امرأتان قدّيستان

إعداد راهبات دير القديس يعقوب الفارسي المقطّع، دده – الكورة

الشيخة إلبيذا (رجاء)

في صباح يوم أحد، قصدتُ الكنيسة للاشتراك بالذبيحة الإلهيّة، فميّزتُ من بين الحاضرين راهبة مسنّة ورعة. منذ الوهلة الأولى شدّني وجهها الصبوح وحسن لطفها. وجرى حديث قصير فيما بيننا أدركت من خلاله بأنّها كنز روحيّ جزيل القيمة. دعتني لزيارتها، فلبّيت الدعوة، وزرتها مع اثنين من أبناء الرعيّة في مسكنها حيث كانت تقيم في الطابق الأرضيّ من بناية كبيرة. كانت شقّتها تتألّف من غرفة واحدة وممرّ ضيّق ومطبخ صغير. مسكن لا تطرقه أشعّة الشمس أبدًا. كانت هذه الشيخة تقطن مع ابنتها وحفيدتها. بدا الحائط المحاذي لسريرها مغطّى بالأيقونات، وفي إحدى زوايا هذه الغرفة الضيّقة وُضعت طاولة عليها قنديل صغير لا ينطفئ. وبعد أن عرّفتها بأنّي أدعى الأب نكتاريوس الكاهن الجديد للرعيّة، وبأنّي أهتمّ بالتعرّف إلى أفراد رعيّتي، طلبت منها أن تعرّفني عنها، فقالت:

– أبصرت النور في العام 1906 في مدينة سيفاستوبولي الروسيّة. مرّت عليّ ظروف قاسية من فقر وجوع إبّان الحرب الأهليّة التي وقعت بين جيش القيصر الملقَّب بالأبيض وجيش الثوار الأحمر، والتي استمرّت أربع سنوات تقريبًا. كرّت الأيّام وتزوّجت ورُزقت ابنتان. ثمّ ما لبثت أن نشبت الحرب العالميّة الثانية، فذهب زوجي إلى الجبهة، ومن ثمّ لم أعد أراه. وهكذا، وبصعوبة بالغة أنشأتُ ابنتيّ الصغيرتين. لم يكن أحد إلى جانبي سوى إيماني ورجائي الوطيدين بالله. فأنا منذ الطفولة أركن إلى الكنيسة، لأبثّ الله نجواي وشكواي، وهذا ما ساعدني، وكان لي دعمًا في حياتي. فليكن اسم الربّ ممجَّدًا إلى الأبد. أبرزتُ النذور عام 1997، فأنا منذ الصغر كنت أودّ أن أصبح راهبة، ولكن لم تؤاتني الفرصة. لم أقصد ديرًا ما، إذ لا يوجد دير قريب من هنا، بالإضافة إلى أنّ تقدّمي في العمر لا يأذن لي بذلك، لهذا قرّرت البقاء في المنزل. لقد تقاسمت الغرفة مع ابنتي”. ثمّ أشارت إلى سريرها وإلى الحائط وقالت: “من هنا يبدأ الدير”. ثمّ أشارت إلى القسم الثاني، أي سرير ابنتها، وهي تضيف ضاحكة: “ومن هنا يبدأ العالم”.

    “أمضي يومي كلّه بالصلاة. قديمًا كنت أتلو طيلة النهار براكليسي العذراء ومديحها. وأمّا الآن، وقد شحّ البصر وقلّ السمع، فإنّ ابنتي هي التي تقرأ لي، وأمّا ما تبقّى من ساعات النهار والليل، إذ تعوّدت السهر الليليّ، فإنّي أرتاح فيها إلى صلاة المسبحة: يا ربّي يسوع المسيح ارحمني… أصلّي لأسقفنا، للكهنة، للرهبان، وللعالم بأسره”. ثمّ راحت تقصّ علينا حادثتين جرتا معها، حادثتين تماثلان ما كان يحصل  للقدّيسين القدماء حسب ما نقرأ في سيرهم: “قبل عدّة سنوات كنت ذاهبة إلى الكنيسة صحبة ابنتي، فوجدنا في الطريق صبيًّا صغيرًا خَلْقَ الثياب رثّها، فسألناه من أين هو وأين يقيم. كان الصبيّ متروكًا لا أهل له ولا بيت. فقلت له: “أتريد أن تأتي وتسكن معنا؟” فقبِل عرضي. وهكذا اصطحبناه إلى بيتنا حيث بقي مقيمًا معنا أربع سنوات. ثمّ بعد ذلك لقيه أحد أنسبائه، الذي كان يقيم بعيدًا جدًّا من هنا، فأخذه معه. ولكن، ويا للأسف، لا يوجد الآن أيّ اتّصال بيننا. لا بأس عساه أن يكون بخير وهذا يكفيني. لقد قدّمنا ما كنّا نستطيع تقديمه، وفعلنا، حينئذ، ما كان يجب علينا فعله”.

