طعامنا الحقّ في الصّوم

طعامنا الحقّ في الصّوم

الأرشمندريت توما بيطار

باسم الآب والابن والرّوح القدس، الإله الواحد، آمين.

يسوع كان يعلّم. التّعليم، بالنّسبة إلى يسوع، هو إطعام الغذاء الإلهيّ للّذين يريدون أن يسمعوا. الكلام الإلهيّ لا يُسمَع بالأذن الخارجيّة وحسب؛ ولا يُسمَع بالعقل وحسب؛ وليس المطلوب، فقط، أن يفهم الإنسان ما يعلّمه يسوع. تعليم يسوع موجَّه، أوّلاً وقبل كلّ شيء، إلى القلب. وهو موجَّه إلى القلب، لأنّه حياة، لأنّه روح؛ وهو سبق أن قال، في أكثر من مناسبة: “الكلام الّذي أكلّمكم به هو روح وحياة”. الرّبّ يسوع، الإله المتجسِّد، يشاء أن يعطينا، لا تعليمًا جديدًا؛ ولا نظريّة جديدة؛ إنّما يشاء، بتعليمه، أن يعطينا حياة جديدة. هذا هو الفرق الأساسيّ بين المسيحيّة وديانات الأرض.

لهذا السّبب، المسيحيّة ليست ديانة. المسيحيّة لا تحدّث عن الله وحسب؛ ولا تعطي وصايا وحسب؛ ولا يتكلّم الله من خلالها لكي يخضع النّاسُ له. الرّبّ يسوع يعطينا ما لا يمكن أحدًا أن يعطينا إيّاه. الرّبّ يسوع المسيح شاء أن يعطينا حياة جديدة، حياة أبديّة؛ شاء أن يعطينا روحه. يسوع هو الكلمة؛ فإذا تكلّم، فإنّه، في الحقيقة، يعطي نفسه. كلّ كلمةٍ من كلمات الرّبّ يسوع تتضمّن حضوره بالذّات. لهذا السّبب، نحن، حين نقرأ في الكتاب المقدّس؛ فلا يجوز لنا، ولا يليق بنا أن نقرأ في الكتاب وكأنّنا نقرأ كلمات تحمل معاني. حين نقرأ الكتاب المقدّس، نحن ندخل في وصال مع الرّبّ يسوع! نحن نقف في حضرة الرّبّ يسوع! نحن نأكل، بمعنًى من المعاني، الخبز الحيّ الّذي هو الرّبّ يسوع، والّذي يعطينا إيّاه تحت علامة الكلمة. لهذا السّبب قيل: “ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان، بل بكلّ كملة تخرج من فم الله”. الكلمة هي الخبز الحقيقيّ. لذلك، نحن نقف بإزاء الكتاب المقدّس، قبل أن نباشر بقراءته، وِقفة صلاة؛ لأنّنا نكون واقفين في حضرة الله. نعمة الله في الكتاب المقدّس. نحن نقبّل الكتاب المقدّس، لأنّنا نقبّل يسوع. القبلة، دائمًا، هي أداة وصال. نحن نصلّي، قبل أن نقرأ؛ لأنّنا لا نستطيع أن نفهم بعقولنا، مهما حاولنا. نحن نفهم الكتاب المقدّس بالرّوح الّذي تكلّم به الرّبّ يسوع المسيح. هذا كلام ينضح بروح الله، ولا يمكن أن يُستوعَب إلاّ بروح الله. إذًا، نصلّي قبل أن نقرأ الكتاب المقدّس؛ لأنّنا نريد أن ندخل في عشرة الله. نطلب أن ندخل في وصال مع الله، في محبّة الله. إذا كان هذا هو فهمنا للكتاب المقدّس، فإنّنا، إذ ذاك، نكون قد بدأنا نسلك باستقامة من جهة ما لله؛ وإلاّ فإنّنا نبقى خارجًا.

