تحديد القداسة: طريقة الكثلكة والمنهج الأرثوذكسي

د. ألكسندروس كيرو*

نقلها إلى العربية الأب أنطوان ملكي

إن التغطية الإعلامية لقداس الفاتيكان في السابع والعشرين من نيسان (2014) كان تقريباً بلا مثيل سابق، ومثله أيضاً كان سبب الحماس، ألا وهو أن بابوين يترأسان إعلان قداسة بابوين آخرين. في الخدمة التي طالت ساعتين والتي حضرها أكثر من خمسين رئيس دولة، ألف أسقف، وشاهدها أكثر من مليون متفرّج، أعلن البابا فرنسيس، ومعه البابا الفخري بندكتوس السادس عشر، قداسة سلفين بابوين: يوحنا الثالث والعشرين ويوحنا بولس الثاني.

إن الاهتمام الكوني الناتج عن الطقس المنظّم بتأنٍّ، طقس إعلان قداسة بابوين أنتج ارتفاعاً إضافياً لشعبية فرنسيس المرتفعة أصلاً. هذا الإعلان المزدوج للقداسة هو عمل غير مسبوق وقد أظهر مهارات فرنسيس السياسية والقيادية الاستثنائية. بالواقع، المجاز الأساسي في التحقيق الصحفي تركّز حول الفطنة الدبلوماسية لدى البابا فرنسيس، الذي رفع عصاه ببراعة في وجه كل من الكاثوليك التقدميين والمحافظين، بإكرامه لكل من المجموعتين باباها المحبوب: ففي النهاية هو ترأّس في نفس الوقت إعلان قداسة البابا الليبرالي يوحنا الثالث والعشرين الذي أسّس حركة إصلاح الكثلكة، أي الفاتيكان الثاني في مطلع الستينيات من القرن الماضي، ويوحنا بولس الثاني أي البابا المحافظ بشدة الذي أوقف الإصلاح. مسؤولو الفاتيكان كانوا سريعين في التقليل من أهمية المهارة السياسية التي تضمّنها الإعلان المزدوج للقداسة، إلا إن الحقيقة تبقى أنّ النية خلف هذه الحيلة كانت منح السلطة لفرنسيس فيما هو يتقدّم نحو توطيد نظرته الخاصة للكثلكة، متحررة من ظلّ كلّ من البابوين يوحنا ويوحنا بولس.

قد لا يكون مفاجئاً أن اهتمام أغلب المعلّقين بالأبعاد الدينية للإعلان المزدوج كان أدنى بكثير من الاهتمام الذي أبدوه بالأوجه السياسية والرمزية والتاريخية للحدث. لقد غابت تقريباً قضايا الإيمان عن أغلب مناقشات الإعلان كما غاب كلّ شرح للقداسة بحدّ ذاتها. مع أن القديسين مركزيّون في تعاليم كل الكنائس الرسولية، إلا إن فهم القداسة ومعناها ليسا متشابهين في الكثلكة والأرثوذكسية. إلى هذا، الاختلافات في فهم القداسة تؤكّد وجود افتراق أساسي في اللاهوت والنظرة إلى العالم بين الكنيستين الشرقية والغربية.

