من القيل والقال إلى وسائل التواصل الاجتماعي – حكاية نقل الشائعات

من القيل والقال إلى وسائل التواصل الاجتماعي – حكاية نقل الشائعات

الأب فاسيلي تودورا

نقلتها إلى العربية جولي عطية

 

“العقول الكبيرة تناقش الأفكار، والعقول المتوسّطة تناقش الأحداث، أما العقول الصغيرة فتناقش شؤون الناس” – سقراط.

هناك قصّة منتشرة في الأوساط المسيحية واليهودية تتكلّم عن النميمة. لم أستطع إيجاد مصدرها، لكنها كالتالي:

كان هناك امرأة تحبّ أن تتكلّم عن شؤون الآخرين وأن تنشر الكلمات المسيئة. في أحد الأيام، شعرت بالندم وذهبت لتعترف أمام الكاهن. أصغى الكاهن إلى اعترافها وسألها إذا ما فهمت حقًّا نتائج تصرّفاتها، فأبدت تأكيدًا غير مُقنِع. قرأ الكاهن المختِبر ما بين السطور، فأعطاها عمل توبة، وهو عمل صغير قال إنه سيجعلها أكثر وعيًا لخطيئتها. طلب منها التالي: “اذهبي إلى البيت، خذي وسادة من ريش واصعدي إلى أعلى تلّة حول القرية، وهناك شُقّي الوسادة بسكين، ثم عودي إليّ”. وحين فعلت ذلك، هبّت ريحٌ قوية إلى ناحيتها وذهب الريش كلّه مع الريح. أسرعت إلى الكاهن وهي راضية عن نفسها، لتقول له إنّها أتمّت مهمتها. لكنّ الكاهن غير الراضي طلب منها: “الآن عودي إلى هناك واجمعي كلّ الريش، وضعيه مجدّدًا في الوسادة، أعيدي كل ريشة واجلبي لي الوسادة”. صرخت المرأة: “هذا مستحيل، من يعلم أين ذهب الريش؟”. فابتسم الكاهن قائلاً: “حقًا، وهكذا يحصل بالكلمات التي تنشرينها بالنميمة. من يعلم إلى أين ذهبت وأيّ ضرر تسبّبتْ به؟ اذهبي إلى البيت ولا تعودي تثرثري، خوفًا من أن تؤذي الناس من حولك”.

النميمة القديمة الطراز هي ظاهرة اجتماعية ضخمة، اجتاحت مجتمعاتنا قبل عصورٍ من احتلال وسائل التواصل الاجتماعي للمرتبة الأولى في نشر الأقاويل. كان الناس المتحلّقون حول الموقد أو المتواجدون في المقاهي والأسواق، يستمتعون بالحديث عن الناس الآخرين، على مدى قرون. وما زالت النميمة تسليةً مفضّلة، وُضعتْ لها الأنظمة بفضل التكنولوجيا المعاصرة.

لا تسيئوا فهمي. أحبّ ظاهرة الشبكة الاجتماعية، إذ إنها تربط الناس بعضهم ببعض، وتسمح بلمّ شمل الأصدقاء القدامى، وتبقي العائلة على تواصل، وتساعدنا على معرفة ما يحصل بسرعة من أشخاص نثق بهم. ومهمّ أيضًا بالنسبة للبعض أنّها تساعدهم على مشاركة صور القطط. أفهم ذلك، وأستعمل الشبكة من أجل كل هذا. أنا لست منافقًا. لكن أرى أيضًا أنّ هناك مخاطر عظيمة تترافق مع الوسائل التكنولوجية الحديثة، والتي قد تؤذي الناس، حتى ذوي النوايا الأكثر حسنًا.

