسنة، وتعطيه نوعًا من الإفراز والحكمة، وإن كان ذلك يكمل بالخبرة والممارسة.

للقراءة فوائد أخرى تتنوّع بتنوّع المناسبات والأسباب الداعية لها. فهناك إنسان حزين النفس متعب بالتجارب والضيقات، يلجأ إلى القراءة منتقيا فصولًا معيّنة لتعزّيه وتقوّيه وتعرض له معونة من الله في ظروف مماثلة، أو تصرّفات الآباء في حالات أشدّ، وتشرح له حكمة الله في السماح بالتجارب، فتفرح نفسه وتزول كآبتها. أو هناك إنسان أخطأ إلى الله خطيئة شنيعة، يقرأ عن التوبة والتائبين وقبول الله لهم، فيدخل الرجاء إلى قلبه، ويتشدّد ويعود، فيقترب إلى الله بلا يأس. أو شخص ثالث صلّى كثيرًا من أجل موضوع خاصّ ولم يرى لصلاته أثرًا، فظنّ أنّ الله رفض طلبه وعاد لا يسمع له، يقرأ هذا كتابًا روحيًّا أو فصلًا من الكتاب المقدّس يتصّل بهذا الموضوع، فيطيب قلبه، ويتأكّد أنّ الله قد سمع واستجاب، ولكنّه سيرسل حلّه في الوقت المناسب المفيد وبطريقته الخاصّة.

إبدأ دومًا قراءتك بالصلاة حتّى لا تكون معتمدًا على فهمك البشريّ الذي يخطئ، بل بالحري أطلبْ تدخّل الروح لإرشادك. صلِّ إن استطعت صلاة طويلة قبل أن تقرأ، إشرح لله ضعفك وقصور فهمك وعجز عقلك المحدود عن الوصول إلى أعماق الكلمات الإلهيّة التي قال عنها داود النبيّ “لكلّ كمال رأيت منتهى وأمّا وصاياك فواسعة جدًّا”. أطلبْ من الله أن يفتح عقلك لتفهم، ويفتح قلبك لتقبل ما تفهمه. لذلك يقول القدّيس إسحق السوريّ محذّرًا “لا تدنُ من أقوال الأسرار الموجودة في الكتب خلوًا من الصلاة والتماس معونة الله تعالى، وقل جدْ عليّ بإحساس القوّة الموجودة فيها”.

أدخلْ نفسك في موضوع القراءة، واعتبره درسًا خاصًّا موجَّهًا لك، والذي تقدر على عمله إعملْه بحكمة، والذي لا تقدر عليه، إحزن من أجله في قلبك، وارثِ لضعفك، واتّخذه وسيلة للاتّضاع، واطلب شفاعة القدّيسين الذين نبغوا فيه.

اعلم أنّ القراءة هي مجرّد وسيلة إلى غاية، وليست غاية في حدّ ذاتها. فإذا ما أوصلتك القراءة إلى هدفك اتركها وانشغل بهذا الهدف الذي من أجله قرأت. القراءة هي مجرّد عود ثقاب يشعل النفس فتلتهب بحبّ الله. فإذا ما التهبت النفس لا تنشغل بعد بعود الثقاب. اترك القراءة إلى حين، واعمل عمل الروح الذي أثارته فيك سواء أكان تأمّلًا أو صلاة أو محاسبة للنفس أو بكاء على خطاياك، وإيّاك أن تهمل هذه الحرارة وتستمرّ في القراءة لئلّا تبرد منك وتطلبها فلا تجدها. ولقد قال القدّيس إيرونيموس “ثبّتوا قلوبكم ببضع فقرات من مطالعتكم الروحيّة، ولا تهملوا هذا الأمر البتّة، بل لتهدِ قلوبكم دومًا لما يقوله الآباء”.

Leave a comment