ما لله لله وما لقيصر لقيصر

ما لله لله وما لقيصر لقيصر

الأب أنطوان ملكي

شهر كانون الثاني 2017 ليس كغيره من الأشهر في عمر كنيسة أنطاكية الحديثة. إنه شهر السياسة بامتياز. فبدايته سياسة ونهايته سياسة. في أوله مفتٍ متفوّه يخطب في كنيسةٍ بحضور بطريرك، على خلاف تقليد الأرثوذكسية القاضي بألا يتكلّم في الكنيسة إلا المُسامون لذلك، وعلى خلاف التقاليد الإسلامية التي تقضي بألا يخطب الإمام إلا في محرابه. وفي نهاية الشهر رئيس متميّز يقلّد مطراناً وساماً على خلاف تقليد الكنيسة القاضي بعدم تكريم الأحياء، وعلى خلاف تقاليد رئاسة الجمهورية القاضي بتقليد الأوسمة للراحلين فقط، أي للموتى أو للسفراء الذين يتركون لبنان أو الموظفين الذين يتقاعدون أو ما شابه من الحالات.

لم يكن كل الأرثوذكس الأنطاكيون معترضين على أن يخطب المفتي في الكنيسة. الأغلبية صمتت. البعض صمتوا لأنهم رأوا أن الحَدَث سياسي ولا داعِ لأن يوضَع في إطار كنسي، خاصةً في الوضع الذي تمرّ فيه سوريا حيث الحاجة إلى إظهار اللحمة الشعبية الاجتماعية كبيرة. فقد أدت هذه الخطبة شيئاً من هذا الموضوع. البعض الآخر صمتوا لأنهم خشوا أن يؤخَذ اعتراضهم وكأنه على البطريرك الذي سمح بحصول ما حصل. بعض المعترضين القلائل وضع هذا العمل في الخط المسكوني وبعضهم الآخر اكتفى بالتمتمة والتأفف.

الواقع، بغضّ النظر عن التصنيف والتقييم، إن ما قبل الأول من كانون الثاني 2017 ليس كما بعده لأن ما جرى في هذا اليوم هو سابقة، بالمعنى القانوني للكلمة، وما يُبنى على السابقة قد يكون أخطر منها. أحد الأمثلة التي لم تتأخر جاء على لسان أحد الكهنة الغارقين في المسكونية الشعبوية التي لا تخدم وحدة ولا تعكس إيماناً، إذ قال: لن أرضى أن ينتقدني أحد على الصلوات المشتركة التي أنظمها فيما البطريرك يدعو المفتي إلى الخطابة من الباب الملوكي.

في أخبار غزو الإسلام لبلادنا أن أهل القدس لم يرضوا تسليمها إلا للخليفة عمر بنفسه. فلما أتى عمر واستقبله البطريرك القديس صوفرونيوس وسلّمه المدينة، وحان وقت صلاة عمر صلّى خارجاً شارحاً بأنه إن صلّى في الداخل سوف يأتي أتباعه ويعتبروا أنه قد صار لهم حصة. عرف عمر قوة السابقةفي أيامه، ورؤساء الكنيسة الأرثوذكسية اليوم لا يقيمون لها حساباً، وفي هذا إحباط للغيورين من المؤمنين وتضليل للمترددين منهم وتثبيت للمبتدعين في ابتداعهم.

أما الحدث السياسي الآخر أي منح رئيس الجمهورية وساماً رفيعاً للمطران جورج خضر، فقد هلل له الكثيرون حتّى أن بعضهم تعاطى معه وكأنه إعلان قداسة. جملة أسئلة ترِد هنا. منذ متى يأتي إعلان القداسة من الرؤساء؟ مطلوب بعض الواقعية. رئيس جمهورية لبنان لم يحكِ لا عن قداسة ولا عن كنيسة حتّى، كان واضحاً أنّه يكرّم قامة مشرقية أممية عملاقةمساوياً بين اللاهوتي الكبير والمفكّر الفيلسوف والمصلح الاجتماعي. كلام الرئيس عن الخبزات لا يصنع لاهوتاً ولا شهادة لاهوتية، غير مطلوبة من الرئيس بالأصل. من هنا، ينبغي إبقاء مبادرة الرئيس نحو المطران في إطارها الوطني، كجزء من سعي الرئيس إلى تثبيت المسيحيين واستعادة دورهم، والمطران جورج، كما يتفق الجميع، هو ألمع مسيحيي هذه البلاد في محاورة الإسلام والمسلمين. من هنا أن النظرة المتروية تظهِر أن حدث تكريم المطران هو حدث سياسي. الأب د. جورج مسّوح هلل لهذا التكريم وبلغت حماسته بأن يقرأ وقوع هذا الحدث بعد يوم من عيد الأقمار الثلاثة بأنه تدبير إلهي قرأ فيه أن المطران جورج هو القمر الرابع. شرح أن اللقب الرسميّ للمطران جورج خضر هو المطران جورج اللبنانيّ“. هذا كلام حماسة لا يقوم في الكنيسة. ففي الكنيسة هو الكلي الطهر والجزيل الاحترام المقام من الله مطراناً على جبيل والبترون وما يليهما المتقدم في الكرامة والمتصدر في الرئاسة على كل جبل لبنان“. لكن المشكلة الحقيقية ليست في كلام الحماسة بل في هذا الخلط بين السياسة واللاهوت في مقال واحد وزجّ مفاهيم غير أرثوذكسية لا صفة لها إلا السياسة كالقول بأن الكنيسة تضمّ كلّ الأبرار والصالحين إلى أيّ إيمان انتموا“. الكنيسة لا تضمّ إلا الذين آمنوا واعتمدوا.

كلام القديس يوحنا الذهبي الفمّ عن أَساقفة الذَهب وصلبان الخشب يعيدنا إلى أن الأوسمة والأوشحة لا تغني الكنيسة ولا الكلمة فيها. لم تكن السياسة يوماً قائمة إلا على المصالح التي لا مكان لها في الكنيسة الحيّة. نحن نميت الكنيسة حين نزجّها في السياسة. الكنيسة هي الأرضي الثابت الوحيد منذ ألفي عام، لأنها ليست من الأرض ولا تعود إليها، أما السياسة والسياسيون مهما عظموا فمكانهم الأرض وحدودهم الأرض ومداهم الأرض.

إن تداخل المسكونية بوجهها الدهري الحالي بالسياسة خطير جداً على الكنيسة وعلى المؤمنين، خاصة في بلاد لا ينظر رؤساؤها، العالميون منهم والروحيون أحياناً، إلى الجماعات إلا كأقليات وأكثريات. لا ينبغي أن تنعكس نظرة السياسيين إلى المسيحيين جميعاً على أنهم كتلة واحدة على الكنيسة. نتائج هذه النظرة كارثية على الكنيسة الأرثوذكسية. فالكنائس المشتركة في سوريا والصلوات المشتركة والتعييد المشترك تقف وراءها السياسة والنظرة الدهرية التي لا يهمها الإيمان، ولا تعترف به، بل همها هو كتلة الناس الذين يتداولون هذا الإيمان. التمييز شرط ضروري ولكنه صعب في هذا الزمان المتفلّت المشحون. يبقى الحل الأكثر أماناً هو في أن يُعطَى ما لله لله وما لقيصر لقيصر، ولا نخلط بين الاثنين.