دستور الحياة المسيحيّة*

الأرشمندريت توما بيطار

يا إخوة، بعد قراءة هذا الإنجيل، الّذي تُلي عليكم، أودّ أن أتوقّف عند بعض المفاهيم المفاتيح، لِما فيها من ذُخرٍ طيّب، ومن تعليم حريص.

أوّلاً، يسوع تحنّن على الجموع كإنسان؛ لأنّه هو، في كلّ حال، يحبّ الجميع؛ لأنّ الله محبّة. لكنّ الحنان، هنا، حنان بشريّ مُنقًّى. وأؤكّد على الحنان المُنقّى. نحن، في الحقيقة، بعد السّقوط، صرنا لا نتعاطى الحنان المُنقّى، إلاّ بنعمة من الله. الحنان، والعاطفة، والمحبّة، والرّحمة… كلّها، في الممارسة البشريّة، مزغولة بالأنا، بحبّ التّملّك. لهذا السّبب، علينا أن نكون حريصين، دائمًا، لكي لا نترك عواطفنا على الغارب. علينا، دائمًا، أن نلجم أنفسنا، أن ننتبه لذواتنا؛ حتّى لا نتعاطى العطف، والحنان، واللّطف، والمودّة، والمحبّة، والرّحمة، بروح حبّ الذّات. الرّبّ يسوع تحنّن، هنا؛ لأنّه، في الحقيقة، لبس إنسانيّتنا الفردوسيّة، ولم يلبس بشرتنا السّاقطة. طبعًا، هو إنسان، بكلّ معنى الكلمة؛ لكنّه لم يأتِ من اتّحاد رجل بامرأة، بل أتى من امرأة نزل عليها روح الرّبّ القدّوس. لهذا، إنسانيّته كانت كإنسانيّة آدم قبل السّقوط، حين كان في الفردوس. لهذا السّبب، حنانه حنان صافٍ، حنان مُنقًّى، ليس فيه تملُّك، ولا أنا، ولا حبّ للذّات. ونحن، لكي نقتني الحنان الإلهيّ، علينا أن نتعلّم الوصيّة، علينا أن نسلك فيها، وأقصد الوصيّةَ الّتي تقول إنّ الإنسان لا يستطيع أن يكون تلميذًا للرّبّ يسوع، إن لم يكره نفسه. على الإنسان أن يطلّق إنسانه العتيق. وهذا، طبعًا، يحتاج إلى نعمة الله، أوّلاً؛ ويحتاج، من قـِبلنا، إلى صحوٍ، إلى انتباه، إلى جهاد؛ لأنّ مَيْلَنا التّلقائيّ هو إلى حبّ الذّات؛ لذلك، كلّ ما نتعاطاه، في حياتنا، مائل، بصورة تلقائيّة، إلى حبّ الذّات. أمّا الإنسان الّذي يريد أن يسلك في إثر الرّبّ يسوع، فعليه، دائمًا، أن يتعلّم كيف يتخطّى نفسه، كيف يقمع أهواء نفسه، كيف يرصد الحركات غير النّقيّة في نفسه. وهذا، طبعًا، لا يمكن أن يحدث، إن لم يقتنِ الإنسان تواضع القلب؛ إن لم يعرف أنّه خاطئ؛ إن لم يحسّ، في كلّ حين، بأنّه إنسان خاطئ، وبأنّه تراب ورماد. الإنسان يقتني الاتّضاع باعتبار نفسه، أوّلاً وقبل كلّ شيء، أنّه أوّل الخطأة: “خطيئتي أمامي في كلّ حين” (مز50: 3). لذلك، لا يستكبر؛ لا يدين؛ ينظر، دائمًا، بعينه الدّاخليّة، إلى خطيئته الدّاخليّة؛ ويسترحم الله عليها؛ إلى أن يمنّ الرّبّ الإله عليه بنعمة الاتّضاع. متى صارت له نعمة الاتّضاع، يصير بإمكانه أن يميّز ما هو من الله في نفسه، وما ليس من الله فيها. إذًا، بالسّلوك في الوصيّة بأمانة نأتي إلى الاتّضاع، وبالاتّضاع نصير قادرين على تمييز الغثّ من السّمين في أنفسنا. ومن هناك، يبقى علينا أن نلقي الغثّ خارجًا، وأن نتمسّك بالسّمين، أي بما هو لله، ونسلك فيه. هكذا نقتني الحنان المنقّى؛ ونقتني، في الحقيقة، كلّ فضيلة. هذا بالنّسبة إلى موضوع الحنان.

