موهبة الطاعة

الأب أنطوان ملكي

هل الطاعة موهبة؟ إذا كانت موهبةً فما قيمة اتّخاذ الرهبان لها نذراً؟ وإذا كانت نذراً فهي خيار أو سلوك تحدده القوانين الرهبانية وتعاليم آباء البراري الذين تزخر توجيهاتهم بالحديث عنها. فهي مطلوبة من الراهب حتّى اندثار مشيئته، لأن في هذا الاندثار تخلٍ يعكس ملء الحرية. قمّة الحرية أن يتخلّى الإنسان عن حريته. لكن أين يكون هذا وضمن أي إطار؟ طبعاً هذا يكون في الشركة الرهبانية، في الدير، ولجماعة تخلّى كلّ منها عن حريته لإخوته في الجماعة، وكلّهم لرئيس تمرّس في هذا التخلّي وصار خبيراً في تظهير الحرية في الطاعة.

ففيما يعلّم التراث الرهباني عن الطاعة، وفيما تؤكّد خبرة الرهبنة أنّ لا بدّ من الطاعة للوصول إلى تحقيق المثال الرهباني، يتساءل المؤمن الذي يعيش خارج إطار الشركة الرهبانية عن حدود طاعته ولمَن يقدمها. بالعودة للكتاب المقدّس نرى الرسل يحددون أن جائزة مَن يطيع الله هو الروح القدس نفسه (أعمال 32:5)، والرسول بطرس يرى أن طاعة الإخوة دليل المحبة الطاهرة “طَهِّرُوا نُفُوسَكُمْ فِي طَاعَةِ الْحَقِّ بِالرُّوحِ لِلْمَحَبَّةِ الأَخَوِيَّةِ الْعَدِيمَةِ الرِّيَاءِ، فَأَحِبُّوا بَعْضُكُمْ بَعْضًا مِنْ قَلْبٍ طَاهِرٍ بِشِدَّةٍ” (1بطرس 1: 22)، ويرى أن طاعة المسيح هي دليل على البنوّة له “كَأَوْلاَدِ الطَّاعَةِ، لاَ تُشَاكِلُوا شَهَوَاتِكُمُ السَّابِقَةَ فِي جَهَالَتِكُمْ، بَلْ نَظِيرَ الْقُدُّوسِ الَّذِي دَعَاكُمْ، كُونُوا أَنْتُمْ أَيْضًا قِدِّيسِينَ فِي كُلِّ سِيرَةٍ” (1بطرس 1: 14، 15). أمّا الرسول بولس فيعلّم أنّ الطاعة للمسيح هي دليل على الخيار الذي اتّخذه المؤمن بأن يكون مع البِر: “أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ الَّذِي تُقَدِّمُونَ ذَوَاتِكُمْ لَهُ عَبِيدًا لِلطَّاعَةِ، أَنْتُمْ عَبِيدٌ لِلَّذِي تُطِيعُونَهُ: إِمَّا لِلْخَطِيَّةِ لِلْمَوْتِ أَوْ لِلطَّاعَةِ لِلْبِرِّ؟” (رومية 6: 16)، “هَادِمِينَ ظُنُونًا وَكُلَّ عُلْوٍ يَرْتَفِعُ ضِدَّ مَعْرِفَةِ اللهِ، وَمُسْتَأْسِرِينَ كُلَّ فِكْرٍ إِلَى طَاعَةِ الْمَسِيحِ” (2كورنثوس 10: 5).

لكن أين تأتي طاعة الرؤساء أو الآباء الروحيين في الكتاب المقدّس؟ يعلّم الرسول بولس: “أَيُّهَا الأَوْلاَدُ، أَطِيعُوا وَالِدِيكُمْ فِي الرَّبِّ لأَنَّ هذَا حَقٌّ” (أفسس 6: 1). عن أيّ والدِين يحكي؟ يتّضح من الآيات 2:6-4 في الرسالة إلى أفسس أنّ المقصود هو الأهل بالمعنى التقليدي للكلمة، خاصةّ أن الآية 4 موجّهة إلى الأهل بالجسد:”«أَكْرِمْ أَبَاكَ وَأُمَّكَ»، الَّتِي هِيَ أَوَّلُ وَصِيَّةٍ بِوَعْدٍ، «لِكَيْ يَكُونَ لَكُمْ خَيْرٌ، وَتَكُونُوا طِوَالَ الأَعْمَارِ عَلَى الأَرْضِ». وَأَنْتُمْ أَيُّهَا الآبَاءُ، لاَ تُغِيظُوا أَوْلاَدَكُمْ، بَلْ رَبُّوهُمْ بِتَأْدِيبِ الرَّبِّ وَإِنْذَارِهِ.” وفي الرسالة إلى كولوسي أيضاً، الكلام نفسه: “أَيُّهَا الأَوْلاَدُ، أَطِيعُوا وَالِدِيكُمْ فِي كُلِّ شَيْءٍ لأَنَّ هذَا مَرْضِيٌّ فِي الرَّبِّ” (كولوسي 3: 20) يتبعه وصية إلى الأهل “أَيُّهَا الآبَاءُ، لاَ تُغِيظُوا أَوْلاَدَكُمْ لِئَلاَّ يَفْشَلُوا” (21:3)، ومن ثمّ إلى العبيد.

