القوانين الكنسية وشفاء النفوس

القوانين الكنسية وشفاء النفوس

الميتروبوليت ييروثيوس فلاخوس

1- المجمع المسكوني الخامسالسادس

لقد انعقد المجمع المسكوني الخامس في سنة 553 ميلادية بأمر من الإمبراطور يوستينيانوس الثاني بهدف التعامل مع مسائل استجدت بعد المجمع المسكوني الرابع. لقد تناول المجمع المسكوني الرابع على وجه الخصوص المونوفيسية والنسطورية، وأقر عقيدة أن الطبيعتين، الإلهية والإنسانية، كانتا متحدتين في شخص المسيح بغير اختلاط ولا امتزاج ولاتغيير. وعلى أية حال، ظهرت بعد المجمع المسكوني الرابع ثلاث وثائق عُرِفت بالثلاثة فصول كُتبت بواسطة ثلاثة أساقفة: ثيودوروس الموبسوستي، وثيودوريطس القورشي، وإيبا الرهاوي. شجب المجمع المسكوني الخامس هذه الفصول الثلاثة، ومع ذلك لم يصدر أية قوانين.

أما المجمع المسكوني السادس فانعقد سنة 681 ميلادية في القسطنطينية من جديد بأمر الإمبراطور قسطنطين الرابع، وتعامل مع هرطقة المونوثيلية (المشيئة الواحدة) التي أكدت على أنه في المسيح لا يوجد مشيئتان، مشيئة إنسانية ومشيئة إلهية، ولكن مشيئة واحدة. لقد أعلن المجمع المسكوني أن المسيح كان ذا قوتين طبيعيتين ومشيئتين طبيعيتين، وهما لم يكونا ضد بعضهما البعض، ولكن المشيئة الإنسانية كانت خاضعة للمشيئة الإلهية ولم تكن تقاومها ولا تناقضها. ومثله مثل المجمع السابق لم يقم هذا المجمع بإصدار أية قوانين.

من الجدير بالذكر أن قرارات المجامع المسكونية الخاصة بالمسائل الإيمانية عن المسيح، والروح القدس، والآب (أي عن الثالوث القدوس)، والكنيسة تسمى عقائد. على حين أن قرارات المجامع المسكونية الخاصة بالمسائل الإدارية والرعائية المرتبطة بالكنائس المحلية وبالكنيسة الأرثوذكسية بوجه عام تسمى قوانين.

حيث أن المجمع المسكوني الخامس والمجمع المسكوني السادس لم يصدرا أية قوانين خاصة بالمسائل الإدارية في الكنيسة ولا بالإرشاد الرعائي للمسيحيين، انعقد ما يسمى المجمع المسكوني الخامسالسادسفي القسطنطينية سنة 692ميلادية بأمر الإمبراطور يوستينيانوس الثاني. لا يُنظر لهذا المجمع على أنه مجمع مسكوني جديد، ولكن كامتداد للمجمعين المسكونيين الخامس والسادس. وحيث أن هذا المجمع انعقد في قاعة القصر الرئيسية والتي كان لها قبة، سمي أيضاً مجمع ترولوأو ترللو” (نسبة إلى كلمة ترولوس باليونانية والتي تعني قبة).

لقد أصدر المجمع المسكوني الخامسالسادس في ترولو مئة واثنين قانوناً بخصوص مسائل الكنيسة الإدارية والإرشاد الرعائي للمسيحيين. فقانونه الأول أكد على كل قوانين المجامع المسكونية السابقة، وأما القانون الثاني فأكد على قوانين الآباء الرسل وقوانين المجامع المحلية وقرارات الآباء القانونية.

القانون الأخير (قانون رقم 102) قاطع. ففي حين أن القوانين السابقة ترسخ العديد من المسائل الكنسية، والإدارية، والرعائية الخاصة بوحدة الكنيسة وسقطات وخطايا المسيحيين، إلا أن القانون الأخير يحدد رسالة الشفاء التي يجب ممارستها. إنه يشير إلى طريقة التعامل مع العديد من المشاكل في الحياة الكنسية. هكذا يشكل هذا القانون الأساس لكل القوانين الأخرى، ما يجعله قانوناً ذا أهمية كبرى.