    وهاكم الآن قصّتها الثانية: “وُجدتْ إحدى نسيباتي حاملاً، وبما أنّها كانت تمرّ بضائقة مادّيّة عسيرة، فقد قرّرت أن تتخلّص من الجنين لأنّها لا تستطيع أن تعيله. فركعتُ عند قدميها مستعطفة إيّاها بدموع، وموضّحة لها بأنّها مزمعة على ارتكاب جريمة قتل إنسان، ولكنّها لم تعرني أُذنًا صاغية. فقلت لها عندئذ: بما أنّك عاجزة عن إعالته، فدعيني، إذًا، أن آخذه وأتبنّاه والله سوف يعينني على تربيته. وهكذا كان. وضعت نسيبتي طفلة جميلة، فأخذتها إلى منزلي وقمت بتنشئتها، وها هي الآن قد أصبحت في الرابعة عشرة من عمرها”.

    قضينا قربها أكثر من ساعة لم نسمع فيها تشكّيًا أو دمدمة، بل تمجيدًا وتسبيحًا وشكرًا. كان وجهها يطفح بالمحبّة والطيبة. عيناها الجسديّتان كفّتا عن النظر إلاّ قليله، وأمّا عينا نفسها فكانتا مفتوحتين بصيرتين. تمرّ حبّات المسبحة بتواتر بين أصابعها هامسة على الدوام: يا ربّي يسوع المسيح ارحمني. وعندما قرّرنا الرحيل، وقفت تودّعنا قائلة: “ارحلوا، ولتظلّلكم عناية الربّ وأمّه العذراء، وليرافقكم ملاككم الحارس. دوّنوا لي أسماءكم وأسماء ذويكم واسم مدينتكم لأذكركم في صلواتي. وأمّا الآن فسوف أتلو للتوّ براكليسي السيّدة العذراء كي ترشدكم في طريقكم التي أنتم ماضون فيها”. ثمّ راحت ترسمنا بإشارة الصليب وهي دامعة العينين وقائلة: “فلتكن معكم العذراء القدّيسة ولتنجِّكم من كلّ ضرّ”.

    نعم ساعة قضيناها قربها كانت لها طعم آخر غير دنيويّ، لها طعم الفردوس والعالم الآخر. ولقد صدق القدّيس الذهبيّ الفم حين قال: “كيف يسعنا نحن أن نمجّد الله؟ ذلك في عيشنا لمجد الله وفي تألّق سيرتنا، إذ ما من شيء يؤول إلى تمجيد معلّمنا كمثل السلوك الجيّد. إذًا، مهما فعلنا، فلنفعله بحيث نحمل الناظرين إلينا على تمجيد الله”.

دنيوشكا

أخبر أحد المواطنين الروس عن مواطنته دنيوشكا، فقال: “ظهرت المبارَكة دنيوشكا بيننا فور انتهاء الحرب الروسيّة اليابانيّة. من أين أتت، وإلى أين كانت تذهب؟ لا أحد يعلم. كانت تأتي قريتنا، عادة، في فصل الصيف، وتغادرنا مع قدوم الطقس البارد. عرفناها سيّدةً محترمة في البلدة كلّها، واعتادت النساء القرويّات اللجوء إلى نصائحها بخصوص بعض القضايا المنزليّة والعائليّة. فكنّ يأتمنّها على أحزانهنّ، مصغيات إلى ما تقول بثقة تامّة. لم تكن تعطي أجوبة دقيقة عن الأسئلة التي تُطرح عليها، وقد حدث مرّات عديدة أن أجابت بحدّة قائلة: “كيف يكون هذا، يا عزيزتي؟ أنا لست بنبيّة. فكيف لي أن أعرف؟”. ثمّ تعود لتضيف بهدوء: “سيكون كما تقولين، يا يمامتي، إن كنت تصلّين بطريقة لائقة من أجله”. وأحيانًا، كانت تعطي جوابًا مبهمًا، فتفهم السائلة بأنّ دنيوشكا لن تقول كلّ شيء: “ماذا نستطيع أن نفعل؟ اصبري، فالله يعرف ما هو الأصلح لك. لا تحاولي أن تعرفي أكثر من ذلك. سأصلّي من أجلك”.

