القداسة والاستشهاد في أيامنا

حديث مع المتروبوليت يروثيوس فلاخوس*

نقلته إلى العربية جولي عطية

س: صاحب السيادة، يشكّ العديد من الناس في وجود قدّيسين اليوم. ماذا تقول؟

 ج: بالتأكيد يوجد قديسون. غاية الكنيسة هي تقديس الناس، وإلاّ لا داعي لوجودها. تهدف الكنيسة، عبر أسرارها وحياتها النسكية، إلى شفاء البشر من الأهواء وإلى منحهم الصحة الروحية التي هي القداسة. يقول الرب: “كونوا قديسين لأني أنا قدوس” (1بط 1: 16)، ومكتوب في الرؤيا: “من هو مقدَّس فليتقدَّس بعد” (رؤ 22: 11). للأسف في أيامنا، يفهم معظم المسيحيون الكنيسة كمؤسّسة دينية أخلاقية اجتماعية ذات أهداف علمانية ودهرية. ويجتهدون سويّة في الكنيسة لإنتاج مشاريع اجتماعية وأخلاقية. طبعًا تنجز الكنيسة هكذا مشاريع، لكنّ هذه المشاريع هي النتيجة، هي ثمرة لاتّحاد الشخص بالمسيح.

لذلك، فاليوم أيضًا هناك قدّيسون عاشوا ويعيشون ضمن الكنيسة، مثل أساقفة وكهنة ورهبان وعلمانيّين من الفئات كلّها. لكنّ المشكلة الأكبر هي أننا لا نملك المعيار الأرثوذكسي لفهمهم لأنّ لهم عالمًا داخليًّا مستترًا عن كثيرين، والعديد منّا ليسوا في الحالة المناسبة لملاحظتهم.

ليس مهمًّا بالأخصّ ما إذا كان القديسون موجودين اليوم بل كيف يمكن أن نصبح قدّيسين. العلوم كلّها تعتمد منهجًا معيّنًا. وحتى يصبح الشخص قدّيسًا، عليه أن يتّبع هذا المنهج المحدّد والذي يقوم على تطهير القلب واستنارة النوس والتأله، بالاقتران مع أسرار الكنيسة. نصادف هذا في الفيلوكاليا وفي تعاليم الآباء المعاصرين. ويتم التعبير عن القداسة من خلال التوبة والتواضع ومحبة الله والإنسان.

ولهذا السبب يقرأ الناس في أيامنا سير حياة القدّيسين المعاصرين الذين يجاهدون من أجل خلاصهم، مثل الأب باييسيوس والأب بورفيريوس والأب صفروني والأب أفرام كاتوناكيا وغيرهم، من المعروفين وغير المعروفين، الذين يرقدون الآن. هؤلاء هم مرشدينا ومثالنا، من دون أي فصل عن المؤسسة الكنسية أو إضعاف لها.

س: يبحث العديد من الناس عن شيخ ذي مواهب مميّزة لإرشادهم، الأمر الذي يصعب العثور عليهاليوم.

 ج: يحصل هذا عادة لأنّ الناس اليوم، كما في العصور كلّها، يبحثون عن أشخاص يرشدونهم إلى سبيل الخلاص وإلى الأسلوب الذي يقود إلى القداسة والكمال الداخلي. لا يعتمد هذا الأسلوب على المنطق والتقنيات والأخلاقيات بل يجمع بين الأسرار والحياة النسكية.

 يبحث الناس عن “كائنات حيّة” لا عن مجرّد معلمين ولاهوتيين أكاديميين. وكما أنّ الحياة البيولوجية تنتقل من الكائنات الحيّة لا الميتة، إذ لا يقدر أيّ كائن ميت أن ينقل الحياة، فالأمر نفسه يحصل في الحياة الروحية. من يحبّ المسيح من كلّ كيانه، أي بشكل جسدي-نفسي، يستطيع أن ينقل هذه المحبة للآخرين. أيّ شخص يعرف الطريق إلى وجهة ما، يستطيع أن يدلّ إليها من يبحثون عنها.

