صراع العبادة بين رَبّين

صراع العبادة بين رَبّين

حول متى 22:6-33

اﻷب أنطوان ملكي

يأتي هذا المقطع اﻹنجيلي بعد أن علّم السيّد عن الصلاة الربيّة وبعد أن تكلّم عن الكنز السماوي، فيكلّمنا هنا عن العين البسيطة. والعين البسيطة هي التي تبحث فقط عن الله ومجده. بينما العين غير البسيطة، فإن طلبت الله يوماً تطلب العالم أياماً، ولا تشبع من العالم بكل ملذاته. العين البسيطة الغير طامعة في أمجاد العالم وملذاته، الراضية بما هي فيه، لا تهتم إلاّ بعشرتها مع الله، لا تبحث إلاّ عن مجده. هذا الكلام ليس نظرياً، ﻷن سراج الجسد هو العين. السراج هو المرشد في السير والعمل. والعين فهي أكثر ما يؤثّر على انتباه الإنسان، لذا هي قد تكون معبَراً للاهتمامات والرغبات والمطامح. من هنا أن العين الشريرة هي المعبَر إلى القلب المظلم الذي لا يشتهي سوى العالم الباطل، بأمواله وملذاته. هذه لا تقنع بحالِها وتورث صاحبها الهمّ، وهكذا تفقِده الرؤية الصحيحة فتنحاز للأباطيل، تجمع وتكدس ولا تقنع أبداً. أمّا المال فهو سيد قاسٍ يستعبد محبيه الذين يسقطون في سجنه المظلم، فلا يتركهم إلاّ مرضى مهمومين متألمين يعيشون في قلق وخوف فاقدين السلام والصحة والفرح والحرية، وأخيراً فاقدين للحياة الأبدية. لهذا يقول الربّ أنه لا يمكن لأحد أن يعبد سيدين، الله والمال، أي أنه لا يستطيع أن يحيا في النور والظلمة معاً. فالمال، كما ذكرنا، سيد قاسٍ يجعل عابديه يتخلّون عن الله وعن ضميرهم وأحبائهم، ﻻ همّ عندهم إلا الجري وراء المال. أماّ راغب القداسة فعلاً فيبيع كل شيء، أو هو مستعد لبيع كل شيء، طلباً لله، لذا عينه تكون بسيطة وقلبه بلا انقسام لله. طبعاً هذا الكلام لا يعني أن الله ضد الأغنياء، فإبراهيم وإسحق ويعقوب وأيوب كانوا أغنياء. لكن الله ضد أن نكون عبيداً للمال متكلين على المال كضمان للمستقبل، وهذه يمكن أن تكون حالة اﻹنسان حتّى ولو كان فقيراً.

أمّا الصراع الكبير الذي يرمينا فيه الرب فهو حين يقول لا تهتموا بالمال. يتساءل المؤمنون: كيف نؤمن مستقبلَنا من مأكل وملبس؟ وجواب السيد أن الله هو المسؤول عن حياتنا ومستقبلنا ومعيشتنا. التحدي الكبير هنا هو الثقة. أي أن يثق اﻹنسان في الله كأب سماوي يعوله لا أن يثق في مال يأكله السوس ويسرقه اللصوص. المسيح يتحدانا بأن ننزع منا القلق وهمّ العيش في طمأنينة تحت تدبير الله الذي يرعى حتى الطيور. “القِ على الرب همّك فهو يعولك” (مز 22:55). ألا يستطيع واهب الحياة أن يهب وسائلها من الطعام واللباس؟ ألا يستطيع خالق الجسد أن يمنحه القوت والكسوة؟ ألا يستطيع مانح العطايا الكبيرة أن يمنح العطايا الصغيرة؟

إن ما يطلبه الربّ صعب، لذا القادرون على هذا التسليم قليلون لا بل نادرون. لكن ما يطلبه الرب ليس طوباوياً بل هو واقعي جداً، وهو يدعونا إلى الواقعية: “وَمَنْ مِنْكُمْ إِذَا اهْتَمَّ يَقْدِرُ أَنْ يَزِيدَ عَلَى قَامَتِهِ ذِرَاعًا وَاحِدَةً؟كل المال وكل الطبّ وكل العلم لا يستطيعون أن يعطوا اﻹنسان الراحة التي يمنحه إياها التوكّل على الله، والبساطة التي بها يصير اﻹنسان قادراً على تقبّل أصغر اﻷشياء كعطايا إلهية، لهذا لا يحكي الربّ عن جمال أزهار الحقل بل عن بهائها. وفي النهاية يطلب الربّ ألا نهتمّ بالغد، لا يطلب ألا نهتم باليوم، فاليوم علينا أن نعمل بجدّ من أجل قوتنا، لكن علينا ألّا نحمل همّ الغد أي المستقبل الذي هو يهتمّ به.

في هذا الزمان الصعب المحكوم بالمال، ترسم لنا القراءة اﻹنجيلية درباً صعباً، لكنه هو درب القديسين المؤدّي إلى الحياة الفعلية التي بالمسيح.