سأعطيكم مثلين. أنت تنضم إلى مجموعة أرثوذكسية على موقع للتواصل الاجتماعي. وبنيّة صادقة، تنشر شيئًا مثل قولٍ تحبه، أو حدث تتبعه، أو أيّ شيء آخر. ثم يعلّق أحدهم، ويعارض غيره، وينضم أشخاص آخرون. وبالكثير من حسن النيّة، ينتهون بشتم بعضهم البعض. هل هذا عملٌ يعكس الحق والإيمان الأرثوذكسي؟ أشكّ في ذلك. ربما يعكس الترويج للذات، ويبدو أنها كلمة اليوم في أي موقع اجتماعي. وإليكم مثل آخر: أنت شابّ بالغ ولديك أصدقاء كثيرون. تخرج في إحدى الليالي وتلتقط selfie مضحكة لنفسك وتنشرها على الانترنت. يتشاركها صديقٌ آخر وينقلها غيره، وتصبح فجأة في كل مكان. أنت لا تقلق من أجل ذلك لأنّك في النهاية حصلت على صورةٍ “سريعة الانتشار”! لكن بعد سنوات قليلة، تجري مقابلة للحصول على وظيفة في شركة جيّدة، ويبدو كلّ شيء جيّدًا حتى تظهر تلك الصورة المضحكة التي نسيتَ بشأنها، فتجعلهم يفضّلون اختيار شخصٍ آخر ليس لديه صورًا مضحكة كهذه على صفحته. إنّ وسائل التواصل الاجتماعي تملك ذاكرة لا تموت، تمامًا كما يقول مثل قديم: “لا يسكت اللسان الثرثار إلا بكومة من القذارة”.

ويعيدنا هذا إلى موضوعنا، أي النميمة، أو ما نسمّيه اليوم “رائجًا” عن الناس. أهي جيّدة أو سيّئة؟ كل ما يهمّ في النهاية هو أن نكون اجتماعيين، صحيح؟ أنت تنضم إلى مجموعات، افتراضيةvirtual  أو لا، وتتكلّم عن الناس الآخرين. هل يبدو ذلك غير مضرّ؟ نعم هو كذلك، حتى تصبح أنتَ الموضوع، عندها لن يكون الأمر مسلّيًا بعد الآن.

كلّنا اختبرنا أن نكون الطرف الخاسر في النميمة، ونعرف ماذا يمكنها أن تفعل. إذًا لماذا نستمرّ بالثرثرة؟ يقول الناس إنّ ذلك بطبيعتنا، أي أن نكون اجتماعيين نسعى إلى معرفة أخبار الآخرين. نعم، خُلق الإنسان ليتواجد مع الآخرين، لأن ينعكس في الآخر، لأن يكتشف نفسه بمقارنتها بالآخر. الله نفسه ثالوث من أقانيم إلهية تعيش في الشركة مع بعضها، شركة أصيلة تتشارك في كلّ شيء، بينما يبقى كلّ شخص فريدًا ومختلفًا من الناحية الأقنومية. مصدر وجودنا الاجتماعي هو في الله. كلنا خلقنا على صورته ونشابهه عندما يتفاعل أحدنا مع الآخر. مات المسيح على الصليب موحِّدًا الألوهية بالبشرية عاموديًّا، وموحِّدًا البشرية بعضها ببعض أفقيًّا. يبني الصليب جماعة متّحدة في المسيح تتشارك كلّ شيء مع بعضها، لكن تعبّر عن نفسها بتمايز عبر كلّ فرد من أفرادها. لذا، فنحن بُنينا لنتشارك عطايا الله، لنعيش حيوات فردية تجتمع مع بعضها في المسيح، لتبني الكنيسة التي رأسها المسيح ونحن أعضاؤها.

