مَن هو قريبي؟

الأرشمندريت توما بيطار

يا إخوة، السّؤال الّذي لا بدّ لنا من أن نطرحه على أنفسنا، إثر قراءة إنجيل اليوم، هو: “لماذا يُكيل الرّبُّ يسوعُ الاتّهامات للكتبة والفرّيسيّين؟! لماذا يجعلهم، لا فقط بني قَتَلَةِ الأنبياء، بل أيضًا مشارِكين في ما فعله آباؤهم، أي يجعلهم مشارِكين في قتل الأنبياء؟! لِمَ ذلك؟!”

لاحظوا أنّ السّيّد يقول عن الكتبة والفرّيسيّين إنّهم مراؤون! إذًا، هم يتظاهرون بشيء؛ فيما هم، في قرارة نفوسهم، على شيء آخر: يشيّدون قبور الأنبياء، ويزيّنون مدافن الصّدّيقين. بكلام آخر، يستعملون الأنبياءَ والصّدّيقين ليَظهروا كأنّهم على تقوى، ولكي يستبينوا كأنّهم أبرار. لكنّ الله، العارف بمكنونات القلوب، يعرف جيّدًا أنّهم مراؤون. وهو يقول لهم: “أنتم تشهدون على أنفسكم أنّكم بنو قتلةِ الأنبياء”. كيف يشهدون على أنفسهم بذلك؟! يشهدون بأمرين:

أوّلاً، هم يعتبرون أنّ الّذين قتلوا الأنبياء هم آباؤهم. ما زالوا متمسّكين بانتمائهم إلى آبائهم، على الرّغم من أنّ آباءهم فعلوا أمورًا شائنة عديدة! لا يليق بالإنسان أن يكون ابنَ أحد، إلاّ في الحقّ. أمّا أن يكون ابنَ إنسان آخر في الباطل، فهذا معناه أنّه يلتزم الباطل الّذي سلك فيه أبوه. عند القدماء، التّمسّكُ بالسّلالات كان يعني، في الحقيقة، تمسّكًا بميراث الآباء. والأبناء يفتخرون بآبائهم وبما فعلوه. والكتبة والفرّيسيّون، إذ يتمسّكون بانتمائهم إلى آبائهم، وآباؤهم قتلوا الأنبياء؛ فهم، بصورة غير مباشرة، يزكّون آباءهم في ما فعلوه. ولو لم يكن الأمر كذلك، لو كان انتماؤهم، أوّلاً وأخيرًا، إلى الرّبّ الإله؛ لَكانوا يعتبرون الرّبّ الإله وحده أباهم، ولَكانوا يعتبرون كلّ الّذين يسلكون في ما لله آباءهم، أيضًا. هؤلاء يكونون آباءهم في الله. أمّا إن كانوا قد حادوا عن الشـّريعة، وكفروا بما لله؛ فمُفترَضٌ بهم أن يُنبَذوا حتّى عند أبنائهم، وإلاّ لا تكون الأمانة لله في موقعها.

ثانيًا، إنّ الكتبة والفرّيسيّين يُعتبَرون، عند الله، مشارِكين في قَتْلِ الأنبياء الّذين فتك بهم آباؤهم؛ لأنّهم لا يسلكون باستقامة، من جهة الشـّريعة. وهذا واضح من خلال طريقة تعاملهم مع الرّبّ يسوع المسيح، بالذّات! لو كانوا، فعلاً، غيرَ موافقين على ما فعله آباؤهم؛ لو كانوا، فعلاً، سالكين في الأمانة لله؛ لَكانوا سمعوا لأقوال الأنبياء، الّذين تكلّموا على الرّبّ يسوع، وشهدوا لمجيء مسيح الرّبّ. فلأنّهم لم يقتبلوا كلام الأنبياء، من جهة يسوع؛ رفضوا، بكلّ بساطة، الأنبياءَ؛ وتعاطوا القَتْلَ، هم أيضًا، من جهة يسوع، الّذي تكلّم عليه الأنبياء! والقتل، عند الله، لا يعني، فقط، قَتْلاً فيزيائيًّا جسديًّا؛ بل يعني، في الدّرجة الأولى، رفضًا لكلام الأنبياء. وبما أنّ الكتبة والفرّيسيّين قد رفضوا كلام يسوع، ويسوع أصدر حكمه عليهم وقال عنهم إنّهم مراؤون؛ فهذا معناه أنّهم كانوا يعملون حثيثًا على قتل يسوع، أوّلاً، برفضهم لكلمته، وبالإساءة المتواترة إليه؛ ومن ثمّ، بالتّآمر عليه لدى الرّومان. وتآمُرُهُم هو الّذي أوصل يسوع إلى الصّليب.