الكتاب المقدّس، في الحقيقة، نحن لا ندرسه، ولا ندرِّسه في معاهد اللاّهوت، أو في الجامعات. الكتاب المقدّس ندرسه وندرّسه في إطار الصّلاة والعبادة؛ في إطار السّعي الحثيث لتنقية القلب. طبعًا، في معاهد اللاّهوت، وفي الجامعات الّتي تدرّس الكتاب المقدّس، يتمّ الاهتمام بما هو بشريّ في الكتاب المقدّس، إذ فيه بعد بشريّ. هذا مؤكَّد. لكنّ الكتاب المقدّس كتاب إلهيّ وبشريّ، في وقت واحد. والأهمّ من ذلك هو أن نُعطى من فوق روح الفهم، حتّى يتحوّل كلام الله فينا إلى حياة جديدة؛ لأنّنا نتناول، بمعنى من المعاني، خبزًا سماويًّا! لا شكّ في أنّ الخوض في بعض الدّراسات عن الكتاب المقدّس قد يكون مفيدًا لنا. هذا يعين، لكنّه ليس بكافٍ. لا بدّ لنا من أن ندرس تاريخ الكتاب المقدّس؛ لا بدّ لنا من أن ندرس الكتاب المقدّس من زاوية فيلولوجيّة لغويّة؛ لا بدّ لنا من أن نخوض في ما له علاقة بالعادات والتّقاليد في الزّمن القديم؛ لا بدّ لنا من أن نخوض في هذا وأكثر. لكنّ هذا يكون نافعًا، فقط، إذا كنّا، من حيث المبدأ وفي المنطلق، نقف بإزاء الكتاب المقدّس وكأنّنا واقفون بإزاء الله. هذا هو الأساس. إذا كان هذا الأساس غير متوفّر، فإنّنا نبقى جَهَلَةً، مهما درسنا الكتاب المقدّس، ومهما محّصنا معانيه، ومهما تبادلنا ما قاله فلان وفلان بشأنه. الكتاب المقدّس يمرّ بالأذن، ويعبر بالعقل، لكي يستقرّ في القلب؛ لأنّه، في نهاية المطاف، يروم تغيير الإنسان في عمق القلب. الحياة الجديدة تُعطى لنا في القلب. والحياة الجديدة، الحياة الأبديّة هي، بالضّبط، أن تستقرّ محبّة الله في قلوبنا.

إذًا، كلّ محاولة لدهرنة الكتاب المقدّس، لجعل الكتاب المقدّس كتابًا كغيره من الكتب، هي محاولة شرّيرة؛ هي محاولة لا يمكن أن تكون من الله. نحن لو حاولنا أن نستعيد طريقة تعامل بعض القدّيسين مع الكتاب المقدّس، لأدركنا أنّهم كانوا يمسكون بالكتاب المقدّس كما يمسك الكاهن الصّينيّة والكأس في الذّبيحة المقدّسة. القدّيس سيرافيم ساروفسكي كان يأبى أن يقرأ الكتاب المقدّس وهو في وضع الجلوس، لأنّه كان ينظر إلى الكتاب المقدّس من حيث إنّه لا يُقرأ إلاّ صلاتيًّا. كان يقف وِقفة صلاة، ويمسك بالكتاب المقدّس كما كان سمعان الشّيخ يمسك بالرّبّ يسوع المسيح طفلاً، حين دخل به يوسف ومريم. وإذ كان القدّيس سيرافيم يقرأ في الكتاب المقدّس، كان يواجه الأيقونات؛ ويضيء الشّموع بإزائها؛ ويعي، في داخل نفسه، أنّه لا يقرأ وحسب، بل يسمع وهو يقرأ ما يقوله الرّبّ الإله له. القدّيس سيرافيم لم تكن عنده مسافة بين الله والإلهيّات؛ بين الرّبّ الإله وكلمة الله. كلمة الله، بالنّسبة إليه، مشبَعَة بالحضرة الإلهيّة، بالنّعمة الإلهيّة، بالرّوح الإلهيّ. لذلك، جعل لنفسه، في الموضِع الّذي نسك فيه، زوايا هنا وهناك وهنالك؛ فأسمى هذه الزّاوية “أورشليم”، وتلك الزّاوية “النّاصرة”، والزّاوية الثّالثة “بيت لحم”، وهكذا دواليك. وإذ كان يتّجه إلى زاوية من هذه الزّوايا، كان يرتحل بالذّهن إلى أورشليم، أو إلى النّاصرة، أو إلى بيت لحم، أو إلى أريحا… الشّيء نفسه كان يفعله في قراءته للكتاب المقدّس. كان يرتحل بالذّهن إلى تلك السّانحات الّتي تكلّم فيها الرّبّ يسوع. وطبعًا، هذا ليس مجرّد تخيّل. هذا خروج، بمعنى من المعاني، من حدود المكان والزّمان، لكي يجعل الإنسان نفسه بالرّوح، بالقلب، في حضرة الله. بالصّلاة، الإنسان يتخطّى، دائمًا، الأمكنة والأزمنة. الصّلاة هي النّعمة الكبرى الّتي منّ بها الرّبّ يسوع المسيح علينا. الصّلاة هي ما يتخطّى، عمليًّا، حدود الإنسان، حدود الخليقة. الصّلاة، في عمقها، فيها ما هو غير مخلوق، إذ كيف يمكن الإنسان أن يخاطب الإلهَ الخالقَ بما هو مخلوق؟! هذا مستحيل! لهذا السّبب، سأل تلاميذُ الرّبّ يسوع معلّمَهم: “علّمنا أن نصلّي”! الصّلاة الّتي نصلّيها، الصّلاة الّتي تنبثق من الصّلاة الرّبّيّة “أبانا الّذي في السّموات”، هذه الصّلاة تتخطّى حدود الزّمان والمكان، تتخطّى حدود البشرة؛ لتستقرّ، بروح الله، في قلب الله. هذا يتمّ، إذا التزم الإنسان الصّلاة بالرّوح والحقّ.