هذا التمييز يمكن تصويره بمقارنةِ مقاربة كل من الأرثوذكسية والكثلكة للقداسة. كيف تصيّر الكثلكة شخصاً ما قديساً؟ يصير الإنسان قديساً في الكثلكة الرومانية من خلال عملية رسمية للإعلان. لإتمام العملية ينبغي تحقيق خمس أحكام مع ما يتعلّق يها من الخطوات. تشرف على كل خطوة في العملية دائرة محددة في الفاتيكان تتعامل مع نظام إسباغ القداسة. أولاً، ينبغي مرور خمس سنوات على موت المرشّح للقداسة قبل الابتداء بالعملية التي تؤدّي إلى إعلان القداسة. ثانياً، بالاتفاق مع مسؤولي الفاتيكان، يباشر أسقف الأبرشية التي مات فيها المرشّح تحقيقاً في حياة المرشح ليحدد ما إذا كان الميت خادماً لله، أي إذا ما كان قد سلك بقداسةِ حياةٍ كافية لقبول ترشّحه للقداسة. ثالثاً، تقوم لجنة بابوية “مجمع دعاوى القديسين” بتقييم الدلائل والتوصيات المقدمة من أسقف الأبرشية، وتحديد ما إذا كان المرشح قد أثبت أنه عاش حياة من البرّ البطولي، وترفع استنتاجاتها للبابا. لبلوغ المرحلة الرابعة، أي التطويب، يجب أن تتحقق لجنة من كبار مسؤولي الفاتيكان من أن معجزة واحدة على الأقلّ قد تكون تمّت بصلوات المرشّح كاستجابة لطلب شفاعته. الخطوة الخامسة هي إعلان القداسة. بالرغم من أنه ليس مطلوباً من الشهداء سوى معجزة محققة واحدة، فإن معجزة ثانية مرتبطة بصلوات المرشّح بعد تطويبه هي الشرط الرسمي الأخير لإعلان القداسة أي لأن يعلن البابا هذا الشخص قديساً.

قد يكون لدى الطريقة الكاثوليكية المنظّمة لتحديد القداسة كلّ سِمات العملية التشريعية أو القضائية الفعاّلة والمنطقية، لكن لا علاقة لها بروح القداسة المسيحية وتقليدها. خلال الألفية المسيحية الأولى اعترفت الكنيسة بقديسين من دون اللجوء إلى أي إجراء رسمي أو قانوني لإعلان القداسة. في الفترة المبكِرة من حياة الكنيسة اختير القديسون بناءً على هتاف الشعب المؤمن. لمدة ألف سنة، في أراضي المسيحية الشرقية كما الغربية، كانت جماعات المؤمنين المحلية تذكر الرسل والشهداء وغيرهم في اجتماعاتها الليتورجية، تستدعيهم في صلواتها، توقّر رفاتهم، وتؤمن بأنهم مَركَبات للروح القدس. لقد عرفت الكنيسة الأولى ستّةَ أشكال أو فئات من القديسين بحسب دورهم في حياة الكنيسة: أجداد المسيح والأنبياء، الرسل والإنجيليين، الشهداء والمعترفين، آباء الكنيسة ورؤسائها، النساك والرهبان، الأبرار والمتقدّسون في المسالك الأخرى من الحياة. لكن الكنيسة لم تطوّر أيّ إجراء جامد وقضائي لإعلان القداسة.

ما تعليل انفصال الغرب عن تقليد الكنيسة المسيحية القديم الجامع؟ عندما بدأت البابوية بتأكيد طموحاتها إلى سلطة عليا على كل المسيحية، بدأت كنيسة الغرب بتحريك عملية متصلّبة قادت إلى تغرّب روما عن أصولها الأرثوذكسية. ببساطة، اهتمام البابوية بالقوة والسلطة الكنسية العليا يشرح سبب إصرار روما منذ نهاية القرن العاشر على أن يتمّ تسجيل القديسين بصورة منهجية رسمية ليصادق عليها البابا. لتبرير اغتصاب البابوية لسلطة تحديد القداسة والسيطرة عليها، طوّرَت الكنيسة في الغرب طريقة قانونية للغاية ودقيقة بالظاهر لتحديد مَن هم القديسون، وما زالت هذه الطريقة قيد الاستعمال إلى اليوم في الفاتيكان. وبما يتفق مع تطلعات إلى السلطة المطلقة والقوة، انتقلت كنيسة الغرب لإخضاع كامل الإجراء القانوني إعلان القداسة لسلطة البابا الاستبدادية. بتعبير آخر، احتفظ البابوات لأنفسهم بامتياز يتيح لهم التخلي عن أو تغيير أيٍ من المتطلبات أو الإجراءات بحسب إرادتهم.