أليس من إشارة في الكتاب المقدّس يستند إليها المؤمن ليطيع الأب الروحي؟ أليس للعلاقات القائمة اليوم بين الآباء الروحيين وأبنائهم من غير الرهبان نموذج غير الرهبنة لتقوم عليه. الجواب موجود لدى الرسول بولس في تعليمه: “أَطِيعُوا مُرْشِدِيكُمْ وَاخْضَعُوا، لأَنَّهُمْ يَسْهَرُونَ لأَجْلِ نُفُوسِكُمْ كَأَنَّهُمْ سَوْفَ يُعْطُونَ حِسَابًا، لِكَيْ يَفْعَلُوا ذلِكَ بِفَرَحٍ، لاَ آنِّينَ، لأَنَّ هذَا غَيْرُ نَافِعٍ لَكُمْ” (عبرانيين 13: 17). فهو يطلب الخضوع وليس فقط الطاعة، وهذا ينطبق نحو الآباء الروحيين والرؤساء أيضاً، لكن طالما هم يسهرون لأجل نفوس المؤمنين. هل هذا يعني أن عند عدم اهتمام الرئيس بالنفوس يصبح عدم الطاعة ممكناً؟ في غياب ديناميكية حياة الجماعة الكنسية يصير الحكم بذلك صعباً والاحتكام إلى التقليد محفوفاً بالتعقيدات ما يفاقم الوضع القائم.

الوصايا الإنجيلية حول سماع كلمة الرب كثيرة، لكن كيف يعرف الإنسان أنه يطيع وصايا الله؟ الإيمان الأرثوذكسي هو إيمان اختباري “تعالَ وانظر”. من هنا وجب أن يحمل الأب الروحي أو الرئيس الروحي النموذج الذي يتبعه المؤمن فيحقق وصية الرسول بولس: “وَمَا تَعَلَّمْتُمُوهُ، وَتَسَلَّمْتُمُوهُ، وَسَمِعْتُمُوهُ، وَرَأَيْتُمُوهُ فِيَّ، فَهذَا افْعَلُوا، وَإِلهُ السَّلاَمِ يَكُونُ مَعَكُمْ. (فيليبي ٤: ٩). فالحكمة ينبغي أن تتوفّر لدى الطرفين، المرشِد والمرشَد لأن الموقف الأخير هو أنه “يَنْبَغِي أَنْ يُطَاعَ اللهُ أَكْثَرَ مِنَ النَّاسِ” (أعمال الرسل 5: 29).

أحدى مشكلات الكنيسة الأرثوذكسية اليوم هي في تطبيق مفهوم الطاعة، وقد عبّر عنه مطران جبل لبنان في مقدمة نشرة رعيتي في 24 شباط 2014: “الكلام على الطاعة، ولا سيّما طاعة الرؤساء في الجماعة، له، في زماننا، تفاسير عدّة. وهذه، بمعظمها، ترتدي ثوبًا فضفاضًا بإعلائها المراتب كما لو أنّ الكنيسة طبقات”. بالطبع هناك مشكلات كثيرة تعيق السلوك في “الحياة الروحية” التي ترضي المسيح، أهمّها محاولة نسخ النموذج الرهباني والسعي إلى تطبيقه في مجتمع يفتقد النموذج غير الرهباني ولا يشبه الأديار بشيء. أما ثاني المشكلات فهي مراهقة أغلبية مَن يدّعون الأبوة الروحية. لا يكفي أن يتسلّم الكاهن الحُجرَ من الأسقف حتى يصير أباً روحياً. ولا يكفي أن يعيّن المطران راهباً أو راهبة في رئاسة دير حديث المنشأ حتّى يصير هذا الراهب أو الراهبة أباً روحياً. الخبرة هنا ضرورية على قدر أهمية المحبة. لمَ يقبل الآباء الجسديون أن يحتملوا كلّ شيء من أولادهم فيما يرى الأسقف أو الكاهن أو الأب الروحي أن أولاده يجرحونه في عدم طاعته؟ أن تصير الطاعة هي المعيار الأول في ميزان علاقة الأسقف بأبرشيته أو الكاهن برعيته أو الأب الروحي بأبنائه دليل على نقص في النضج، وتشويه لحرية أبناء الله.

لماذا هذا الكلام؟ أهو للتحريض على عدم طاعة الآباء أو الرؤساء؟ بالطبع لا. الهدف الأساسي هو الإضاءة على أزمة نعاني منها في كنيستنا، ولا نجروء في أغلب الأوقات على إثارتها. لماذا ربط الطاعة بالمواهب؟ لأنّ في الكنيسة كلام كثير عن اكتشاف المواهب وتنميتها والاهتمام بالقدرات والخبرات وتفعيلها، لكن الوقت يثبت أن أولى المواهب المطلوبة هي الطاعة. فالتكريس هو الطاعة، والالتزام هو الطاعة، وحتّى العلم هو الطاعة. لهذا نتألّم إذ نرى الكثيرين من أبناء الكنيسة يبتعدون أو يبعَدون. ضروري لقيامة الكنيسة أن يفهم الجميع، من كل الرتب والمسؤوليات والمهمات والمواهب، ما يعلّمه القديس يوحنا الذهبي الفم في شرح كلام الرسول بولس حول المواهب وجسد الكنيسة في الإصحاح الثاني عشر من كورنثوس الأولى: “إن لم يوجد بينكم تنوّع عظيم لا يمكن أن تصيروا جسدًا. إن كنتم لستم جسدًا لا يمكن أن تتحدوا. إن كنتم لستم واحدًا فإنه لا يمكن أن تصيروا متساوين في الكرامة. لأنكم لم تنالوا نفس المواهب.. المشاركة العامة في كل شيء، الأمور الصالحة والمحزنة، هي الطريق الوحيد لبلوغ كمال الشركة”.