أستغنم الفرصة لأقول هنا إنّ هناك ثلاثة ركائز للحياة الروحية، كما يفسّر القديس نيقولاوس كاباسيلاس. ويظهر ذلك خلال تكريس كنيسة، حيث يكرّس الأسقف المائدة المقدسة ويضع فيها ذخائر الشهداء. لذا فعمود الحياة الروحية يقوم على ثلاثة: الأسقف والمائدة والقديسين، ويجب على هؤلاء الثلاثة أن يعملوا بصورة صحيحة لتحقيق فكر كنسي. فالفكر الكنسي الأرثوذكسي لا يتحقّق عبر أسقف لا يقيم الشكر الإلهي ولا يعترف بالقديسين، أو عبر الشكر الإلهي بالتغاضي عن الأسقف والقديسين، أو عبر محبة القديسين من دون المشاركة بالشكر الإلهي والتعاون مع الأسقف.

لقد احترم الشيوخ العظماء الأسقف وأرشدوا من أرادوا الاتّحاد بالمسيح إلى الشكر الإلهي وأعدّوهم لتناول جسد المسيح ودمه. لهذا السبب يبحث الناس عن مثل هؤلاء الشيوخ المباركين للإصغاء إلى كلامهم. نرى في كتاب أقوال الآباء الشيوخ وفي النصوص النسكيّة أنّ كلّ من يعطش للربّ يهرع إلى “الكائنات الحيّة” ويطرح السؤال: “أبتِ، قلْ لي كلمة حتى أخلص”. وتملك “كلمة” الأب هذه قوة وطاقة، هي كلمات الله وأقوال الحياة التي تتجدّد في المسيح.

للأسف كما تقول، قلائل هم هؤلاء الشيوخ في هذه الأيام، في زمن الدهرنة والتسوية في الإيمان والحياة، إمّا لأنهم نادرون أو لأنّهم متوارون أو لأنّ الناس لا يستطيعون أن يتبعوهم ولا يريدون ذلك. قال المسيح: “من يسأل يأخذ ، ومن يطلب يجد، ومن يقرع يُفتح له” (متى 7: 8). في الكثير من الأحيان، يكون بجوارنا أشخاص مباركون لكنّنا لا نلاحظ ذلك. وإنّه لشيء سيّئ أن نترك هذا العالم، أي أن نموت، من دون أن نضع في حيّز اهتمامنا أصدقاء المسيح المتواجدين بقربنا.

س: نرى اليوم الأرثوذكسيّة مستهدفة في العديد من الأماكن. إلى أين سيصل أعداؤنا باعتقادك؟

ج: أنت على تمام الحق. أينما وجدت كنيسة أرثوذكسية فهي تتعرّض للفتن والاضطهادات. هذا قانون ثابت، فنحن نرى ذلك حيث توجد كنيسة أرثوذكسية في الشمال والجنوب والشرق والغرب. ما يختلف هو أسلوب الاضطهاد في كل بلد، فهو أحيانًا ظاهر وعنيف يذكّر بالعصور القديمة للمسيحيّة الأولى، وفي أحيان أخرى هو أسلوب غادر وأكثر خطرًا، مثلًا الدهرنة التي تدخل إلى العالم.

الكنيسة الأرثوذكسية هي جسد المسيح، هي الشمس اللامعة التي تسبّب الألم للمعتلّي العيون الذين يعانون من مشاكل بصرية. وحيث توجد الشمس يوجد الظلّ أيضًا، وفي الظلّ ظلمة تجول فيها الوحوش المتعطّشة للدماء.

