اﻷب جورج فلوروفسكي كمثال للمسكوني الأرثوذكسي

اﻷب جورج فلوروفسكي كمثال للمسكوني الأرثوذكسي

الأب أنطوان ملكي

يجمع الدارسون على أنّ فلوروفسكي هو مهندس المسكونية الأرثوذكسية في القرن العشرين. وبحسب تعبير ماثيو بيكر فإن فلوروفسكي جمع بين الشهامة نحو غير الأرثوذكسيين والالتزام الراسخ بالأرثوذكسية الآبائية، مظهراً الشجاعة لتحدي أيّ محاور، سواء كان رئيساً أرثوذكسياً أو الأمين العام لمجلس الكنائس العالمي. لقد حافظ فلوروفسكي على التزامات مسكونية ثابتة لكنّه حذّر من أيّ مسعى مسكوني من شأنه أن يرسّخ التبسيط العقائدي أو يمنح امتيازاً للعمل المشترك على حساب المواجهة اللاهوتية.

انخرط فلوروفسكي في العمل المسكوني منذ 1926 عن طريق برداييف في باريس، حيث كان يجتمع أسبوعياً مع كبار المفكرين الكاثوليك والبروتستانت. من ثمّ انضم إلى جماعة القديسين ألبان وسرجيوس[1]. لقد قدّم أوائل مقالاته اللاهوتية في هذه الأطر. سيم كاهناً في 1932 ومن ثمّ أمضى قسماً كبيراً من السنوات العشر التالية في بريطانيا محاضراً حيث لاقى حماساً كبيراً.

توسّعت هذه النشاطات مع مؤتمر الإيمان والنظام في آدينبرغ [2] حيث انتُخِب فلوروفسكي ممثلاً للأرثوذكس في لجنة الأربعينالتي كُلِّفَت كتابة مسوّدة نظام مجلس الكنائس العالمي. في اجتماع أمستردام سنة 1948، لعب فلوروفسكي دوراً رئيسياً، أدّى إلى تعيينه في اللجنة المركزية وانتخابه في اللجنة التنفيذية لمجلس الكناس العالمي، حيث خدم إلى سنة 1961. لقد بقي الأب فلوروفسكي مبدئياً وجريئاً في الاجتماعات المسكونية لغاية عقده الأخير. آخر عمل له كان اجتماع لوفان (Louvain) في 1971.

لقد كان لمسكونية فلوروفسكي جذور عميقة في فلسفته التاريخية. تجنّب فلوروفسكي التجريبية الصرفة والمأسسة المباشرة التي ينادي بها المثاليون، بهذا شدد ليس فقط على الشكل المفسَّر للحقائق، بل أيضاً على الطابع الاصطناعي للتصنيفات التي بحسبها تُفسّر الخبرة. يعتبر فلوروفسكي أن الشخص الفاعل يخضع للتاريخ رافضاً أن يمنح أي صفة شخصية للعِرق أو الأمة أو الحضارة. “الكلّالتاريخي هو رابطة دائمة التبدّل من الأشخاص المتفاعلين. التعاضد الحقيقي موجود في المسيح الذي فيه وحده الحرية تحتلّ نفس مكانة الفرادة العضوية، وهذه هي وحدة أخروية تتخطّى الحقائق الطبيعية وتُبنى تاريخياً بالإيمان والأسرار. لهذا، شدّد في منتصف عشرينيات القرن العشرين على أن الإيمان بالمسيح ما يزال يجمع الشرق والغرب المسيحيَين في إطار تشديده على خطورة الانشقاق وتصارع عقائد الخلاص.

هذه النظرة جعلت فلوروفسكي معارضاً شرساً لكل محاولات تفسير الانقسام بين المسيحيين بالإشارة إلى نماذج نفسية – ثقافية، سواء لتضخيم الانقسامات أو التقليل من أهميتها. فقد رفض كلّ الأفكار القائلة بتعذر تلافي الانقسامات ومعها الميل بالعودة إلى طرح صِلات مهمة بين الأحداث. فالجماعات المسيحية مكوّنة من أشخاص أحرار لذا لا ينبغي الاعتقاد بأن تاريخ العقائد يتبع أنماطاً منطقية كالاستدلال أو التطور العضوي. وعلى هذا الضوء بالتحديد، لا يمكننا التصرف وكأن الأحداث لم تقع بالرغم من أنه كان ممكناً تلافيها أو تخطيها، فالصراعات التاريخية ولّدَت في وقت لاحق عقائد كانت حاسمة في تقاليد محددة. في النهاية، كان لفلوروفسكي منظور تاريخي متغيّر لكنه قد يكشف توافقاً مقبولاً بشكل أوسع.

