الحالات الروحية الداخلية

الحالات الروحية الداخلية

الميتروبوليت إيروثيوس فلاخوس

          الحياة الروحية لغز. إنها رحلة يواجه فيها المسافر العديد من العوائق والغرائب، ومعرفة كل هذه المشاكل هي علم. لا يوجد علم أعظم من معرفة كل الطرق التي ينبغي علينا إتباعها، ولكن ينبغي علينا أيضاً معرفة الوسائل التي يجب استعمالها بهدف الوصول لوجهتنا.

         قديسو الله هم الخبراء الأكثر علماً بهذه الرحلة. إنهم معتادون بدون خطأ على كل الصعاب، ويوصون بالطرق المتنوعة للتغلب عليها. الآباء الروحيون، الذين يشفون نفوس الآتين إليهم، يكونون أيضاً في موضع العارفين، بقدر الإمكان، بهذه الرحلة الشاقة لأجل خلاص نفس الإنسان.

         من أسبابب الصعاب الخطيرة التي تواجه المسيحيين في حياتهم الروحية الاكتفاء الذاتي واليأس. على عكس ذلك، تكون الشجاعة من أعظم وأهم الأسلحة للتخلص من يأس العالم الذي يغلبنا في رحلتنا الروحية. إنني ألاحظ أن الناس اليوم يعانون في هذه الجوانب الثلاثة: إنهم يمتلكون الاثنين الأولين (الاكتفاء الذاتي واليأس) ولكنهم يفتقرون للثالث (الشجاعة).

1- الاكتفاء الذاتي

         يعني الاكتفاء بالذات أن يكون المرء قادراً على توفير احتياجاته الخاصة. قد يعني الاكتفاء الاقتصادي. يُستعمل هذا المصطلح في الكتاب المقدس للتعبير عن ضرورة أن نمتلك الوسائل المالية اللازمة بحيث لا نثقل على الآخرين، وبحيث نكون قادرين على إعطاء المحتاجين مما يتبقى (2كو8:9). إلا أن بالإضافة إلى ذلك، الاكتفاء الذاتي يعني النظر لمواهبنا الشخصية على أنها ذاتية ومستقلة عن الله وخدمة أعمال الخير، واستغلالها لمصلحتنا. في المصطلحات المعاصرة، يشير الاكتفاء الذاتي إلى حالة للذهن نبالغ فيها في تقدير مواهبنا الروحية وفضائلنا حيث نراها على أنها متميزة بتفرد، ونذهب لما هو أبعد من ذلك فنظن أننا كاملون، وبالتالي لا نكون محتاجين لنمو آخر. هذا المعنى، الذي هو كوننا كاملين، عادة ما يوصف في أيامنا هذه على أنه اكتفاء ذاتي.

         للأسف، يعاني أغلبنا، نحن المسيحيون المعاصرون، من ذلك. فلدينا الشعور بكمالنا الروحي الخاص بنا. إننا لا نشعر أننا نحتاج للنمو أو التطور في حياتنا الروحية. على عكس ذلك، نظن أن الآخرين، بخلافنا، لديهم العديد من الضعفات، وبذلك نعيش مثل الفريسيين. إنني أعتبر أن خطر الاكتفاء الذاتي هذا، والذي يكون مصحوباً باحتقار الآخرين هو أحد أكبر المخاطر في عصرنا هذا.

         هذا النوع من الاكتفاء الذاتي هو وهم كبير. يصف القديس فيلوثيوس السينائي هذه الحالة التي واجهها لدى أناس عصره بمَن فيهم الرهبان فيقول أن العديد من الرهبان “ليسوا واعين بخداع النوس” الناتج عن تأثير الشياطين. فلكونهم غير مدربين وساذجين، ينشغلون بالحياة العملية دون الالتفات للنوس، ليس لديهم خبرة بنقاوة القلب، وهم جاهلون بظلمة أهوائهم. مثل هؤلاء الرهبان “ينظرون لهذه الخطايا المرتكبة على أنها مجرد هفوات. لا يأخذون بالحسبان الهزائم والانتصارات التي تحدث في ساحة الفكر”.