قال يسوع لتلاميذه، أيضًا: “الحصاد كثير والفَعَلَة قليلون؛ فاطلبوا من ربّ الحصاد أن يُرسل فعلةً إلى حصاده”. هذا الكلام يشير، بوضوح، إلى أنّ هناك فَعَلَة من عند الله، وهناك فَعَلَة من عند النّاس. الفَعَلَة الّذين من عند النّاس يكونون على شاكلة النّاس، وهم مُعرَّضون لتجارب النّاس، ولهم خطايا النّاس. أمّا الفَعَلَة الّذين من عند الله، فهؤلاء يكونون رجالاً لله! هؤلاء علينا أن نصوم، ونصلّي، ونتضرّع إلى الرّبّ الإله بنقاوة قلب؛ لكي يُرسل إلينا أشخاصًا مثلهم. الموضوع، إذًا، ليس موضع استنساب بشريّ. بكلام آخر، نلاحظ النّاس، فنرى فلانًا حاملاً شهادة، وهو لَبِق في الكلام، ومهذَّب، وفهيم؛ فنختاره ليكون عاملاً من عَمَلَة الكنيسة. المقاييس عند الله مختلفة. الله لا ينظر إلى العينين، بل إلى القلب. لهذا، لا يليق بنا أن نعتمد المقاييس البشريّة. علينا، دائمًا، بتنقية القلب، وبالصّلاة إلى الله والتّضرّع إليه، أن نعتمد المقاييس الإلهيّة. المهمّ أن يكون مَن نختاره رجلاً لله، لا رجلاً يتمتّع بمواهب بشريّة مختلفة. هذا قد ينفع في غير كنيسة المسيح، لكنّه قد يكون لكنيسة المسيح سبب عثرة، قد لا تكون قليلة!