يرى فلوروفسكي أنّ المشكلة هي أن الانشقاق هو ظاهرة تناقض: الكنيسة واحدة أما العالم المسيحي فمقسوم. الإيمان بيسوع المسيح كإله ومخلّص يخلق رباطاً وجودياً مع أن الانقسامات ليست أقلّ وجودية، مشيراً إلى الافتراقات ليس فقط في المحبة ودستور الإيمان بل أيضاً في اختبار هذا الإيمان. في عبارة الإخوة المنقسمينيأخذ النعت الوزن نفسه الذي يأخذه الإسم. إن المسكونية الحقيقية تتطلّب لاهوتاً غير عادي.

يظهر التناقض الذي يراه فلوروفسكي في التمييز بين حدود الكنيسة القانونية والمواهبية. في مقال نشره في 1933 عنوانه حدود الكنيسة، رفض الميل لدى بعض الأرثوذكس نحو الإفراط في الصرامة والذي يؤدّي إلى إنكار بشكل قاطع وجود الأسرار خارج الحدود الشرعية. فقد اعتبر أن التدبير المتعلّق بتقبّل غير الأرثوذكسيين في الكنيسة رأياً لاهوتياً مشكوكاً فيه وليس تعليماً كنسياً. فيما يلجأ غالبية الشرقيين إلى القوانين وحسب، يدعو فلوروفسكي إلى مقاربة الموضوع على ضوء اللاهوت بشكل صحيح، ويوجّه اللاهوتيين الأرثوذكسيين إلى تبنّي لاهوت أوغسطين حول انشقاق الأسرار [3]. فالحدود القانونية لا يمكن إهمالها ما يعني أن الشركة في المناولة من دون شركة الإيمان مستحيلة. مع هذا، فالمشكلة المسكونية الأولى لدى فلوروفسكي تكمن في روما. على عكس لوسكي، يرى فلوروفسكي مسألة انبثاق الروح القدس (الفيليوكفيه) على أنها محض قانونية ويرفض محاولة إظهار أن البابوية تنبثق من الفيليوكفيه معتبراً هذا الاستنتاج غير ثابت تاريخياً. فبالنسبة له إن توليف النظرة اللاهوتية للثالوث لدى الكابادوكيين وأوغسطين غير مستحيل وأن الحاجز الأساسي هو ادّعاءات البابوية التي تعكس عقيدة خاطئة عن الكنيسة. ومع هذا فإن فلوروفسكي واضح في اعتباره أن روح الله ما يزال يتنفس في الكثلكة بينما يميّز في الإصلاح الفراق مع الكهنوت ونظام الكنيسة التاريخي.

فيما دفع فلوروفسكي الحوار المسكوني نحو الإكليسيولوجيا، أكّد أن الانقسامات القائمة تمتد إلى مجمل الإيمان بما فيه عقيدة الله والمسيح ومريم والإنسان وما يعني ذلك من فهم للتاريخ. لاحظ فلوروفسكي تاريخية مفرطة في الوعي التاريخي لدى الكاثوليك، وكأنّ صعود السيّد كان علامة خروجه من التاريخ وترك الساحة لنائبه ليحكم. على العكس لاحظ فلوروفسكي في البروتستانتية أخروية مفرطة فيها اختزال للتاريخ حيث يُعطى الجهاد الإنساني قيمة أدنى وتصير الأسرار رموزاً من العهد القديم وبالنتيجة لا يتمّ الاعتراف بالرؤية التاريخية للكنيسة. الطلاق الذي أقامه الإصلاح بين أورشليم وأثينا هو ابتعاد آخر أشار إليه فلوروفسكي في إطار دعوته للعودة إلى الرومية المسيحية التي تبنّاها آباء الكنيسة شرقاً وغرباً حيث يعطون الماورائيات المسيحية مكانها الصحيح بدلاً من ربط المعرفة بالإيمان بشكل مطلق على غرار ما قام به اللاهوتيون الجداليون.