حين يكره الناس المسيح والحقيقة والكنيسة الأرثوذكسية، يعانون من مشاكل داخلية وقد يصلون إلى أماكن لا يُسبَر غورها، إلى نقطة الجنون. رأيت عبر الانترنت مشهدًا مرعبًا يمثّل قطع رأس مسيحي على يد مسلم متطرّف، فصُعقت. فكّرت كيف أنّ هذا هو الأسلوب عينه الذي استشهد عبره الرسل والشهداء، كما يقول السنكسار: “تكمّلوا بحدّ السيف”. وهذا اختبار لنا، نحن الذين نحبّ التمتّع بأوقات جميلة ونخضع للتسويات ونبحث عن الرفاهية. من هنا، فالاضطهادات تظهر لنا الأمراض الداخلية للمضطهِدين، كما وتظهر لنا عظمة المسيحيين. عالٍ جدًّا هو مقياس محبتنا للمسيح، فالقداسة الأمانة للوصايا الإنجيلية لا يرتبطان بالمقياس المتدنّي الذي للأعمال الأخلاقية والاجتماعية، إنّما يستندان إلى معايير عالية.

في النهاية، يجب على الكنيسة أن تهيّئ أولادها ومن يحبّون المسيح وخلاصه إلى الاستشهاد ولأن يصيروا شهداء للمسيح. لا قيمة للاهوت والعمل الاجتماعي والبعثات في غياب الشعور بالاستشهاد والسعي إليه. في أيام الاحتلال التركي، كان الشيوخ الكبار هم “مدرِّبي” الشهداء. وهذا ما يفعله أيضًا الشيوخ العظماء في أيامنا.

تأثرت مؤخرًا حين استلمت رسالة من مسيحي من مصر يقول لي: “رجاء صلِّ إلى الله كي يهبنا القوة والسلام والراحة حتى نحمل صليبنا بشجاعة وإيمان ثابت وحتى نكون مستحقين لأن نصير قديسين وشهداء من أجل اسم المسيح”.

كيف بإمكانك أن لا تحب هكذا رغبة بالاستشهاد!

 

س: الوضع غير مستقر في سوريا. يتم تهديد المسيحيين بالذبح إن لم يتركوا بيوتهم. إلى أين نحن ذاهبون؟ ربما يتم تعميم هذه النزاعات؟

ج: أتابع بحزن شديد كلّ ما يحدث في سوريا. لا أستطيع أن أقول إني أوافق طرفًا معيّنًا لأني أشارك بذلك في القتل وهذا تعرّض للعدالة الإلهية. مع ذلك، أشعر بالأسى تجاه نهر الدماء المجنون هذا وتجاه خسارة الناس. يجب أن ننشئ جيشًا للصلاة حتى ينتهي هذا الحمام الدموي المجنون وحتىيعمّ السلام في المنطقة.

أحزن بالأخصّ لأنني أعرف هذه الأجزاء بما أني زرتها مرارًا خلال السنين 1988-1991 ومرات عديدة بعدها. في العام 1988، وعملاً باقتراح رئيس أساقفة أثينا سيرافيم وقرار المجمع المقدس لكنيسة اليونان، ذهبت إلى لبنان للتعليم في معهد القديس يوحنا الدمشقي اللاهوتي في البلمند. حصلت على جواز سفر خاص من وزارة الخارجية للحصول على أمن أكثر. ولأنّ مطار بيروت لم يكن يعمل بسبب الحرب الاهلية، كنت أذهب إلى دمشق في سوريا ومنها تنقلني بطريركية أنطاكية إلى لبنان.