لكنّ النميمة صورة منحرفة عن هذه الجماعة المتشاركة. فجماعة الكنيسة تنمو بتنوّع العطايا، وتجاهد لبلوغ الكمال في المسيح، لكنّها تتفهّم وتحاول أن تُصلح بعناية قصوى أيّ انحراف عن هذا الكمال وهذا الهدف، وهو ما نتعرَّض له كلّنا. نسمّي هذا الانحراف خطيئة، ونعلم أننا كلّنا في النهاية خطأة، ما عدا ربنا يسوع المسيح. تدركُ الكنيسة جيّدًا أنّ الإنجازات الشخصية للإنسان لا تعطيه الحق بأن يدين غيره. على العكس، يجب أن يشجعه هذا على تفهّم أعمق لمن لا يستطيعون سلوك الدرب المستقيم والضيّق أو لا ينوون ذلك. قال القديس سلوان الآثوسي: “إذا لم تشعر بالرأفة تجاه الخاطئ الذي سيعاني في النيران، فأنت لا تحمل نعمة الروح القدس، بل تحمل روحًا شريرًا؛ وبينما ما تزال حيًّا عليكَ أن تحرّر نفسك من هذه البراثن عبر التوبة”. فكِّر بهذا: أأكونُ فرحًا إن ابتهجتُ في الفردوس وأنا أعلم أنّ أحد أفراد عائلتي يعاني في الجحيم؟ ومن هي عائلتي؟ نسمّي بعضنا أخوة وأخوات في المسيح، لكن أنحقق ذلك عندما نهمس خطاياهم من وراء ظهرهم؟

النميمة، في شكلها القديم أو الحديث، هي حرفيًّا قتل الناس، لأنها تدمّر المهن والسمعة والزواج والصداقات، وتهدم كلّ ما يحاول المرء بناءه، ولأيّ هدف؟ لأننا نشعر بالضجر أو الغيرة، أو نرغب بالشعور بالفوقية على أحدهم، أو نريد جذب الانتباه لأنفسنا، أو ربما نريد المُجاراة فقط؟ هناك طرائق أفضل لتشعرَ أنكَ حققتَ إنجازًا من أن تُحقِّر أخاك الذي اقترف خطيئة. عثرتُ مؤخرًا على قول للمتروبوليت أنطوني (بلوم) من سوروز، يلخّص كيف نتصرّف مع شخص قد سَقط: “كلّ واحد منا هو على صورة الله، وكلّ واحد منا هو مثل أيقونة متضرّرة. لكننا إن أُعطينا أيقونة أفسدَها الوقت والظروف أو انتهكَ كرهُ الإنسان قدسيّتها، سنعاملها بتوقير وحنو وانكسار قلب. لن ننتبه إلى كونها تالفة. سنركّز على ما بقي من جمالها لا على ما ضاع منه. وهذا ما يجب أن نتعلّم فعله مع كلّ شخص وكلّ جماعة – وهذا ليس سهلاً دومًا – أكانت رعية أو فئة أو أمة”.

رائع! لقد ذهلتُ عند قراءتي هذا القول لأنه يشمل التفهّم والتواضع والإشفاق والمحبة والاهتمام والاتفاق، أي كلّ ما نريد تحقيقه في المسيح من خلال جهادنا الروحي. ليس العالم سوى ألبوم عملاق من الأيقونات المكسورة، لأننا، ولنواجه الأمر، كلّنا معطوبون. وهذا يختلف كلّيًّا عن صورتنا المثالية التي ننشرها كلّ يوم عبر وسائل التواصل الاجتماعي. صورة العالم الحقيقية هي في الواقع فايسبوك معطوب، شبكة اجتماعية مقلوبة، حيث كل ما يُنشر صحيح وصادق ويحتاج إلى الإصلاح والشفاء من خلال الآخر. نتشارك الألم ونضاعف الربح فقط مع بعضنا، لا عبر عزل أنفسنا من خلال التنميط stereotyping والإدانة، بل بالتوحّد بعضنا مع بعض في آلام النمو في المسيح. نعم، علينا أن نكون اجتماعيين، لكن من النوع الاجتماعي الذي يوحّدنا في شبكة، منسوجة بإحكام، من الثقة والتفهّم والشفقة، وليس من النوع الذي يستغل الآخر ليروّج لنفسه. لنتشاركْ كلمات الشفاء، ليشجِّعْ أحدنا الآخر بتواضع على العمل الجيّد الذي نحاول إتمامه، ليحمِلْ أحدنا الآخر، لنبني معًا بيت الرب، الكنيسة الواحدة. هل نحتاج لتطبيق app كي نفعل ذلك؟