و”دعا يسوع تلاميذه الاثني عشر، وأعطاهم سلطانًا على الأرواح النّجسة، لكي يُخرجوها، ويشفوا كلّ مرض وكلّ ضعف”. هذا، في الحقيقة، يشير، بوضوح، إلى أنّنا لا نستطيع شيئًا من دون الله. إن لم يعطنا الرّبّ الإله نعمة إخراج الأرواح الخبيثة؛ ومن ثمّ، شفاء كلّ مرض وكلّ ضعف، وهذا يشمل كلّ شيء؛ فإنّنا لا نستطيع شيئًا، على الإطلاق. كلّ ما يعانيه الإنسان هو، بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، من الشـّيطان. قد يكون الشـّيطان مقيمًا في إنسان، وقد لا يكون. لكنّ كلّ ضعف يعانيه الإنسان، في النّفس وفي الجسد – كلّ مرض، كلّ ألم… – هو، بصورة غير مباشرة، من الشـّيطان. نحن، إذًا، نحتاج، أوّلاً وقبل كلّ شيء، إلى النّعمة الإلهيّة، لكي نتصدّى لعمل الشـّيطان المُفسِد في النّفس. الرّبّ يسوع قال: “بدوني لا تستطيعون شيئًا، على الإطلاق” (يو15: 5). وهو قد اختار الرّسل بنفسه. اختار اثني عشر رسولاً من بين العاديّين من البشر، وأكثرهم جاهل بأمور العـِلم الدّنيويّ والثّقافة الدّنيويّة. اختارهم كذلك، لكي يحفظهم من الاستكبار؛ لأنّ العلم ينفخ؛ ولأنّه أراد أن يُنعم عليهم، هو نفسه، بكلّ ما يحتاجون إليه لإتمام الخدمة الّتي كلّفهم بها. كما أنّه اختار، أيضًا، يهوذا الإسخريوطيّ، وهو عارف بما في قلبه، حتّى قبل أن يفكّر يهوذا الإسخريوطيّ نفسُه في تسليم الرّبّ يسوع. لا شيء، في الحقيقة، خارج قبضة الله. الرّبّ الإله هو الضّابط الكلّ، ولا يتفرّغ شيء من يد الله، على الإطلاق! حتّى الّذين يرومون شرًّا يعرفهم الله جيّدًا. ولو لم يكن ليسمح لهم بتعاطي الشـّرّ، لَما كان بإمكانهم أن يفعلوه. والرّبّ الإله يسمح بذلك؛ لأنّه، من جهة، يريد أن يكون النّاسُ أحرارًا؛ ومن جهة أخرى، لأنّه قادر على أن يحوّل كلّ شرور البشريّة إلى أدوات للخير. هذا ما فعله الرّبّ يسوع بالصّليب. ما فعله اليهود بقصد التّخلّص من الرّبّ يسوع صار أداةً لخلاص البشريّة. بعض آبائنا يقول بصراحة: لو لم يكن هناك شيطان، لَما كان بإمكان إنسان أن يخلص. في الحال الّتي هو فيها، الإنسان لا يمكنه أن يخلص، إلاّ بالتّجارب الّتي يأتي بها عليه الشـّيطان؛ إذ، بإزاء هذه التّجارب، يُتاح له أن يقاوم، وأن يصرخ إلى الرّبّ الإله، والرّبّ يعينه؛ يُتاح له أن يتنقّى، أن يتقدّس، أن يصير مسكنًا لروح الرّبّ. طبعًا، لا فضل للشـّيطان في ذلك! بل الفضل للرّبّ الإله، الّذي يعرف أن يحوّل كلّ أحابيل الشـّيطان إلى أدوات لخلاص البشريّة. ونعود إلى يهوذا الإسخريوطيّ. الرّبّ يسوع سمح له بفعل ما فعله؛ وهو، في الحقيقة، اختاره لكي نفهم أنّه لا يستثني أحدًا، على الإطلاق: الله “يريد أنّ الجميع يخلصون، وإلى معرفة الحقّ يُقبلون” (1تيمو2: 4)، وهو لا يهاب أحدًا. نحن، بشريًّا، إذا لاحظنا أنّ إنسانًا يمكن أن يؤذينا، نبتعد عنه، أو نُبعده عنّا. أمّا الرّبّ الإله، فليس عنده شيء من هذا؛ لأنّه هو السّيّد، في كلّ حال! وما فعله يهوذا الإسخريوطيّ استوعبه الرّبّ يسوع، بحيث جعله، كما قلت، أداة لا لقيامته، فقط؛ بل أيضًا لخلاص البشريّة من خلال قيامته.

