حول إنجيل الدينونة

 حول إنجيل الدينونة

 

يعطي يسوع في هذا النصّ الإنجيليّ صورة عمّا سيحدث يوم الدينونة الأخير. وكيف سيجلس هو على العرش “ويجمع إليه كلّ الأمم فيميّز بعضهم عن بعض كما يميّز الراعي الخراف من الجداء”. ثلاثة حقائق أساسيّة تخرج من هذا النصّ، وتستحق منا التأمّل بها عميقاً. الأولى هي حقيقة يوم الدينونة، والثانية شمولية ذلك اليوم ومسكونيته، وأخيراً إن المحبّة هي معيار الدينونة. دينونة الله هي مبدأ إنسانـيّ عامّ بحسب الضمير أوّلاً. فإنّ عدالة الله ومحبّته تَعِد بتصحيح الأمور المعوجة في هذه الحياة. وهو سيعوض للمظلوم وسوف يدين كلاً بحسب أعماله.

  الدينونة في المفهوم المسيحيّ ليست عقاباً ينـزله الله بمَن أساءوا إليه، بل إنّها اللحظة التي يُقيم فيها الله العدالة ويكشف عن الأعمال الحقيقيّة التي هي تدين كلّ إنسان. وتترافق تعاليم الكتاب عن هذه الدينونة بلوحات مرعبة وصور مهوّلة، وذلك رغبةً بالتشديد على السهر من جهة وعلى تصوير مقدار العذاب الذي سيلحق بالمهملين.

       شامل هو حكم الربّ يوم يدين “الأمم”، كما يقول الربّ يسوع في النصّ الإنجيليّ الذي سمعناه. لأنّه سيجمع كلّ الأمم وليس أتباع دين دون آخر أو أبناء أمة دون سواها… الله هو أب الناس أجمعين بالرغم من اختلاف ألوانهم وأديانهم، وليس إله سواه. إنّه العادل الوحيد والأخير وهذا لا شك فيه، لكن السؤال هو هل عند الله محاباة للوجوه؟ وكيف سيدين من هم خارج ديننا (الأمم آنذاك أمام سامعي يسوع)؟ ما هو المعيار المشترك يا ترى الذي سيأخذ الربّ به دون أن يظلم أحداً بل ليقيم العدل؟

       لا شيء مشترك في حياة كلّ البشر سوى “المحبّة”! يختلف الناس بالدين، ويختلفون بالأعراق والجغرافيا والظروف والحضارات واللغات… كلّ شيء بين الناس مختلف، الأمر الوحيد المشترك بين كلّ الناس هو إنسانيّتهم أي محبّتهم وعمل الخير. لذلك يوضح يسوع أنّ الدينونة ستقوم على أساس “الأعمال” وليس على اعتبار آخر حتّى ولا الدين! هكذا عندما يفرز الخراف عن الجداء ويفصلهم عن يمينه وعن يساره لا يسأل عن أي معيار غير الأعمال الحقيقيّة، وهذه المحبّة العمليّة. وعلى هذا الأساس فقط يمكن ليوم الدينونة أن يكون شمولياً.

       عندما تكون المحبّة هي معيار الدينونة، هذا يعني الكثير وخاصّة عندما يوحّد الديان ذاتَه بذوي الحاجات، فكل ما فعلتموه بهؤلاء “الصغار” (الضعاف) تكونون قد فعلتموه “بي”! هنا يريد السيّد أن يوضح تماماً ما ردّده يوحنا الحبيب أنّه لا يمكننا أن نحبّ الله الذي لا نراه إذا كنا لا نحبّ القريب الذي نراه. الدين كعلاقة حبّ وعبادة لله لا تقوم مباشرة بين المخلوق والخالق! إنّما يثبت الإنسان محبّته لغير المخلوق حين يعتني بخليقته! إنّ محبتنا العمليّة للقريب هي التي تبني المحبّة مع الله، أو العكس إنّ إهمالنا للقريب هو الذي يحدّد دينونتنا. هذا هو خطر “التقوى” الخارجيّة، حين نكثر من “العبادات” نحو الخالق ونهمل خدمة الناس. هذا هو التدين الهابط.

       تحديد المحبّة معياراً للدينونة يريد به يسوع أن يشدّد على حقيقة، أنّ عدالة الله ترى مسؤوليّة مشتركة بين البشر، وسوف تدين على أساس حياة الشركة وليس حياة الفرد. لا تقبل العدالة الإلهيّة جواباً كـ”هل أنا مسؤول عن أخي؟” نعم أنا مسؤول عن أخي إن كنت أؤمن بوجود الله ويوم الدينونة العادل. عدالة الله سوف تحكم في مدى نجاحنا بهذه المسؤوليّة وليس على أي مقياس آخر.

       تأخذ محبّة القريب طابعاً دينياً وليس اجتماعياً. إن مسؤوليتنا نحو القريب ليست في حيّز “الإحسان” إنّما في صلب “الإيمان” وهي معياره. ليس الدين مسألة فرديّة بين فرد وإلهه. الإيمان المسيحيّ مسألة شركويّة. السؤال يوم الدينونة ليس عمّا فعلنا مع الله، فهذا لا معيار له إلاّ بعض المظاهر! السؤال سيكون ماذا طبّقنا من الدين مع الآخر. هذه الوصيّة الجديدة التي شدّد يسوع أنّه جاء بها ويوصينا أن نحياها ليعرف الناس أنّنا تلاميذه. وهي أن الدين هو وصايا نحو الآخر وما نريده مع الله نبرهنه من خلال القريب.

       الشركة مع الآخر ليست درجة مثاليّة في الدين بل هي جوهره؛ وغيابها لا يعني نقصان فضيلة ما فيه بل يعني تماماً غيابه كليّاً. نعم سَنُدان يوماً، فلنسهر! وسنُدان جميعنا فلا دين ولا عرق ولا أي انتماء إنّما فقط الأعمال! سنُسأل آنذاك حصراً عمّا إذا كنّا قد عملنا من أجل محو وجه الأمم عن وجه الأرض! هكذا نتحضّر للصوم، أوّلاً بالسهر لأن الزمان قصير! وثانياً التركيز على أنّ غاية أيّة ممارسة كما هو الصوم القادم، هي فعل المحبّة أنّنا لا نعبد الله إلا بخدمة أولاده البشر، وأن لا تديّن دون تقدمة ولا دين ليس من أجل الآخر.

 * بتصرف عن موقع أبرشية حلب