لذلك، من هاتين الزّاويتين، الكتبةُ والفرّيسيّون يتظاهرون، من ناحية، بأنّهم يوقّرون الأنبياء؛ فيما هم، في الحقيقة، ملتصقون بآبائهم الّذين قتلوا الأنبياء. ومن ناحية أخرى، لأنّهم رفضوا ما قاله الأنبياء بشأن مسيح الرّبّ، فإنّهم باتوا في عـِداد المرائين القَتَلَة، الّذين يتظاهرون بالتّقوى وهم كافرون، ويتظاهرون بإكرام الأنبياء فيما هم يساهمون، كلّ يوم، في قتلهم، من خلال رفضهم لِما قالوه.

لهذا، يا إخوة، علينا أن نُدرك أمرًا في غاية الأهمّيّة، في تعاملنا مع النّاس، وفي تعاملنا مع آبائنا الّذين جئنا منهم بالجسد. علينا أن نُدرك أنّ مَن يجعل القرابةَ قائمةً بيننا وبين أيّ إنسان – سواء كان قريبًا لنا بالجسد أم بعيدًا، سواء كان صديقًا لنا أم غريبًا عنّا – هو الرّبّ يسوع. والطّاعة للرّبّ يسوع هي الّتي تحدّد ما إذا كان فلان أو فلان من النّاس قريبي أو لا. إن كنتم أنتم تحبّون الله، وترون أنّي، أنا أيضًا، أسلك في محبّة الله؛ إذ ذاك، أصير قريبكم في المسيح. خارج المسيح، ليست هناك قرابة لها قيمة في حياتنا! الرّبّ يسوع المسيح قال، بوضوح، إنّه جاء ليلقي سيفًا، لا سلامًا بين النّاس! جاء ليفرّق الأبَ ضدّ أبنائه، والأمَّ ضدّ بناتها، والحماةَ ضدّ كنّتها!… العلاقات الّتي هي على مستوى البشرة قد باتت غير مقبولة عند الله. القول “أن ينصر الإنسانُ أخاه أو قريبه في الجسد، أظالمًا كان أم مظلومًا” هو كلام قَبَليّ، ليس مقبولاً، ولا بحال من الأحوال. أقرباؤنا هم الّذين يطيعون الله. الرّبّ الإله جعلنا جميعًا إخوة فيه هو. خارج الرّبّ يسوع المسيح تنتفي كلّ أُخوّة، وكلّ قرابة، وكلّ صداقة! لهذا، على كلّ واحد منّا أن يصنع أقرباءه من جديد، أن يصنع إخوته من جديد! كيف يصنعهم؟! يصنعهم في المسيح! يمتدّ صوبهم في المسيح! وكلّ مَن قابلنا بمثل ما نفعل، بحيث يصير المسيح معنا وفيما بيننا، هؤلاء هم الّذين يصيرون إخوة لنا وأقرباء.

المهمّ، إذًا، أوّلاً وأخيرًا، أن يكون الرّبّ يسوع هو الرّابط الّذي يشدّنا الواحد إلى الآخر. بهذا، نصير أقرباء وإخوة. وبغير ذلك، نسلك في الكذب، ولا نسلك في الحقّ. ونحن، في الرّبّ يسوع، أُعطينا أن نعيد ترتيب علاقاتنا وحياتنا، بحيث يصير الرّبّ يسوع هو الألف والياء، وهو حجر الزّاوية في كلّ ما نعمله، وفي كلّ ما نتعاطاه، وفي كلّ ما نمتدّ به إلى العالم.

فمَن له أذنان للسّمع، فليسمع.

* عظة حول متّى23: 29- 39 في السّبت 5 أيلول 2009