الفلسفة ومعرفة الله

الميتروبوليت إيروثيوس فلاخوس

          سوف نرى الآن كيف يمكننا اكتساب معرفة الله. إن الفلسفة، التي اتبعها برلعام والعديد من معاصرينا، لا تقدم معرفة حقيقية عن الله وتؤدي بالمفكرين المتأملين إلى عبادة أوثان.

         لقد أصر برلعام على أن معرفة الله ليست متعلقة برؤية الله ولكن بفهم الإنسان (قدرته العقلية). ولأنه ادعى أننا قادرين على اكتساب معرفة الله من خلال الفلسفة، فإنه صنف الأنبياء والرسل الذين رأوا النور غير المخلوق على أنهم أقل من الفلاسفة. لقد ادعى أن النور غير المخلوق يدرَك بالحواس، وهو مخلوق، وأنه”أقل من فهمنا”.

         أكد القديس غريغوريوس بالاماس، كحامل للتقليد وكرجل إعلان، عكس ذلك. لقد أوضح في لاهوته تعليم الكنيسة عن أن النور غير المخلوق ورؤية الله هو ليس مجرد رمز، ولا هو حسي ومخلوق، ولا هو أقل من التفكير البشري: إنه الاتحاد بالله. يُحسب الشخص مستحقاً لرؤية الله من خلال الاتحاد به. هذا الاتحاد بالله ليس حالة تجريدية، ولكنه اتحاد بين الإنسان والله. بتعبير آخر، فإن الشخص الذي يبصر النور غير المخلوق يراه لأنه متحد بالله. إنه يراه بعينيه الداخليتين، وأيضاً بعينيه الخارجيتين، اللتين تكونان قد تحولتا بفعل قوة الله. بالتالي تكون رؤية الله هي اتحاد الإنسان بالله، وهذا الاتحاد هو معرفة الله. عندئذ يُحسَب الإنسان مستحقاً لمعرفة الله، وهذه المعرفة تفوق المعرفة البشرية والإدراك الحسي.

         ينبغي علينا لكي نصل لرؤية النور غير المخلوق أن نقطع كل رباطات النفس بأشياء هذا العالم، وأن ننزع أنفسنا من كل شيء من خلال حفظ وصايا المسيح، ومن خلال اللاهوى الناتج عن ذلك. ينبغي علينا أن نمضى إل ما وراء النشاط المعرفي “من خلال صلاة حارة، صادقة، غير مادية”. هذا هو السبب الذي يجعل المرء محتاجاً للشفاء أولاً. هذا الشفاء يتحقق من خلال حفظ وصايا المسيح، وتحرير النفس من ارتباطها بالأشياء  المخلوقة. يستنير الإنسان بالنور الذي لا يُدنى منه “في اتحاد سامٍ فائق للمعرفة”، ومن خلال هذا الاتحاد يرى الله. إنه يصبح نوراً، ويرى بواسطة النور، “…يصير نوراً ويبصر من خلال النور”. وإذ يبصر النور غير المخلوق فإنه يعرف الله، ويكتسب معرفة الله، لأنه عندئذ “يدرك بحق أن الله فائق اللمعان ويفوق كل فهم”.

         يتكلم القديس غريغوريوس بالاماس عن الدهش. إلا أن نوع الدهش الموصوف في تقليد الآباء ليس له أية علاقة بالدهش الخاص بكهنة الإغريق، أو الدهش الموجود في الديانات الأخرى. يتأتى الدهش بالمعنى الآبائي عندما ينتزع النوس نفسه من كل الأشياء المخلوقة في الصلاة، أولاً “من كل ما هو مخزٍ، وشرير، وسيء، ثم من كل الأشياء المحايدة…”. الدهش هو، فوق كل شيء، انعزال عن الذهن الجسداني العالمي.

         يتخلى النوس، من خلال الصلاة الحقيقية، عن “كل الأشياء المخلوقة”. هذا الدهش أسمى من علم اللاهوت التجريدي المبني على الحدس، وهذا الدهش يخص فقط أولئك الذين وصلوا للاهوى. إلا إنه لا يمثل الاتحاد بعد، ” ما لم يـُـنِـر المعزي من أعلى الإنسان المواظب على الصلاة في العلية، التي هي أعلى نقطة يستطيع الإنسان الوصول إليها، حيث ينتظر وعد الآب، وحيث يرفعه الروح لرؤية النور”. بتعبير آخر، فإن الدهش، الذي هو صلاة قلبية دائمة حيث لا يكف النوس عن تذكر الله ويكون منتَزَعاً عن الأهواء وعن عالم الخطية، ليس هو بعد الاتحاد بالله. يتأتى اتحاد الإنسان بالله عندما يأتي الباراقليت للإنسان الذي يصلي وينتظر وعد الآب في “العلية”، التي هي أعلى نقطة في إمكانيات الإنسان الطبيعية، حيث يختطفه لرؤية النور غير المخلوق. الاستنارة الإلهية هي علامة اتحاد الإنسان بالله.

         تقدم رؤية الله والاتحاد به للإنسان معرفة الله الروحية، فمن خلالها يكتسب معرفة الله الحقيقية. عطية الروح القدس المانحة الاتحاد بالله، الذي هو نور فائق الوصف، تحول أولئك الذين تلقوها إلى نور إلهي. إنها لا تملأهم فقط بالنور الأبدي ولكنها “تمنحهم معرفة وحياة جديرة بالله”. في هذه الحالة يكتسب المرء معرفة الله.

         هنا نرى الرابطة الوثيقة بين رؤية الله، والاتحاد به، ومعرفته. فلا يمكن فهمهم منفصلين عن بعضهم البعض، وفصل هذه الرابطة يبعدنا بعيداً عن معرفة الله. يرتكز التعليم الأرثوذكسي عن معرفة الله على الاستنارة وإعلان الله داخل قلب الإنسان المتطهر.

         لا تنبع رؤية النور غير المخلوق ومعرفة الله الناتجة عن هذه الرؤية من قدرة الإنسان العقلية. إنهما لا يشكلان كمال الطبيعة المنطقية كما أكد على ذلك برلعام، ولكنهما يفوقان العقل. تمنح هذه المعرفة من الله للقلب الطاهر. الإدعاء بأن هذه العطية المانحة الاتحاد بالله هي تطور لطبيعتنا العاقلة يضاد بشارة المسيح. فلو كان الاتحاد بالله عطية طبيعية، لأصبح كل شخص إلهاً بدرجة أو بأخرى. لكن “القديسين المتحدين بالله يتجاوزون الطبيعة”، هم مولودون من الله والله أعطاهم السلطان ليصيروا “أبناء الله”.