         العديد من المسيحيين والرهبان يهتمون فقط بالفضيلة العملية وليس بالتقدم نحو معاينة الله. إنهم يحاولون تطهير قدرة النفس على الرؤية دون الاهتمام بما يخص الحياة الداخلية، ودون الحنين الشديد لله أو لمعرفته. إنهم غير مهتمين بالصلاة العقلية أو الحياة الداخلية. بالتالي لا يعرفون أبداً الفقر الروحي الذي هو أول تطويبات المسيح. إنهم لا يظهرون علامة على التوبة التي هي شرط لا غنى عنه للروح الأرثوذكسية، إذ من خلال التوبة تدخل نعمة المسيح القلب.

         عندما نقابل مثل أولئك الناس فإننا عادة ما نجد أنفسنا في مأزق رهيب. هل يتعيّن علينا أن نتركهم في هذه الحالة (التي هي مرض للنفس سوف يؤدي بالتأكيد إلى موتها وتبلدها) أم ينبغي علينا أن نحاول تحطيم هذه الصورة الجيدة التي لديهم عن أنفسهم؟ هذ الأمر يمّثل إشكالية كبيرة إذ أحياناً عندما يتهشم قناع الشخص عن اكتفائه الذاتي، إذا لم يكن مسنوداً بنعمة الله، يسقط في يأس عميق قد يسبب له أذى كبير. هنا تكون الرعاية الكهنوتية الساهرة مطلوبة بشدة. أعتقد أن هذه النقطة تشكّل صليب الأب الروحي. فصليبه يتكوّن من معرفة كيفية تمييز الاكتفاء الذاتي الروحي، وكيفية تحطيمه، وكيفية التعامل مع الشخص بمجرد أن يسقط عنه مظهر التقوى.

 

2- اليأس

         يصيب اليأس العديد من الناس في هذه الأيام. يقسِّم القديس يوحنا السلمي اليأس إلى فئتين. أحدهما هو اليأس الناتج عن “كثير من الخطايا، وضمير مثقل، وحزن لا يحتمل”. ينتج الآخر عن “العُجب والخيال، عندما يعتبر المرء نفسه غير مستحق لخطيئة سقط فيها”. يقود النوع الأول من اليأس للتبلّد. أما في النوع الثاني، يكمل الشخص جهاده الروحي النسكي في يأس، مما يشكل تناقضاً كما يقول القديس يوحنا السلمي. يسقط الشخص المتكبر جداً والذي لديه أفكار عظيمة عن نفسه في النوع الثاني من اليأس، لأنه بعد ارتكاب خطيئة لا يستطيع تصديق أنه فعل ما فعله. يقول القديس يوحنا السلمي أن العُجب واليأس متناقضان مثل العرس والجنازة، ولكن عندما تعمل الشياطين من الممكن أن نرى الاثنين معاً: “كنتيجة للتشويش الناتج عن الشياطين من الممكن رؤية الاثنين معاً بآن واحد”.

         هكذا يأتي اليأس من الخلاص من الشياطين. يعلِّم أيضاً القديس يوحنا السلمي أنه لا ينبغي علينا الالتفات إلى الأحلام الخاصة بالعذابات التي تأتي من الشياطين. ينبغي علينا أن نصدّق فقط تلك الأحلام التي تعلّمنا عن الجحيم والدينونة “لكن لو أصابك اليأس، عندئذ تكون مثل هذه الأحلام أيضاً من الشياطين”.

         يجلب هذا اليأس الشيطاني دينونتنا. “كما لا يستطيع الميت المشي، هكذا لا يمكن للشخص اليائس أن يخلص”. إن الشخص الذي لا يؤمن بحنان الله ورحمته، والذي يصبح خائر القوة يقتل نفسه. “الذي ييأس يكون كمن ينتحر”. يحثّنا القديسون على ألا نفقد الرجاء حتى آخر نفس في حياتنا: “لا ينبغي علينا أن نيأس حتى آخر نفس” (يوحنا السلمي).