2- نص القانون رقم 102

يجدر بالذين تلقوا من الله سلطان الحل والربط أن ينظروا إلى نوع الخطيئة وإلى استعداد الخاطئ للرجوع وأن يستعملوا ادواء النافع لكل مرض لئلا يؤدّي عدم مراعاة الاعتدال في كل حالة إلى الخيبة في شفاء الإنسان المريض وإعداده لقبول الخلاص. إن أمراض الخطيئة مستعصية ومتعددة الأنواع ينشأ عنهامضاعفات مختلفة مؤذية وخبيثة في كثرة ما يتفرّع عنها من الشرور. وهي تمتد وتزيد استعصاءً حتى يعسر على الطبيب الخبير أن يضع لها حداً. ولذلك فعلى كل مَن يتعاطى وظيفة الطبيب الروحي أن يأخذ بعين الاعتبار استعداد الواقع في الخطيئة وموقفه وأن يتحقق من مقدار قبوله للشفاء أو إذا كان سلوكه الشخصي قد أدّى إلى استيلاء الداء على نفسه، وعليه أن يدرس الخطط التي تساعده على العناية بتجرد سيرته أثناء المعالجة. وكذلك يجب عليه أن يفحص لعل الخاطئ يقاوم معالجة الطبيب فتؤدي العلاجات إلى تمكن العلة واتساع القرحة في النفس. فينظر إليه بالرحمة ويستعمل الأدوية بالحكمة وبمقدار لأن الذي سُلّمت إليه سلطة الرعاية ليردّ الخراف الضالة ويشفي التي لسعتها الحية سيقدّم الحساب كله لله، إذ عليه أن يقود الخراف فلا تتدهور في مهاوي اليأس ولا يرخي لها العنان فتنطلق إلى سبل الإباحة والاستهتار. فهو يستعمل هذه الطريقة أو تلك آناً بالصرامة وأحياناً باللين والعلاجات اللطيفة. فيحول بالحكمة دون أن يصير المرض عقاماً والقرحة غير قابلة الشفاء، فاحصاً دوماً ثمار توبة الخاطئ وبحسن الدراية يقوده إلى الاستنارة العلوية. ويجب أن نختبر الحالين وندرس الخطتين معاً، أي ما يحتاج إلى الشدة والصرامة وما تقضي به العادة وأن نتبع الخطة التقليدية في أمر الذين لم يصلوا بعد لما هو أسمى كما يعلّمنا القديس باسيليوس (“مجموعة الشرع الكنسيمنشورات النور 1985، ص. 610-611)

3- تحليل القانون رقم 102

إن قراءة نص القانون لا تدع مجالاً لأي تفسير أو تأويل آخر، ولكنها تظهر الخاصية العلاجية للقوانين المقدسة ورسالة الكنيسة الرعائية الممتدة. إلا أننا سنتناول بضع عبارات من القانون تحت عناوين متعددة لكي نتمكن من الدخول بصورة أعمق إلى روحالقانون ورسالة الشفاء الرعائية التي يمارسها الإكليروس.

الإكليروس الذين يستعملون القوانين

يستعمل الأساقفة القوانين من أجل وحدة الكنيسة، ويستعملها الكهنة من أجل تعافي أعضاء الكنيسة المرضى بسماح من الأساقفة. العبارات التالية هي عبارات معبرة: “أولئك الذين تلقوا من الله سلطان الحل والربط….”، الذين ائتـُمنوا على السلطان الرسولي…”، المعالج…من الواضح من هذه العبارات أن الأساقفة هم خلفاء الرسل القديسين ولهم سلطان غفران الخطايا، ولكن هذا السلطان مرتبط بالرسالة الرعائية. هذا هو السبب الذي يعطيهم صفة المعالجين.

الخطيئة

لا تُفهَم الخطيئة في التقليد الأرثوذكسي على أنها مجرد تعدٍ أو عصيان، ولكن على أنها مرض. بالطبع عصى آدم وحواء وصية الله في الجنة وأخطئا، إلا أن هذا كان له نتائج روحية على كل الجنس البشري أيضاً. من أجل ذلك يقول بولس الرسول: “الجميع أخطأوا وأعوزهم مجد الله“(رو23:3). بانفصال الإنسان عن الله حُرِم من رؤية مجد الله ونوره، وهذا مرض روحي.

بحسب القانون المقدس الذي ندرسه، تُرى الخطية على أنها مرض، وجرح في النفس، واضطراب“. ويوصف الخاطئ على أنه شخص مريض“. تُستَعمَل هنا المصطلحات الطبية.

يشتمل القانون على عبارة معبرة جداً: ” لأن مرض الخطية ليس بسيطاً، ولكنه متنوع ومتعدد ومنه تنبت العديد من الفروع الضارة التي منها ينتشر الشر ويتمدد“.

الشفاء

حقيقة اعتبار الخطية مرضاً تعني أن الشفاء مطلوب. يتأتى ذلك بواسطة المعالج الروحي من خلال استعمال القوانين المقدسة ومن خلال مجمَل حياة الكنيسة.

إننا نجد العبارات التالية في القانون المقدس: ” وأن يعطوا العلاج المناسب للمرض، أن يرى إن كان يميل للصحة“. تٌظهر هاتان العبارتان أن الرسالة الرعائية مرتبطة بشفاء الناس ومتوحدة معها.

الهدف من الشفاء

لا يهدف المنهج الكنيسة العلاجي بجملته إلى مجرد جعل الناس في اتزان أخلاقي واجتماعي، ولكن إلى استعادة علاقتهم بالله وببعضهم البعض. يتأتى ذلك من خلال تعافي جراح النفس وشفاء الأهواء. العبارات التالية مميزة: “.. إلى أن يتم كبحه بسلطان المعالج، هو عودة الخروف الضال وشفاؤه إن كان قد جُرِح من قِبـَل الحية، أن يقاوم هذا المرض وأن يجاهد لكي يشفي الجرح“.

