الموقف الأرثوذكسي من قضية انبثاق الروح القدس

الموقف الأرثوذكسي من قضية انبثاق الروح القدس من الآب والإبن

الأب جورج عطية


ختاماً للبحث حول سر الثالوث، لا بد من إظهار رأي الكنيسة الأرثوذكسية فيما يتعلق بالنقاط الخاصة التي وردت عن تعليم الكنيسة الكاثوليكية في سر الثالوث الأقدس، مكتفين بالإجابة على النقطتين الأخيرتين (2، 3).

فبالنسبة للنقطة الثانية، أي قضية الروح بالإنبثاق من الآب والإبن، فمن المعروف أنها كانت موضوع الخلاف الرئيسي بين الكنيستين الغربية والشرقية، لدرجة أنها أصبحت من أهم العوامل التي باعدت بينهما وأدت الى انشقاقهما النهائي سنة 1054. ومن المؤكد تاريخياً أن الكنيسة الأرثوذكسية لم تعلّم منذ القرن التاسع فقط أن الروح القدس ينبثق من الآب وحده، بل هذا كان تعليمها منذ البدء والذي تسلمته منذ القرن الأول من الرب يسوع نفسه، الذي علّم “ومتى جاء المعزي الذي أرسله أنا إليكم من الآب روح الحق الذي من عند الآب ينبثق فهو يشهد لي” (يوحنا15: 26). وبديهي أن السيّد لا يتكلم هنا بطريقة عامة تحتمل التأويل. بل هو يحدد بوضوح وبالتخصيص أن الإرسال في الزمن هو من الآب والإبن، أو من الآب بواسطة الإبن (أنظر أيضاً لو24: 49). في حين أن الإنبثاق هو من الآب وحده. ولو كان الروح القدس ينبثق فعلاً من الآب والابن لكان الرب يسوع قد ذكر كما فعل بالنسبة للإرسالىولكان من الطبيعي أن يقول: “ومتى جاء المعزي الذي سأرسله أنا إليكم من الآب روح الحق الذي من عندنا ينبثق أو من عند الآب وعندي ينبثق”. ولو كانت الكنيسة الشرقية هي التي علّمت منذ القرن التاسع أن الروح القدس ينبثق من الآب وحده، كما تدّعي الكتب الكاثوليكية لكانت هي التي حذفت من دستور ايمان الكنيسة الجامعة كلمة “والإبن”، وليست الكنيسة الغربية هي التي أضافتها على هذا الدستور سنة 1014 بعد أخذ ورد طويلين وبضغط من الملوك الإفرنج والتوتونيين.

ولا يخفى تاريخياً على أحد الآن معارضة البابوات الطويلة لهذه الإضافة منذ القرن السادس، وحكاية البابا لاون الثالث الذي أمر بنقش دستور الإيمان الأصلي بدون إضافة “والإبن” على لوحين من الفضة وتعليقهما على باب كنيسة القديس بطرس “من أجل الحفاظ على الإيمان الأرثوذكسي” صار معترفاً بها حتى من الكاثوليك أنفسهم.

وفيما يتعلق بدعم الكنيسة الكاثوليكية لإيمانها “بالفليوكفْي” أو بإضافة “والإبن” بآيات من الكتاب المقدس نجيب على الفقرات التي وردت بما يلي:

أ – لقد سمي الروح القدس مرة واحدة في الكتاب روح الإبن: “ثم بما أنكم أبناء أرسل الله روح ابنه الى قلوبكم صارخاً أيها الآب (غلاطية4: 6). وذلك انسجاماً مع فكرة البنوة لله بالمسيح والتي تسيطر على المقطع الذي أخذت منه هذه الآية بأكمله.

يستنتج الكاثوليك بأنه كما سمي الروح القدس بروح الآب (متى10: 20) لأنه ينبثق من الآب، كذلك سمي هنا بروح الإبن لأنه ينبثق من الآب والواقع أن الروح القدس سميّ بروح الآب، ليس فقط لأنه ينبثق من الآب بل ولأنه أيضاً واحد في الجوهر معه. ولهذا ليس من الضروري أن يُدعى الروح القدس “روح الإبن” لأنه ينبثق منه كأقنوم بل لأنه واحد في الجوهر معه، وباقٍ في شركة كلية ودائمة معه، ولأنه بالضبط يأخذ مما له ويخبركم (يوحنا16: 13 – 14) أي هنا ياخذ من واقع بنوته الحقيقية للآب ليجعل المفتدين متبنين له، وصارخين معه وفيه “يا أيها الآب” لا بل أن الرسول بولس في تأكيده على هذه الفكرة يذهب أبعد من ضلك فيسمي الروح ذاته روح التبني: “إذ لم تأخذوا روح العبودية أيضاً للخوف بل أخذتم روح التبني الذي به نصرخ يا أيها الآب” (رو8: 15) فهل الروح منبثق من التبني أيضاً؟

أما من جهة تسمية الروح بروح المسيح أو روح يسوع المسيح، فواضح أيضاً من سياق النصوص المذكورة أن المقصود لا الإشارة الى انبثاق الروح من الإبن بل التشديد على مشاركة الرب يسوع المسيح الخاصة في عمل الروح المشار إليه، وذلك نظراً لوحدانية أفعال الثالوث الإلهية أي لإشتراك الأقانيم الثلاثة في العمل الواحد.