         لقد أكّدنا بالفعل أن العديد من الناس في هذه الأيام لا يريدون سماع التوبيخات الشافية حتى من أبيهم الروحي، وإذا وُبِخوا فإنهم يسقطون في يأس عميق.  قد يقرأ البعض سيرة حياة القديسين وتعاليمهم ويشعرون باليأس معتقدين أنهم لم ينجزوا شيئاً. يكون ذلك صحيحاً من أحدى وجهات النظر. فآجلاً أم عاجلاً لا بدّ وأن تتحطم “واجهة” القداسة والاحترام، وعندئذ يتعين علينا إعادة بناء بيت النفس. ينبغي علينا أن نتوقف عن العيش في أحلام وخيالات. عالم الخيال يكون مصدر العديد من تشوّهات النفس والمشاكل الداخلية. ينبغي إماتة هذا النوع من الوهم.

         يتكلم العديد من القديسين عن اليأس المقدّس، الذي يختلف عن يأس العالم. ينبغي علينا أن نتوقف عن تصديق صورتنا عن أنفسنا التي هي مصدر تشوهات خطيرة. إلا أنه بالإضافة إلى موهبة اليأس المقدس العظيمة، ينبغي علينا أن ننمّي الرجاء في الرب. ينبغي علينا أن نصدق بؤسنا وعدم نفعنا، إلا أنه ينبغي علينا في نفس الوقت أن نؤمن بحب الله العظيم، ومحبته للبشر، ورحمته.

         تنمو الصلوات بهذه الطريقة. ثم، بحسب قوة صلواتنا وبحسب نمونا في التوبة، يعطينا الله بركته. إذا سمع شخص ما عن إنجازات القديسين الفائقة للطبيعة أو فضائلهم الغريبة ويئس من نفسه كشخص فإنه يكون “الأقل عقلانية”. إن أي مسيحي مستبصر، ودارس لسيَر القديسين إما أن يبدأ في تقليدهم بشجاعة، أو يكتسب، من خلال التواضع، إدانة النفس ويدرك ضعفه ويلوم نفسه (القديس يوحنا السلمي).

         بالتالي يوجد يأس على المستوى البشري، الذي هو عمل الشياطين وهو يصيبنا بالشلل، ويوجد يأس مقدس متولد عن نعمة الله ويقودنا للصلاة وطلب رحمة الله. إن العلامة المميزة للأول هي الخمول والتبلد، وعلامة الثاني هي الصلاة والرجاء في الرب.

3- الشجاعة

         على الرغم من أن الآباء القديسين يشجبون الاكتفاء الذاتي في الحياة الروحية، إلا أنهم يؤكدون على ضرورة اليأس المقدس الذي هو خليط من فقدان الرجاء المبني على وعينا بذواتنا، ومن الرجاء العظيم في الله. إنهم يعطون أيضاً أهمية كبرى لفضيلة الشجاعة، التي تمكّن الشخص من تحمل الحرارة الحارقة الناجمة عن الوعي بالدينونة والجحيم. مَن يقتني فضيلة الشجاعة تلك هو وحده القادر على التغلب على هذه التجربة العظيمة عندما يواجهها في مسيرته الروحية. يستطيع المرء أن يقف على حافة الجحيم حاملاً الرجاء في محبة الله من خلال الشجاعة، حتى لو كان في النار مع لهيب الجحيم. يحرق هذا اللهيب الأهواء، لكن الشجاعة الروحية تجعله يلجأ إلى الله ويطلب رحمته وبركته.