اعتبر فلوروفسكي أن إنعاش اللاهوت الآبائي واسترجاعه هو أمر حاسم. من هنا يُفهَم انتقاده منذ 1937 للروس في تغرّبهم عن مصادرهم الليتورجية وقطع وثاقهم عن جذورهم في اللاهوت الآبائي كما لتبنّيهم روحية التقليد المذلّللغرب ما يجعل المواجهة المسكونية مستحيلة. البديل عند فلوروفسكي لم يكن الانعزال بل اللقاء الحرّمع الغرب، لقاءً يقوم على ما تمّ استعادته من الأرضية المشتركة على أساس اللاهوت الآبائي والمجمعي التقليدي، الذي تدّعي الأرثوذكسية الحفاظ عليه. إن هذه الرؤية تضمّ مفهومه للتحليل الآبائي الجديد والمسكونية الآنيةEcumenism in time” التي شدد عليها.

تبحث المسكونية الآنية الماضي المشترك في التقليد الرسولي سعياً إلى استعادة الفكر المشتَرَك“. من أهمّ لحظات الفرح عند فلوروفسكي كانت قرار لاند Lund في 1952 بسحب الأسلوب اللاهوتي المقارَن الطائفي لصالح مقاربة أكثر تاريخية. هدف فلوروفسكي كان عودةً مسكونيةً إلى الإيمان الكامل والترتيب الرسولي في كنيسة المجامع المسكونية السبعة الجامعة الرسولية بما ينتِج الوحدة المنشودة. لا ينبغي أن تُفهَم هذه الوحدة بشكل أخروي وحَسب، لأنها موجودة كحقيقة تاريخية مستمرّة. الأرثوذكس ملزَمون بالاعتراف بقناعتهم بأن الكنيسة حفظت الإيمان الرسول بشكل كامل. بيان أوبرلين (1957) الذي كتبه فلوروفسكي يفصّل هذه النقاط. جدير بالذكر أن هذا البيان ما يزال أفضل تعابير فهم الذات الإكليسيولوجي عند الأرثوذكس في الحركة المسكونية.

هدف هذا البحث هو تسليط الضوء على مثال بات العالم اﻷرثوذكسي يفتقده. فالحركة المسكونية اليوم، وتحديداً مجلس الكنائس العالمي، انحرفت كثيراً عن ما خطط لها مؤسسوها ومنهم الأب جورج فلوروفسكي. لقد بات ممثلو الأرثوذكسية في الحوار المسكوني مسكونيين أكثر منهم أرثوذكسيين. لم يعد الحضور الأرثوذكسي في مجلس الكنائس وغيره من المحافل المسكونية يحمل أيّ شهادة، بالتالي لا يحمل أيّ تأثير. من هنا ضرورة العودة إلى المثال الأول حيث الحضور يعني الشهادة، وهذا ما يستدعي إيجاد قنوات حوار جديدة غير المجالس التي انحرفت وهي تجرف أعضاءها معها.

مراجع

Matthew Baker. Neopatristic Synthesis and Ecumenism: Towards the “Reintegration” of Christian Tradition. http://www.fellowshipofstmaximos.org/wp-content/uploads/2014/07/ Baker_FINALVer___16_VI_12.docx3-libre.pdf

Matthew Baker and Nikolaos Asproulis, ‘Secondary Bibliography of Scholarly Literature and Conferences on Florovsky’, in ΘΕΟΛΟΓΙΑ: The Journal of the Holy Synod of the Church of Greece, 81/40, Vol. 4 (2010), pp. 557–396.

[1] تأسست جمعية القديسين ألبان وسرجيوس سنة 1928 لتشجيع التلاقي بين المسيحيين، خاصة الأنكليكان والأرثوذكس. أخذت اسمها من القديسي ألبان أول شهد اء بريطانيا والقديس سرجيوس رادونيج شفيع روسيا. حالياً مركزها أوكسفورد في بريطانيا ولها فروع في بلغاريا والدانمارك واليونان ورومانيا وروسيا والسويد. تصدر Sobornost وهي دورية مهمّة كما تنظّم مؤتمراً سنوياً حول شؤون تهمّ المسيحيين.

[2] انعقد مؤتمر اﻹيمان والنظام في أدينبرغ بين 3 و18 آب 1937، أهدافه العمل على إعلان وحدة كنيسة يسوع المسيح ومخاطبة الكنائس للعمل نحو الوحدة المنظورة في الإيمان والإفخارستيا المعبّر عنها في العبادة والحياة المشتركة في المسيح”.

[3] يقوم ﻻهوت أوغسطين اﻷسراري على التمييز بين قانونيتها وفاعليتها. ما أراد فلوروفسكي تطبيقه هو هذا الفصل بين قانونية الأسرار في الغرب والتي يعترف بها الشرق ولكن فاعليتهاهي الناقصة بفعل الانشقاق وابتعاد الغرب عن الخبرة اﻷصيلة التي حفظها الشرق.