كلّ نفس معيوبة حتّى تُشفى بالموت!

كلّ نفس معيوبة حتّى تُشفى بالموت!

الأرشمندريت توما بيطار


باسم الآب والابن والرّوح القدس، الإله الواحد، آمين.

يا إخوة، الرّبّ يسوع دعا بطرس إليه مرّتين. في المرّة الأولى، عندما كان يصطاد سمكًا، قال له: “اتبعني”. وفي المرّة الثّانية، بعدما قام يسوع من بين الأموات، وكان بطرس قد أنكره ثلاث مرّات، سأله الرّبّ يسوع إن كان يحبّه ثلاث مرّات، فأجابه بالإيجاب. لكنّه، في المرّة الثّالثة، أجاب بحزن، لأنّه رأى خطيئته أمام عينيه. وكان هذا كافيًا ليغفر الرّبّ يسوع لبطرس، لأنّه حزن بسبب خطيئته. إذ ذاك، كلّفه بمهمّة رعاية خرفانه، وقال له للمرّة الثّانية: “اتبعني”.

بطرس، إذًا، لم يأتٍ من نقاوة، بل من عدم نقاوة. لم يأتِ من أمانة، بل من عدم أمانة. لذلك، لا فضل له في مجيئه إلى السّيّد. الفضل، كلّ الفضل، هو للرّبّ يسوع، الّذي يقول: “أنا اخترتكم، ولستم أنتم اخترتموني”. كلّ إنسان لو كان ليُترَك لنفسه، لما كان يختار الرّبّ يسوع، ولا يستطيع؛ لأنّ كلّ إنسان غارق في ذاته: غارق في أفكاره، في مشيئته، في حبّه لنفسه… ولا يستطيع أن يحبّ الله، لا يستطيع أن يخرج من نفسه. لذلك، سأل الرّبّ يسوع بطرس ثلاثًا: “أتحبّني؟!”. بطرس كان واثقًا أنّه يحبّ السّيّد. ولكن، ما فعله، عندما أُسلم السّيّد، لا يدلّ أبدًا على أنّه يحبّه فعلاً. الإنسان يحبّ على طريقته. ربّما أمكننا أن نقول إنّ الإنسان، إن استقامت نفسه، يرغب في أن يحبّ. لكنّه لا يستطيع أن يخرج من نفسه. الرّبّ يسوع هو الّذي يُخرجه من نفسه، كما أخرجه من الجحيم. كلّ إنسان، في الحقيقة، نفسه هي جحيمه. ويبدو أنّ الرّبّ الإله يعطينا ما يعطينا من زمن، في حياتنا، لا لنصنع صلاحًا، لأنّه لا يمكننا، في الحقيقة، أن نصنع صلاحًا، بل لنكتشف عقمنا وعجزنا، من دون الرّبّ يسوع، عن إتيان أيّ شيء صالح. كلّما تطلّع الإنسان إلى نفسه، اكتشف أغوارًا من حبّ الذّات ولا أعمق. كلّما تقدّم بنا المسير الرّوحيّ، اكتشفنا أنّ ما فينا أصعب وأقسى بكثير من أن نتمكّن من أن نرتقي إلى وجه الله من دونه، وتقدّمنا في الحسّ بأنّنا لا ننفع شيئًا في ذواتنا، وأنّنا، في الحقيقة، عاجزون. لا يحسبنّ أحد منّا أنّ بطرس أنكر الرّبّ يسوع عن سابق تصوّر وتصميم! لا، أبدًا! نيّته، من جهة نفسه، كانت كاملة. كان يودّ الرّبَّ يسوع بكلّ معنى الكلمة، وقد عبّر عن هذا الودّ عندما قال للرّبّ يسوع إنّه مستعدّ لأن يموت عنه! ولكن، بطرس لم يكن يعرف نفسه، في ذلك الوقت. لم يكن قد مرّ بعد في اللّيل الأَلْيَل للنّفس البشريّة. لم يكن قد مرّ بالظّلمة في النّفس البشريّة. لم يكن قد عرفها بعد. كان في حاجة إلى أن يعرفها. لهذا السّبب، تركه الرّبّ يسوع يُنكره ثلاث مرّات. أراد أن يعلّمه درسًا أنِ “اعرف نفسك”، أوّلاً، وقبل كلّ شيء. مستحيل على الإنسان أن يعرف الله، إن لم يعرف نفسه في عمقها وعلى حقيقتها، أوّلاً. لذلك، كلّما نظرنا إلى عيوب الآخرين، وتغاضينا عمّا فينا من عيوب؛ فإنّنا نبتعد عن الله. والعكس صحيح: كلّما أخذنا نتغاضى عن عيوب الآخرين، واهتممنا بمعرفة عيوبنا؛ ازددنا قربى من الله. لهذا، قال الرّسول المصطفى بولس عن الرّبّ يسوع إنّه “جاء ليخلّص الخطأة الّذين أنا أوّلهم”. لماذا قال: “أنا أوّلهم”؟! هل كان بولس أشرّ من غيره؟! – بحسب مقاييس البشر، على العكس، كان إنسانًا فاضلاً. كان إنسانًا فرّيسيًّا لا لوم عليه. ولكن، عندما عرف بولس نفسه، عرف أﮐـثر من سواه حقيقة النّفس البشريّة في عمقها، بغضّ النّظر عمّا إذا كانت هذه النّفس هي نفس بولس، أو بطرس، أو سواهما. كلّ نفس “مضروبة”، كلّ نفس “معيوبة”! ليس أحد صالحًا، إلاّ الله. لذلك، نحن نأتي من ظلمةٍ، من جحيم. وكلّما شعرنا بهذا الجحيم، في قرارة نفوسنا، وردّدنا مع الرّسول المصطقى بولس: “ويح لي، مَن ينقذني من جسد الموت هذا؟!”، وأحسسنا في عمق ذواتنا أنّنا في جحيم؛ إذ ذاك، يصير بإمكاننا أن نؤمن إيمانًا كاملاً بالله، يصير بإمكاننا أن نلقي بأنفسنا بين يديه، أن نقول مع السّيّد على الصّليب: “في يديك أستودع روحي”.