فمثلاً تعبير “روح المسيح” الوارد في (رو8: 9) إنما يشير الى حالة النعمة التي يعيشها المؤمن الذي لبس المسيح (غلاطية 3: 27).

وفي الواقع فإن الآباء يفسّرون عامةً تسمية الروح بروح الإبن أو بروح المسيح اما بسبب تماثل أو وحدة الجوهر بين الروح والإبن وبالتالي وحدة أفعالها الإلهية. أو بسبب إرسال الروح القدس من الآب وليس انبثاقه منه. لأن الإنبثاق من الآب هو صفة أقنومية تميز الروح القدس. والبثق صفة أقنومية تميز الآب. والآباء ينهون بصورة حازمة عن تعميم الصفات الأقنومية التي بحسب إجماعهم غير قابلة للإشتراك والتعميم إذ بها تقوم خصوصية وتميز الأقانيم في الثالوث.

القديس باسيليوس بعد أن يؤكد على الخواص الأقنومية لكل من الآب والإبن والروح القدس، وبأنه بها تتميز أقنوميتهم، يضيف من أجل هذا لا نقول: “الروح من الإبن بل نسمي روح الإبن، ونعترف أنه بالإبن ظهر وأعطي لنا”.

هذه الملاحظة ذاتها تظهر عند القديس كيرللس الإسكندري لأنه “إذا كان الروح القدس يصدر من الآب لكنه من الإبن يأتي هو وخاصته”. حتى أن القديس أثناثيوس الكبير يدعو مسحة الروح التي أعطيت للمؤمنين نفخة الإبن وختم يطبع المسيح في نفوس المؤمنين المختومين وهو يعني بهذه إعلانات الكلمة والروح نحو الخارج قاصداً بها إرسال الروح وتقبله من المؤمنين. وليس الخصوصيات الداخلية لأقانيم الثالوث. ولهذا نخطىء إذا كنا نستنتج من الأفعال الخارجية للروح ونتائجها على البشر صلات الأشخاص الإلهيين بحسب حياتهم الداخلية.

ب – يعتبر الغربيون أن إرسال الروح القدس الى الخارج والذي تمّ ليس فقط من قبل الآب بل أيضاً من قبل الإبن هو بنوع من مواصلة الصدور الأزلي في الزمان. ولهذا فعبارة ((الذي من عند الآب ينبثق) لا تنفي في نظرهم الإنبثاق من الإبن بل نفترضه بسبب مساواة أو وحدة  الإبن مع الآب في الجوهر (يوحنا16: 25). ولهذا ولأن الآب يبثق الروح القدس فالإبن يبثقه كذلك لأن كل ما للآب هو للإبن (يوحنا16: 15). ولكن هذا الإفتراض خاطىء بالأساس. صحيح أن وحدة جوهر الآب والإبن تفترض وحدة الصفات الأزلية مثل الحضور في كل مكان، القدرة على كل شيء… لكنها تفترض أيضاً أنهما شخصان متميزان وهذا التميّز بحسب الآباء يقوم فقط بتميّز صفاتهما الأقنومية التي لا يجوز تعميمها كما رأينا لئلا يحصل التشوش ونصل الى الصاباليوسية. فيبطل أن يكون هناك ثالوث.

السؤال: هل انبثاق الروح القدس صفة جوهرية أم صفة أقنومية؟

فإن كان صفة جوهرية يمكن أن نعممها فعندئذ يجب قبول انبثاق الروح القدس من الآب والإبن. لكننا في هذه الحال نصل الى نتائج لا حدود لتجديفها وغرابتها. فمثلاً إن كان الروح القدس ينبثق من الآب لأن الإبن متحد مع الآب في الجوهر، وكل ما للآب هو للإبن، فلماذا لا ينبثق الروح القدس من ذاته؟ – لأنه هو أيضاً متحد معهما في الجوهر وكل ما لهما له. ولماذا لا ينبثق الآب والإبن من الروح أيضاً؟ – الإبن يولد من الآب، فلماذا لا تكون للآب والروح صفة الولادة أيضاً طالما هو متحد في الجوهر معهما وكل ما لهما هو له؟ ولماذا لا تكون للإبن والروح صفات عدم الصدور والايلاد التي للآب…؟

ولكي لا يصل الكاثوليك الى نتائج كهذه قالا أن الإبن بسبب ولادته الأزلية يملك كل ما يملكه الآب إلا الأبوة وعدم الصدور، إذ يمكنه أن يشارك غيره بالبثق ولكنه لا يستطيع أن يشارك غيره بالولادة. أليس هذا إستثناءً إعتباطياً غير مبني على أساس؟

عند بعض اللاهوتيين الكاثوليك جواب آخر هو أن ترتيب الأقانيم الإلهيين هو الآب، الإبن، الروح القدس. ولأن الروح القدس هو الثالث في الترتيب لذلك لا يستطيع أن يلد الإبن أو أن يبثق الذي هو قبله، وبالطبع فهذا يقود في حال قبوله الى نوع من المرتبية والأسبقية بين الأقانيم، على اعتبار أن الإبن يولد من الآب قبل أن ينبثق الروح القدس منه.