ثمّ كلّف الرّبّ يسوع التّلاميذ بما عليهم أن يفعلوه. الرّبّ يسوع لا يُرسل أحدًا إلى المعركة ما لم يكن مُزوَّدًا بالتّوجيهات المناسبة، وبالسّلاح الموافق. في البداية، أعطاهم سلاحًا على الأرواح النّجسة، لكي يخرجوها، ويشفوا كلّ مرض وكلّ ضعف. بعد ذلك، يعطيهم التّوجيهات الموافقة، لكي يعرفوا ماذا عليهم أن يفعلوا: “انطلقوا، بالأحرى، إلى الخراف الضّالّة من بيت إسرائيل. وفي انطلاقكم، اكرِزوا قائلين: قد اقترب ملكوت السّموات”. ما على التّلاميذ أن يفعلوه، إذًا، هو الكرازة بملكوت السّموات؛ ومن ثمّ، الموضوع هو موضوع الحياة الجديدة، موضوع الرّبّ يسوع، موضوع الحياة الآتية من فوق. ملكوت السّموات قد أُعطي. يبقى على النّاس أن يقتبلوه. ملكوت السّموات في متناول كلّ واحد منّا. ليس بإمكان أحد أن يقول إنّه محروم من نعمة الله. الإنسان يحرم نفسه بنفسه من الملكوت، ومن الحياة، ومن عشرة الله، ونورهِ، وفرحـِه، وسلامـِه. أمّا الرّبّ يسوع، فقد أعطى ذاته لنا بالكامل، بالكلّيّة: “خذوا كلوا، كلّ شيء لكم. وأمّا أنتم، فللمسيح، والمسيح لله”. “اشفوا المرضى، طهّروا البرص، أقيموا الموتى، أَخرِجوا الشـّياطين”. طبعًا، هذا توكيل؛ وفي آن معًا، يعطيهم الرّبّ الإله، مع التّوكيل، القدرة على أن يتمّموا ما يوكّلهم به، وكأنّه يردّد ما سبق أن قاله أعلاه. ثمّ يختم قوله بهذا الكلام المعبِّر جدًّا: “مجّانًا أخذتم، مجّانًا أعطوا”. المجّانيّة هي سمة المسيحيّة بامتياز. أن يُعطى شيء بالمجّان لا يعني، أبدًا، أن يُعطى الإنسان شيئًا من دون أن يدفع ثمنه. المعنى هو أنّ الرّبّ الإله، إذا ما أعطانا الملكوت مجّانًا، فإنّه يعطينا إيّاه عن محبّة خالصة وكاملة. ونحن، بإزاء ذلك، لا يمكننا أن نؤدّي عن الملكوت ثمنًا. نحن نأخذه مجّانًا. المجّان، إذًا، هو ما لا طاقة للإنسان على أن يؤدّي مقابلاً له. طبعًا، هذا، في حياتنا، ينبغي أن يكون دستورًا. علينا أن نتعلّم أن نتعاطى المجّانيّة في تعاملنا بعضنا مع بعضنا الآخر، بمعنى أن نبثّ ما بثّه الرّبّ يسوع فينا. ليس الموضوع أن نعطي ما هو من الأرضيّات. الموضوع هو أن نعطي، من خلال الأرضيّات، ما هو من السّموات. ليس الموضوع أن نطعم الجياع، بل أن نطعم الجياع محبّة الرّبّ يسوع من خلال الخبز. وإذا ما اكتفينا بإطعام النّاس خبزًا، فلا بدّ لنا، بعد حين، من أن نتعب، ومن أن نجد أن الخبز قد نفد؛ لكن، الخبز الّذي نحتاج، دائمًا، إلى تقديمه إلى النّاس هو الّذي يطعمنا إيّاه الرّبّ يسوع، في كلّ حين، وهو كلمته، حياته، حنانه، لطفه، أسراره. هذا كلّه علينا أن نمدّه إلى الآخرين.

إذًا، نحن، في كلّ خدمة نؤدّيها للنّاس، ليس الموضوع أن نؤدّي خدمة أفقيّة بشريّة، فقط. المهمّ أن نؤدّي خدمة إلهيّة عموديّة، من خلال ما نتعاطاه أفقيًّا. إذا فهمنا هذا الأمر، تغيّرت نوعيّة تعاطينا والنّاسَ تغييرًا كبيرًا؛ وبات كلّ شيء في حياتنا هادفًا، بمعنى أنّ الملكوت يصير قـِبلتنا وقـِبلة النّاس الّذين نمتدّ صوبهم. فالمجد لله على ما أعطاه، والمجد لله على ما يتحقّق، في كلّ حين، من خلال أحبّاء الله بروح الرّبّ القدّوس.

آمين.

* عظة حول متّى9: 36- 38؛ 10: 1- 8، السّبت 9 تشرين الأوّل 2010