إذًا، لكلّ إنسان صليبه، ونفسه صليبه. المهمّ ألاّ نيأس. في نهاية المطاف، ليس لنا ما نقدّمه لله سوى هذا اليقين أنّنا بالنّعمة مخلَّصون، وذلك ليس منّا، بل هو عطيّة الله. ليس لنا، إذًا، ما نتباهى به. لذلك، عندما علّمنا السّيّد أنّنا إن أحسنّا، أو متى أحسنّا، فلا ندعْ يميننا تعرف بما تفعله يسارنا،؛ فهذا، في الحقيقة، لأنّ كلّ عمل نظنّه صالحًا إنّما نصنعه، في عمق أنفسنا، لأنفسنا، لا لله. لذلك، يعلّمنا الرّبّ الإله كيف نعمل على إخفاء ما فينا من صلاح عن عيون النّاس، وحتّى عن أنفسنا، إذ لا يليق بنا أن نمضغ أيّ فكر فينا أنّنا صالحون. إذا كان لا بدّ لنا من أن نفتخر بشيء، فنحن نفتخر، بالحريّ، بضعفنا، وعجزنا، وعدم قدرتنا بلا يأس! لهذا، بطرس الآن صار مؤَمَّنًا عليه، لأنّه لمّا بكى على أثر نكرانه السّيّد، ولمّا حزن على أثر سؤال الرّبّ يسوع له ثلاثًا :أتودّني”؛ ذاق جحيم نفسه. إذ ذاك، أطلقه الرّبّ يسوع قائلاً له: “ارعَ خرافي”! “اتبعني”! فبات من المخلَّصين. والقصّة نفسها تردّدت مع بولس، ومع متّى، ومع توما، ومع كلّ واحد من التّلاميذ، ولو لم نكن على اطّلاع على كلّ ما جرى لكلّ واحد منهم بالتّفصيل. ولكن، يبدو أنّ الإنسان بقدر ما يعرف نفسه، يعرف العالم، لأنّ كلّ نفس “مضروبة” بالعلّة عينها. حتّى بعدما قال الرّبّ يسوع لبطرس “ارع خرافي”، وسأله إن كان يحبّه، حتّى بعدما حزن بطرس لسؤال السّيّد ثلاثًا “أتودّني”، وبعد أن غفر له السّيّد ما فعله من سوء؛ نجده وكأنّه لم يتنقَّ بعد بالكامل ممّا فيه من خبث، من وسخ، من ظلمة! كيف تعامل بطرس مع التّلميذ الّذي كان يسوع يحبّه؟! – تعامل معه بغيرة. كان غيورًا! كان فيه شيء من الحسد! “ما لهذا؟!”، قال بطرس ليسوع. أوّلاً، اعترض على يوحنّا. وثانيًا، استعماله لكلمة “هذا” استعمال فيه شيء من التّعالي والتّحقير! “فقال له يسوع: إن شئتُ أن يثبتَ إلى أن أجيء، فماذا لك؟! أنتَ اتبعني!”، [مهمّتك أن تتبعني. دورك أن تعمل على تنقية نفسك حتّى تتمكّن من اتّباعي]. والحقيقة أنّ بطرس لم يتنقَّ بالكامل من ذاتيّته، إلاّ بالموت. لهذا، نرى، هنا، الرّبَّ يسوع يتحدّث عن موت بطرس، مع أنّ السّياق لا يشير إلى ضرورة الكلام على الموت. سأله ثلاثًا: “أتودّني؟!” ثمّ قال له: “ارعَ خرافي”. وبعد ذلك، انتقل، فجأة، إلى الكلام على موت بطرس: “الحقّ الحقّ أقول لك، إذ كنتَ شابًّا، كنتَ تمنطق نفسكَ، وتذهب حيث تشاء. فإذا شختَ، فستمدّ يديك، وآخر يمنطقك، ويذهب بكَ حيث لا تشاء. وإنّما قال هذا دﺍلاً على أيّة ميتة كان مزمِعًا أن يمجّد الله بها”.

يبدو أنّ الإنسان لا يستطيع أن يمجّد الله، إلاّ بموته. لهذا، الكنيسة هي كنيسة شهداء، والشّهداء هم وحدهم الّذين كان يُقال فيهم إنّهم قدّيسون، في البدء. في ما عدا ذلك، قبل تلك السّاعة، تكون للإنسان صولات وجولات، ويسعى لتنقية نفسه وبذلها. ولكن، يبقى هناك، دائمًا ظلّ “حبّ الذّات” يخيّم على هذه النّفس الآثمة! “ويح لي! مَن يقذني من جسد الموت هذا؟!” الرّبّ يسوع وحده، القادر على كلّ شيء، يقدر على ذلك. فليكن اسمه مباركًا من الآن وإلى الدّهر.آمين.

عظة في السّبت 16 كانون الثّاني 2010 حول يو21: 14- 25.

Leave a comment