تستعمل كل هذه العبارات مصطلحات وصياغات طبية. هدف العلاج هو خلاص الإنسان واشتراكه في مجد الله. يتضح هذا من العبارات التالية: ” لئلا يفشلوا من جهة خلاص الشخص المريض، فيقود بحكمة الإنسان المدعو للمجد السماوي “. فالناس مدعوونللمجد السماوي“.

الفحص والتشخيص

لكي يتمكن الطبيب المعتني بالجسد من علاج شخص مريض ينبغي عليه أن يفحص المريض جيداً ويشخّص مرضه حسناً، هكذا ينبغي أيضاً على الطبيب الروحي أن يفعل الشيء نفسه. فالتشخيص الصحيح ضروري لكي يتأتى الشفاء الروحي، مما يعني أنه ينبغي على الأب الروحي أن يفحص بعناية نوعية الخطيئة وإرادة التوبة لدى الخاطئ.

أن يراعوا نوعية الخطيئة واستعداد الخاطئ للتوبة، ولذلك فعلى كل مَن يتعاطى وظيفة الطبيب الروحي أن يأخذ بعين الاعتبار استعداد الواقع في الخطيئة وموقفه وأن يتحقق من مقدار قبوله للشفاء أو إذا كان سلوكه الشخصي قد أدّى إلى استيلاء الداء على نفسه، فاحصاً دوماً ثمار توبة الخاطئ

طريقة الشفاء

ينبغي على الطبيب الروحي أن يتبع الطريقة التي يستعملها الأطباء المعالجون للجسد طالما أن الشفاء يُدعَى الطب الروحي لأنه يتأتى بواسطة الروح القدس. فالطريقة المناسبة لكل حالة طريقة علمية. “على الذي يمارس علم الطب الروحي“. يحتاج كل شخص لطريقة الشفاء الأنسب، لأن العلاج غير الملائم (الزائد) قد يكون ضاراً. ” وأن يعطوا العلاج المناسب للمرض، لئلا يفشلوا من جهة خلاص الشخص المريض إذا استعملوا طرقاً غير مناسبة للحالة“. يتطلب الشفاء الروحي أدوية روحية أيضاً، والتي ينبغي أن تُعطَى بالطريقة الملائمة وبمقياس اللطف المناسب.

وإن كان جرح النفس يتفاقم باستعمال الأدوية الموضوعة عليه. من ثم فليمنح الأب الروحي الرحمة بحسب ما هو مناسب“. مثلما يستعمل الطبيب المعالج للجسد أنواعاً عديدة من الأدوية سواء كانت مرة أم معتدلة، هكذا يفعل أيضاً الطبيب الروحي الحاذق. فهو يعطي العقاقير المناسبة لشفاء كل شخص، لأنه لو أعطى نفس الأدوية للجميع فإنه يتسبب في الأذى.

لكن ينبغي عليه، بطريقة أو بأخرى، سواء باستعمال الأدوية الأكثر شدة وصرامة أو الأدوية الملطفة والأقل حدة، أن يقاوم هذا المرض وأن يجاهد لكي يشفي الجرح“.

إنه أمر مهم بالنسبة للشخص المريض روحياً والذي هو تحت إرشاد طبيبه الروحي ألا يسقط في اليأس أو ينتهي به المطاف في حالة من العصيان. ” ولا ينبغي عليه أبداً أن يلقيه في هوة اليأس، ولا أن يرخي العنان كثيراً حتى يبدأ في العيش في انحلال وعصيان“.

يحتاج كل شخص مريض روحياً إلى طريقة خاصة، بالإضافة للطريقة العامة المرتبطة بأسرار كنيستنا ونسكها. وبصورة رئيسية تُستعمَل الصرامة أحياناً، وفي أحيان أخرى الليونة. تشتمل العبارات المعبرة على: “ينبغي علينا أن نعرف الطريقتين، ما يلائم الصرامة وما يلائم العُرف“.

يذكرنا هذا القانون بكلمات القديس باسيليوس الكبير أنه ينبغي استعمال الليونة مع أولئك الذين لا يقبلون الصرامة.

وأن نتبع العُرف في حالة أولئك الذين لم يقبلوا التفسير الأسمى في الصورة التي أُعطي بها“.

من الواضح أنه لو لم يمارس المرء العمل الرعائي بصورة جيدة فإنه يتسبب بالضرر. “على العكس يجعل المرض أردأ بواسطة سلوكه الخاص“.

من الواضح بشكل مطلق أن روحهذا القانون، الذي هو أساس كل القوانين المقدسة، هو أولاً وقبل كل شيء علاجي. فالأسقف أو الكاهن هو طبيب روحي يشفي أمراض الناس بنعمة الروح القدس، ويقودهم للمجد السماوي بواسطة التوبة. إن الأبوة الروحية هي علم روحي كامل.