         الشجاعة هي إطار شجاع للذهن مع رجاء كامل في الله. مثل هذه الشجاعة الروحية لا تقدّر بثمن. يحثنا القديس يوحنا السلمي قائلاً: “اقتنِ كل الشجاعة وسوف تجد الله كمعلم لك في الصلاة”. يموت النوس كنتيجة للخطايا والأهواء، والنفس الشجاعة وحدها هي التي تستطيع إعادته للحياة. “تقيم النفس الشجاعة النوس المائت”. يتحرر الشخص الشجاع من تأثير الشيطان ويشفي نوسه. “انتبه لكي تكون متواضعاً وشجاعاً، وعندئذ سوف تهرب نفسك من تأثير الشياطين”(القديس نيلّس الناسك).

         الشجاعة الروحية هي عطية من الله، لكنها تنمو أيضاً بواسطة الإنسان. مثل كل الفضائل، تكون الشجاعة تناغماً بين الإنسان والله. بحسب القديس إيسيخيوس الكاهن توجد أربع فضائل رئيسية تشكل كل الحياة الروحية وهي الحذر، والحكمة، والاستقامة، والشجاعة. مهمة الحذر هي أن يحثّ القدرة الحسية “لكي تنخرط في حرب داخلية وإدانة الذات”. مهمة الحكمة هي أن تدفع القدرة العاقلة نحو اليقظة ومعاينة الله الروحية. مهمة الاستقامة هي توجيه قدرة النفس الراغبة نحو الفضيلة والله. في النهاية، تكون مهمة الشجاعة هي أن تحكم الخمس حواس بحيث لا تتدنس لا ذاتنا الداخلية ولا الخارجية، ولا قلبنا ولا جسدنا. يظهر جهاد الإنسان لكي يحفظ حواسه طاهرة خوفاً من أن يتدنس الجسد والقلب شجاعة روحية، بل أنه حتى ينميها أكثر. بالإضافة إلى ذلك، بحسب إيليا الكاهن، للنفس الشجاعة مصباحان هما العمل، والثايوريا (الفضيلة العملية، ومعاينة الله) وبالتالي توفي بالتزاماتها.

         حتى بعد ارتكاب الخطيئة، على الرغم من أن شجاعتنا قد تكون فشلت في مرحلة مبكرة فسقطنا في الخطيئة، نحتاج الشجاعة الروحية ثانية. ينبغي علينا أن نلجأ لله بالتمام، ونُلهَم بنعمته ومحبته. هذه التوبة هي “ابنة الرجاء والتخلي عن اليأس” بحسب القديس يوحنا السلمي. إنه يكتب قائلاً: “التوبة هي ارتياب دائم في راحة الجسد. التوبة هي فكر إدانة الذات، واعتناء بالذات خالٍ من رعاية الذات. التوبة هي ابنة الرجاء والتخلي عن اليأس. التائب محكوم عليه غير مخزي. هذه التوبة العميقة، التي تنشط بواسطة الروح القدس، هي ابنة الرجاء والتخلي عن الخزي. يشعر التائب بأنه رجل محكوم عليه، لكن بدون خزي. إنه مدان متحرر من الخزي”.

         بعد الخطيئة، تلجأ النفس الشجاعة لله ثانية وتطلب الشفاء. سأل أخ الأنبا بيمن: “لو سقطت في خطيئة يوبخني ضميري ويتهمني قائلاً: لماذا سقطت؟”. فأجاب القديس قائلاً: “في اللحظة التي يضل فيها الشخص، لو قال “أخطأت” تكف الخطيئة في الحال”. من أجل ذلك، بحسب نفس القديس، “إذا كنا شجعاناً يرحمنا الله”.

         الخلاصة هي أنه ينبغي علينا أن نحرر ذواتنا من الاكتفاء بالذات، الذي يبقي علينا في حالة دائمة من المرض والموت الروحي وجهل ذواتنا الحقيقية. ينبغي علينا أن نسأل الله أن يعطينا معرفة بذواتنا، وأن يعلن لنا جراحات نفوسنا. لو شعرنا باليأس بعد هذا الإعلان، ينبغي علينا أن نلجأ لله بشجاعة ونطلب رحمته. سوف تعطينا هذه الشجاعة الروحية القوة لكي نعبر هذا الطريق الصعب المؤدّي إلى اختبار رحمة الله ومحبته.