قبل الحرب الألمانيّة في العام 1914، كثيرًا ما كانت دنيوشكا تُنذر بالويل والبؤس المزمعَين أن يحلاّ بالبلاد. ففي ذات يوم، تورّدت وجنتاها وصدح صوتها عاليًا، أمّا عيناها، فكانتا تبرقان بما يفوق الطبيعة، منيرتين وجهها كلّه فيما كان الجميع يصغون إليها وقد حبسوا أنفاسهم: “آه، دماء! دماء! سيُنهي الناسُ حياتَهم بالاستشهاد! ستُنتهك القدسات! سيقوم الأخ ضدّ أخيه! ستخسر الأمّة القيصر! آه لن يستطيع الإفلات أو الهرب إلى أيّ مكان!”. لم تكن دنيوشكا ترمي كلماتها في الهواء، ولكن لم يفهم أحد ما قالته في ذلك الحين.

سلكت دنيوشكا كامرأة قرويّة بسيطة، بيد أنّ إشاعات عديدة سرت هنا وهناك بأنّها كانت زوجة أحد موظّفي الحكومة البارزين، وقد خسرته في سنّ مبكّرة. أتذكّر، الآن، دنيوشكا وقد أصبحت امرأة عجوزًا نحيلة القامة صغيرتها، يميّزها فرح عظيم وحيويّة كبيرة. ورغم أنّ وجهها جعّدته الأخاديد فقد احتفظ بمظهره الحلو، فيما كانت عيناها البارزتان تنفذان إلى أعماق محدثّها بنظرة ثاقبة قلّما استطاع أحد احتمالها. كانت دائمًا نظيفة الملبس، ترتدي تنّورة سوداء طويلة مع قميص فاتح اللون وسترة قصيرة داكنة. تعقد منديلها بإتقان على ذقنها. اعتادت احتذاء صندل صغير من الليف في الصيف. أمّا في الشتاء، فكانت تحصّن نفسها ضدّ لسعات البرد باستعمال حذاء عال من اللبّاد ومعطف من الفرو القديم. رائحة ورد أو بخور كانت تفوح على الدوام منها حيثما حلّت، وكانت الرائحة تبقى مدّة طويلة بعد رحيلها.

ولمّا سألت والدي لماذا تُصدر دنيوشكا شذًا طيّبًا كهذا، شرح لي قائلاً: “إنّ دنيوشكا تحيا بطريقة مختلفة: لقد كرّست نفسها، بعد انتقال زوجها، للصوم الصارم والصلاة، ولا تأكل لحمًا ولا سمكًا. وخارج أيّام الصوم تتناول قليلاً من الحليب مع بعض الخضار التي، غالبًا، ما تأكلها نيّئة، ودون أن تأخذ كفايتها منها. أمّا أيّام الأربعاء والجمعة، فتطويها من دون أن تذوق شيئًا البتّة. ليس لها مكان خاصّ بها. خلال الصيف، يراها الفلاّحون في الحقول أو في الغابة حيث تذهب للصلاة، فتمضي أوقاتًا طويلةً ساجدة على ركبتيها، بيد أنّ الأمر كان أشدّ قسوة في فصل الشتاء. لا أحد يعرف أين كانت تمضي الليالي الباردة. بالنسبة للأشخاص أمثال دنيوشكا يكفّ الطعامُ والشرابُ أن يكونا ضرورةً، ونتيجةً للإمساك الجسديّ، يجتنون قوّةً روحيّة تشدّد أجسادهم. وكنتيجةٍ للصلوات الطويلة والمآثر النسكيّة، يوهَبون قدرةً على صنع المعجزات حتّى أثناء حياتهم. لذا، فإنّه من غير الممكن أن تصدر رائحةٌ كريهة عن دنيوشكا، فنحن نعرف حالات عديدة مشابهة من سِيَر القدّيسين”.

في نهاية فصل الصيف، أتت دنيوشكا لتقول لنا وداعًا. فتحت فاها وقالت: “هذا الضيق سيُطبَّق على كلّ شخص وسيسحقه. سوف تنتهي الحرب، ولكنّ البلاد ستنقلب رأسًا على عقب. سيظهر ثوّار وزعماء يجعلون الشعب ضدّ القيصر، وسيكون الأمر رهيبًا. سيترك القيصر الأمّة. سينال إكليل  الشهادة على الأرض، ولكنّه سينال إكليلاً سماويًّا لا يفنى. سيصبح شفيعًا مصلّيًا من أجل الأمّة والشعب. الكارثة في البلد (وكانت تعني الثورة) ستبعثر الشعب؛ سيتشتّتون إلى بلدان مختلفة. غير أنّه، حيثما حلّ الروس، سيجلبون معهم ثقافتهم ودينهم. سيضرب زلزال هائل الطرف الأقصى من روسيا. ستتدفّق المياه وتغمر القارة، وشعوب كثيرة تهلك”.

وتحقّق ما قالته دنيوشكا كلّه، فلقد استشهد القيصر نيقولا مع عائلته، وقامت ثورة 1917، وشتّتت الروس…

دنيوشكا امرأة تعيش في العالم، ولكنّ حياتها الروحيّة كانت فوق العالم، فاستأهلت موهبة النبوءة!!!