لم تطوّر الكنيسة الأرثوذكسية أيّ نظام قانوني للقداسة. بالواقع، هذه الممارسة تتناقض مع التقليد الأرثوذكسي القائم على التكامل الكليّ بين العقيدة والممارسة. تستمر الأرثوذكسية باتّباع مبادئ ومواثيق الكنيسة الأولى. إذاً، كيف تصيّر الكنيسة الأرثوذكسية إنساناً ما قديساً؟ تعمل الكنيسة الأرثوذكسية من افتراض أساسي بأن الكنيسة لا تصيّر قديسين بل الله وحده. بهذا المعنى، إعلان القداسة في الكنيسة الأرثوذكسية لا يتضمّن منحاً للقداسة. على الأصحّ، الكنيسة بملئها تسلّم بصحّة أن الشخص هو قديس من قبل، وهذا مفهوم منبثق من مبدأ لاهوتي قوامه أن المرء يكتسب القداسة بالتألّه أي العيش بالتناغم مع نعمة الله إلى حدٍ تصير فيه القداسة كاملة.

جورج بابيس، اللاهوتي اليوناني المعروف، يوضح أن للرئاسة الكنسية، خاصةً البطريرك المسكوني، دور رئيسي يلعبه لصيانة إعلان القداسة من التعسّف، ويقدّم لنا خلاصة ممتازة عن الطريقة الأرثوذكسية التي هي تقليد يكرّم ويحترم دور الشعب المركزي في تحديد القداسة: “لا تتبع الكنيسة الأرثوذكسية أيّ إجراء رسمي للاعتراف بالقديسين. بالأصل، تقبل الكنيسة كقديسين أولئك الذين احتملوا الشهادة من أجل المسيح. القديسون هم قديسون بنعمة الله، وليسوا بحاجة للاعتراف الكنسي الرسمي. الشعب المسيحي، إذ يقرأ حياتهم ويشهد على اجتراحهم المعجزات يقبلهم ويكرّمهم كقديسين. القديس يوحنا الذهبي الفمّ، اضطُهِد ونُفي من قبَل السلطات المدنية والكنسية، قُبِل كقديس في الكنيسة إذ نادى به الشعب. القديس باسيليوس الكبير أعلنه الشعب قديساً في الكنيسة مباشرة بعد موته”.

بقدر ما هم القديسون أساسيون لتاريخ وتعاليم الكنيسة، يتّخذ التناقض الصارخ، بين نظام الكثلكة والطريقة الأرثوذكسية في تحديد القداسة، أهمية بذاته ومن ذاته، كما بالنسبة لما يكشفه حول نقاط الاختلاف الواسعة والعميقة بين الجماعتين، حيث من جهة تتبنّى الكثلكة القوننة والتركيز على الخلاص بالمنطق والطاعة والإجراء، بينما الأرثوذكسية تؤمن بالفداء من خلال الحرية والنعمة وسرّ الله.

الكثير من القديسين مشترَكون بين الأرثوذكسيين والكاثوليك، كما أنهم يشتركون في توقير القديسين في حياة المسيحيين. في الوقت عينه، تتباعد كنائس الشرق والغرب حول مفهوم الطريق إلى القداسة. التوفيق بين الجوهر مقابل النهج المتعلق بالقديسين والقداسة هو فرق لم يتمّ التعبير عنه كخلاف لاهوتي مفتوح، وبالتالي هو أمر يحمل إمكانيةً لحوار وقرار لا يثيران النزاع ويفتح الطريق نحو الردم المستمر للهوة بين القسطنطينية وروما. إن حوار المحبة المعبَّر عنه في حجّ الإخوة، رحلة البطريرك المسكوني برثلماوس والبابا فرنسيس إلى أورشليم، يطرح إمكانيات لترميم الجراح في جسد الكنيسة المسيحية. إن فعل شفاء مثل هذا سوف يكون عجائبياً بالطبع، وهو عمل لطالما كُرِّم القديسون، الأرثوذكس والكاثوليك، ووُجِّهَت لهم المحبة من أجله.

* د. ألكسندروس كيرو هو أستاذ تاريخ في جامعة ولاية سالم الأميركية حيث يدرّس عن البلقان وبيزنطية والإمبراطورية العثمانية

Leave a comment