لذا فكنت أبقى لأيام عديدة في دمشق، حيث كنت أتكلّم مع الشباب الأرثوذكسي والعلماء والتلاميذ الذين كان لهم عطش كبير لله. زرت العديد منهم وأقمت القداس وتحدّثت مع الناس في حمص وحلب واللاذقية… في سوريا، تعرّفت إلى مسيحيين أرثوذكسيين غيورين ورهبان جيّدين وإكليركيين مميّزين. اكتسبت هناك أصدقاء أعزّاء وأحزن لمشاهدة الاضطرابات اليوميّة في المنطقة. أعرف أساقفة وأساتذة كانوا تلاميذي في المعهد اللاهوتي في لبنان وأصلّي من أجلهم إلى الله…

مع ذلك، في هذا الزمن الذي نعيش فيه، لا يجب أن نهتم بأنفسنا وبمنازلنا بل يجب أن نهتم بمشاكل أخوتنا الآخرين والمسيحيين الأرثوذكسيين، ويجب أن نصلّي من أجلهم. طبعًا الله هو الذي يقود التاريخ، نحن نخضع لعنايته وهو يتدخّل في الوقت المناسب، لكنّ صلواتنا لازمة. من هنا، فكلّ قداس إلهي هو صلاة من أجل سلام العالم وثبات كنائس الله وتوقّف الحروب.

دعونا نعتبر هذا طلبًا للصلاة. ولتتألم قلوبنا لأنّ مشاكل العالم هي جغرافية-سياسية للأسف، بما أنّ الناس كلّهم باتوا يُعتَبرون بيادق صغيرة في رقعة الشطرنج العالمية التي أنشأها بعض “اللاعبين العالميين” من دون رأفة وألم. ليساعدنا الله جميعًا.

س: في خضم كلّ هذا، يقول الكثيرون إنّ الجبل المقدّس هو واحة روحيّة تمنح الراحة لآلاف الذين يزورونها مؤخرًا.

ج: الجبل المقدس هو بالفعل مكان مبارك، واحة روحية قدّست أشخاصًا يعرفون كيف يحبّون ويساعدون الآخرين ويضحّون من أجلهم ويمنحون الراحة للمتعَبين.

لا تعتبروها مناقضة إن قلت إنّ الجبل المقدس هو مكان حرب بل أيضًا مكان حروب متعارضة. طبعًا أقصد هنا الصراع مع الأرواح الشريرة. يكتب الرسول بولس: “فإنّ مصارعتنا ليست مع دم ولحم، بل مع الرؤساء، مع السلاطين، مع ولاة العالم على ظلمة هذا الدهر، مع أجناد الشر الروحية في السماويات (أفسس 6: 12).

اكتسب آباء الجبل المقدّس الخبرة في هذه الحرب، ولذلك يستطيعون تعليم أساليب هذه الحرب الروحية لمن يريدون تعلّمها. عندما يقاتل أحدهم ضدّ الشيطان والخطيئة والموت، يختبرون ثمار التدبير الإلهي وتجسّد المسيح ويقتنون الحرية الروحيّة والكمال الداخلي.

غالبًا ما زرت جبل آثوس في سني دراستي، حيث التقيت برهبان موقّرين، ذقت خبزهم وسمعت كلماتهم المقدسة وشعرت بمحبّتهم وبحياتهم المستترة. اكتشفت من هو رجل المسيح وتعرّفت إلى السهرانيات في الأديرة وإلى القلالي والمناسك. مشيت في المسارات العجيبة وابتهجت بنقاء الطبيعة العذري وعشت في عالم من المحبة والنقاء والرقة والشهامة.

اكتشفت في الجبل المقدس أنّ الرهبان تشرّبوا الحياة الرسولية الاستشهادية، هم “يعيشون الإنجيل”، هم أنبياء معاصرون ورسل وشهداء الكنيسة. في كثير من الأوقات، أستدعي شفاعتهم وصلواتهم.

الجبل المقدس، رغم بضعة أخطاء اقترفها بعض الرهبان فرديًّا، هو مكان أسراري مشتعل بالصلاة، هو رحم روحي يحمل بأبناء الله ويلدهم مواطنين في السماء. ولهذا السبب يجب أن نكنّ الاحترام العميق له.

* “Ekklesiastiki Paremvasi, “Η αγιότητα καί τό μαρτύριο στήν εποχή μας، تموز 2012