ولعل الإدّعاء الذي ورد الفقرة (د) بأن الروح القدس ينبثق من الآب والإبن، كمن مبدأ أوحد وبنفخ أوحد، هو محاولة للتهرب من الوصول الى هذه المرتبية والأسبقية الزمنية بين الأقانيم التي لا بد أن المغبوط أوغسطين قد لاحظها ولذا شدّد: “يجب أن لا نقبل (من مبدأين) لأن هذا بالكلية مختلق وأخرق. لا بل هرطقة وليس بحسب العقيدة الجامعة”. وفي الواقع فإن مجرد الدفاع عن انبثاق الروح القدس من الآب والإبن هو بحد ذاته القول بأن الروح القدس ينبثق من مبدأين أي مصدرين هما الآب والإبن، وبالتالي الى اعتبار الروح مركبّا وليس بسيطاً، لأنه مأخوذ من مصدرين ولا تنفع في هذه الحالة إضافة كلمات (كمن مبدأ واحد وبنفخ واحد) إذ لا يمكنها أن تغيّر واقع الإدعاء الأول، وفي هذا المجال يقول البطريرك فوتيوس مَنْ مٍنَ المسيحيين يستطيع أن يسمح أن يُدخل علتان في الثالوث الأقدس للإبن والروح القدس، فيجعل للروح أيضاً (الإبن)… ولماذ ينبثق الروح (ومن الإبن) فإن كان الإنبثاق من الآب هو تام (وهو تام لأن الروح إله تام من إله تام) فلماذا إذاً الإنبثاق من الإبن؟ ولماذا؟

بناء على ما تقدم، بثق الروح القدس ليس هو صفة جوهرية يمكن تعميمها على الأقانيم بل هو صفة أقنومية شخصية تخص الآب وحده، وبها يتميز عن الإبن والروح القدس. وهي مختلفة جذرياً عن إرسال الروح القدس في الزمن، والمعني به افاضة مواهبه وقواه على الخليقة التي افتداها الإبن بتجسده وقيامته. ولعل هذا هو ما قصده السيد عندما جمع في عبارة واحدة بين الإرسال والإنبثاق (يوحنا 15: 26) لكي يميز بوضوح بينهما وليس لكي يدل على أن الإرسال الى الخارج يفترض بالضرورة مواصلة الصدور الأزلي في الزمان كما تدّعي كتب اللاهوت الكاثوليكية. وللبرهنة على خطأ هذا الإدعاء يكفي أن نقول بأنه في حال تسليمنا به يجب أن نقبل بأن الإبن يولد من الأزل من الروح القدس، لأن الكتاب المقدّس يعلّمنا بأن الإبن يُرسل في العالم من الروح القدس “روح الرب عليّ لأنه مسحني لأبشر المساكين….. أرسلني لأشفي المنكسري القلوب” (أشعياء 61: 1 ولوقا 4: 18).

جواب الكاثوليك على هذا البرهان هو قولهم بأن الروح القدس يرسل هنا الإبن كإنسان وليس بحسب طبيعته الإلهية التي هي حاضرة في كل مكان وليست قابلة للإرسال. وردّنا نحن على جوابهم بأن الروح القدس هو أيضاً بحسب أقنومه الإلهي حاضر في كل مكان وليس قابلاً للإرسال، وإنما أرسل بهيئة منظورة في الزمن، أي بشكل ألسنة نارية في العنصرة لكي يبقى مع الكنيسة، بحسب قواه المعزية والمرشدة المقدسة.

الآباء القديسون: يفسرون إرسال الروح القدس في العالم بواسطة الإبن، وإرسال الإبن بواسطة الروح القدس من خلال وحدة الجوهر الإلهي التي يعبّر عنها بوحدة عملهما الخارجي. ولذلك حيث يعمل أحد الأقانيم يكون حاضراً وفاعلاً بشكل تلقائي الأقنومان الآخران. ولهذا يقول الآباء أن الإبن أرسل في العالم من الآب ومن الروح القدس لكي يظهر من خلال هذا أن الآب والروح ليسا غريبين عن العمل الخلاصي للإبن بل يشاركان في هذا العمل، وكذلك الحال بالنسبة لإرسال الروح القدس في العالم من الآب والإبن.

Leave a comment