إذًا، الكتاب المقدّس كان القدّيس سيرافيم يقرأه صلاتيًّا. لذلك، كانت قراءته تبعث في نفسه الفرح الكبير! أحيانًا كثيرة، حين يكون للأمّ، مثلاً، ولد في الغربة، ويرسل إليها برسالة؛ فإنّها تأخذها بين يديها. قد تكون عارفةً بالقراءة، وقد لا تكون. لكنّها، إذ تأخذ هذه الرّسالة؛ فإنّها، عمليًّا، في قلبها، تتخطّى الخطوط، وتتخطّى الحروف، وتتخطّى المعاني إلى وضعﹴ فيه تماسّ مباشر مع الّذي كتب هذه الرّسالة، مع الّذي أرسل إليها هذه الرّسالة! كثيرًا ما أخبرتُ عن تلك المرأة الّتي لم تكن تعرف القراءة والكتابة، والّتي طلبت، مرّة، أن يُؤتى لها بكتاب الصّلوات؛ فجيء لها به؛ فأخذته بين يديها، وأخذت تتصفّح أوراقه، وتنظر فيه هنا وهناك بفرح كبير، لأنّ عينيها كانتا تنظران إلى ما يخصّ الله، إلى ما له علاقة بالله، وكانت قدّامها أيقونة للسّيّد؛ فنظرت فيها، وقالت للسّيّد: “يا سيّد، لم يعلّموني القراءة، ولا الكتابة. لكنّني أصلّي لك كلّ ما في هذا الكتاب”! الفهم أمر مهمّ، لا شكّ في ذلك، بشريًّا. لكن، علينا، دائمًا، أن نتخطّى ما هو من أفهام النّاس. والرّبّ الإله يعطينا فهمًا أعمق من كلّ الأرض، ومن كلّ الخليقة. اليهود كانوا يعيّرون يسوع: “كيف يعلّم هذا، وهو لا يعرف الكتب؟!”! ماذا كان جوابه في إحدى المناسبات؟! “كلامي ليس لي، بل للّذي أرسلني”! الفهم الأعمق من الفهم العقليّ هو أن يدرك القلب روح الله. بروح الله يستوعب المؤمن كلّ شيء.

إذًا، ما للبشرة، ما للّحم والدّم، ما للعقل نفيد منه، نقرأه؛ لأنّه أمر طبيعيّ جدًّا أن يخوض الإنسان في كلّ ما له علاقة بالله؛ ولكن، هذا يكون، أوّلاً وأخيرًا، بروح الرّبّ، بروح التّوبة، بروح الصّلاة، بروح الصّيام، بروح السّلوك في الفضيلة، بروح المحبّة الإلهيّة. بهذا، يقرأ المؤمن الكتاب المقدّس كالطّفل الجائع إلى صدر أمّه، والرّبّ الإله يعطيه خبزًا من لدنه، لكي يأكل ويشبع. كان يسوع يعلّم؛ إذًا، كان يسوع يعطي نفسه. وهذا ما فعله الرّبّ يسوع. حيثما كان يذهب، كان يعطي نفسه. لم يكن له مكان يسند إليه رأسه، لأنّه جاء لكي يكون هو المسند. كما استند يوحنّا الحبيب إلى صدر السّيّد، هكذا شرّع الرّبّ يسوع صدره للعالَمين، حتّى يستكينوا إليه، حتّى يرتاحوا إليه. المهمّ، في نهاية المطاف، أن تتحرّك أسماع النّاس، أسماعنا من الدّاخل؛ أن يسمع الإنسان بأذنيه الدّاخليَّتَين، بالرّوح والحق. ومن هناك، تستقيم المسيرة، ويدخل الإنسان إلى داخل الحجاب.

فمَن له أذنان للسّمع، فليسمع.

* عظة في السّبت 8 تشرين الأوّل 2011 حول لوقا: لو5: 17- 26.

Leave a comment