قلة اﻹيمان وتدبير الله

قلة اﻹيمان وتدبير الله

القديس يوحنا (مكسيموفيتش) أسقف توبولوسك

إن أياً من محاولاتنا الشخصية وجهودنا لا يمكنه أن ينقذنا من دون معونة الله، ولا يمكن للمعونة اﻹلهية أن تكون مفيدة لنا من دون رغبتنا بها. ما من موضوع استحضره الرب لتلاميذه بكثافة كما موضوع عدم الإيمان. لقد حذر الجميع من عدم الإيمان ليس فقط بكلماته، ولكن أيضاً في العديد من الأحداث التي أثبتت بشكل مثير للدهشة قوة الإيمان وعجز قلة الثقة أو الشك في حماية الله والخلاص.

تأتي قلّة الإيمان في أشكال مختلفة: بعض الناس لديهم ثقة ضعيفة في الله لأنه لا يعذب أعداءه. آخرون يشكّون في أنهم يستطيعون توسل الله ليمنحهم رغباتهم، وخصوصاً عندما تؤنبهم ضمائرهم بفكرة أن الله لن يغفر لهم خطاياهم. لا يزال يخشى آخرون أن الله سوف يحرمهم من كل السلع الدنيوية ومن المعيشة. هذا الظهور الثلاثي اﻷوجه لعدم الإيمان يغرّب الكثير من الناس عن الله ويغرقهم في أشكال مختلفة من الهلاك. مصدر قلّة إيماننا هو الغرور المفرط، أي عندما نرى أنفسنا أهمّ من الله، ونعتمد أكثر على قوانا الخاصة من اتكالنا على معونة الله.

... بقدر ما يزداد إيماننا ورجاؤنا بالله، يزداد رحمته وإحسانه علينا. ولكن ويل لنا، لأن الذين يؤمنون بالله من كل قلوبهم بيننا قليلون جداً!

إذا حلّلنا عادات الناس وأعرافهم، فسوف نرى أنّ في كل الأماكن وفي كل الأوقات يبرز عدم الإيمان على نطاق واسع، مما يثير مخاوف فارغة وكاذبة. غالباً ما يخشى الناس من نقص في المواد الغذائية. وفي بعض الأحيان يخشون من الافتقار إلى المواد الضرورية أثناء المرض. وفي أحيان أخرى يقعون في اليأس بسبب تزايد الشائعات عن الحرب. كل هذا يحدث لأن فهمهم لصلاح الله وقوته القاهرة خاطئ ومشكوك فيه: وهذا هو أيضاً سبب قلق عقلنا الضعيف والمحزن على الأشياء الزائلة، بدلاً من الحرص على تحقيق الحياة الأبدية المباركة.

يتجلى تدبير الله بأكبر قدر من الحكمة: هو ﻻ يعاقب المعصية على الفور. ومع ذلك، لا يتركها من دون عقاب أبداً. إذا لم يعاقب الله اللؤم، فإن العديد من الناس يعتقدون أن ليس من عناية إلهية. من ناحية أخرى، إذا كان العقاب يتبع المخالفة على الفور، فسوف يعتقد البعض أن ما من مكافأة ولا عقاب بعد الموت. لذلك، الله، بمعاقبته بعض الناس، يكشف عنايته. بعدم معاقبته للآخرين مباشرةً بعد معاصيهم، هو يهددهم بالعقاب مباشرة بعد الموت، في الحياة القادمة، إن لم يتوبوا في هذه الحياة. الله يتمّم كل شيء بحكمة عظيمة وتدبّر.

على نفس المنوال، كل المظاهر المتناقضة التي نصادفها في حياتنا موجّهة بحكمة العناية الإلهية. كلّ المصائب الدنيوية يحوّلها الله إلى فائدة ومكسب بالنسبة لنا. حتّى التجاوزات الخاطئة يسامحنا عليها لكي يعيدنا إلى رشدنا، ويحقّق خلاصنا من خلال التوبة. إن فعل الصلاح وتحمّل البشاعة هو سمة حصرية من سمات العناية الإلهية، لأن الله ما كان ترك الشر لو لم يكن كان هو قوياً وصالحاً لينتج ظروف جيدة من السيئات.

 إن عناية الله مخفية عنّا لا نسبر غورها، ولكنها تضمّ أمراً شاملاً لحكم العالم بعقلانية وعدل. نحن بالعادة نحترم جداً النظام الخارجي للأحداث العالمية والخاصة؛ ومع ذلك، فإن العناية الإلهية الرائعة والحكيمة، التي تنشّط الآلية الكونية، وتحافظ على نشاطها وتوجّهها، هي مخفية عنا، ونحن لا يمكننا أن نراها. إن هذا هو السبب في أن الكثير من الناس، إذ يرون تناقضاً من جهة نظر الإنسان في رفاه الأشخاص السيئين ومِحَن الصالحين، يؤكدون أن عناية الله غير موجودة، و أن كل شيء يحدث من خلال إرادة الإنسان وعقله، أو عن طريق حظ أعمى أو مصيبة.

ومع ذلك، إن الذين يؤمنون بحكمة الله العظيمة وبعنايته، التي توجّه كل شيء للخير، ينظرون إلى كل هذه الأمور ويفهمونها بشكل مختلف تماماً. عندما نرى كيف أن الناس الذين يخافون الله هم في كثير من الأحيان أذلاء ومهانون، في حين يزهو الأوغاد الشائنون، نعتقد أن العناية الإلهية تغطّ في النوم، وهذا لأننا نبحث عن وجه واحد فقط من عناية الله، في حين يكون الوجه الآخر من مخفياً عنّا بسبب ضيق نظرناالعاجز عن التمدّد نفسها ليشمل كامل فكر الله. فقط في مجيء المسيح الثاني سوف نعرف حكم الله العادل على كلّ شخص وكلّ شيء.

يكمن خطؤنا الثابت في حقيقة أننا لا نعالج الساعة الحالية العابرة من حياتنا على محمل الجد، فنعيش إمّا في الماضي أو في المستقبل، وﻻ نلبث نتوقع وصول ساعة فريدة من نوعها، عندما تتكشف حياتنا بكل معناها، ولا نلاحظ أن حياتنا تنزلق بعيداً كالماء بين الأصابع، كمثل مكسب ثمين في كيس مربوط يشكل سيئ.

الله يرسل لنا باستمرار، يوميا وكل ساعة، أناساً وظروفاً وشؤوناً لكي يبدأ تجديدنا منها، بينما نحن نهملها، وبالتالي نستمرّ بمقاومة إرادة الله لنا. في الواقع، كيف يمكن أن يساعدنا الله؟ بإرساله لنا بعض الناس وبعض الملتقيات من ظروف حياتنا اليومية. إن استطعنا أن نقبل كل ساعة من حياتنا على أنها من إرادة الله لنا، وأنها أكثر الساعات حسماً في حياتنا –فكمّ من مصادر الفرح والمحبة والقوة سيتم كشفها داخل نفوسنا!