إلى صديقتي المنتحرة

إلى صديقتي المنتحرة*

إعداد راهبات دير مار يعقوب الفارسي المقطّع، دده – الكورة

وأتلفت النار هذا العام أشجارًا يانعة، وارتدت القمم والسهول حلّة سوداء داكنة، وتوقّفت المياه الحيّة عن الجري، فتوقّف معها نبض الحياة، وأحرقت النار بقوّة تأجّجها أحشاء من أنجباك إلى هذا العالم.

لا جرم، يا عزيزتي، أنّك لست الأولى، ولن تكوني، بالتأكيد، الأخيرة في هذا الكون القلق التي ظنّت بأنّ وضعَ حدٍّ للحياة هو الحلّ الوحيد والأسرع للتخلّص من إخفاق يائس أو اختيار بشع.

كم أودّ لو أركض في الشوارع والساحات، وأنادي المعلّمين وأجمع الأهلين، وأقرع الأجراس ليوافيني الآباء الكهنة المرشدون، وأستغيث بالمُصلحين والمثقّفين: “النجدة، النجدة، هبّوا لمساعدة شبابنا لئلاّ يقطعوا آخر خيط من حياتهم في لحظة قنوط مظلمة”.

يا صديقتي المفقودة، والتي فقدت أبديّتها، كم وودت لو استطعت أن أصحبك، يومًا، بعيدًا عن صخب المدنيّة الحاضرة، وأضوائها الصفراء الباهتة التي امتصّت آخر رمق من حياتك، وملاهيها المجنونة التي عصفت بآخر ذرّة من عقلك، وثيابها الفاضحة العديمة الحشمة والخجل التي هتكت آخر إحساس من عفّة جسدك. كم وددت لو استطعت إبعادك عن مفهوم هذه المدنيّة الذي أغراك بأن تصارعي لتحصدي النجاح والمجد الفانيين، وأن تعيشي وللحظة الحاضرة فقط.

كم وودت لو اصطحبتك في نزهة روحيّة بين دفّتيّ الكتاب المقدّس بعيدًا عن بهرجة الحياة وزخرفها الغاشّ لنتذوّق، ولو لبرهة وجيزة، الحلاوة السماويّة، ونقطف أزهار الحرارة الروحيّة العطرة الشذا التي تنفحنا بها كلمات السيّد في صفحاته. كم وددت لو تعلّمنا، أنا وأنت، أن نقول: “هبنا، يا ربّنا، أعيننًا أخرى نرى بها جمالاتك ونطلبها فتغنينا. ولكن… لم أستطع أن أدرأ الخطر المتربّص بك، لأنّك كنت جدّ مسرعة للالتحاق بقطار الجحيم.

كم وددت لو استطعت أن أصطحبك في نزهة ليليّة، لنجلس سويّة على صخرة قرب شاطئ البحر، ونرقب نجوم السماء كيف تظهر الواحدة تلو الأخرى، لتزيّن قبّة السماء المظلمة، وترنو إلينا بنورها الخافت قائلة: “ها قد وضع البارئ أضواء ضئيلة في حياتنا تحثّنا على المضيّ قدمًا في دربنا. ثمّ يظهر القمر بنوره الوضّاء ليهمس في أذنينا، ساخرًا من سواد الليل: “لا تخافا العتمة، فالله هنا، ولا بدّ لنوره الوهّاج من أن يبدّد حلكة الظلام المحيطة بكما”.

كم وددت، أيضًا، لو أصطحبتك في رحلة بحريّة في قارب صغير تؤرجحه تموّجات البحر ما بين صعود وهبوط، ليقول لنا بأن الحياة صعود وهبوط ما بين سعادة وشقاء، ومدّ وجزر ما بين بؤس وهناء. ولكنّ السيّد الذي صعد في السفينة، يومًا، وسكّن هياج البحر بكلمة، قادر، الآن أيضًا، أن يحوّل كلّ شقاء الأرض إلى سعادة ورغد.

أتساءل، يا فتاتي، بتوجّع وتحسّر، ولكن بتعجّب أيضًا: ألم تقرأي في الكتب، وأنت على مقاعد الدراسة، بأنّ الحياة كنز ثمين علينا أن نعرف كيف نستثمره حسنًا؟ وبأن الطريق الذي نسير فيه غير مفروش بالورود والرياحين فقط، بل بالحجارة والطين والحفر على تباين عمقها وأنواعها؟! وأنّه من الطبيعيّ أن نسقط أحيانًا ثمّ ننهض تدفعنا قوّة ملؤها الرجاء والأمل، وأنّه من النافل القول بأنّ السقطة لا تهمّ بمقدار ما يهمّ وقوفنا من جديد بقلب ملؤه الصبر والثبات والتواضع؟! ألم يقل لك أحد بأنّنا إن خسرنا معركة في ساحة هذه الدنيا لا يعني أنّنا خسرنا الحرب، وبأنّه يجب التمسّك دومًا بالسلاح الأقوى من كلّ سلاح والذي هو الإيمان بالله؟!َ

ألم تعلّمك هذه الكتب بأنّه ليس من المهمّ أن تملأي المناديل دموعًا، بل الأهمّ أن تستعدّي لمعركة أخرى، أو ربما لسقطة أخرى، بشجاعة ورجولة؟! ألم تمدّك هذه الكتب بالثقة بكلام من قال: “ثقوا أنا قد غلبت العالم”. قولي لي، يا فتاتي، إذا لم تعلّمْك هذه الكتب كلّ هذا، فماذا علّمتك إذن؟!

لا شكّ أنّه كُتب فيها، ولو لم تعطي أهميّة لما كُتب، بأنّ الهدف من الحياة ليس قليل الشأن لهذه الدرجة، بل هو ورقة بيضاء نكتب نحن عليها كلّ ما يؤول إلى حياة خالدة لا تفنى، ولكن… سعيدة. ولا شكّ، أيضًا، أنّهم كتبوا، ولو لم تذعني لما كُتب، بأنّ الجهاد في الحياة يكبّر حجم جناحينا لنطير بهما عاليًا فوق ملذّات الحياة. ولا شكّ، أيضًا، أنّهم سطّروا، ولو لم تؤمني بما سُطِّر، أنّ الحياة ليست ملكًا لنا، ولا سلطان لنا لننهيها ساعة نشاء.

يا فتاتي، قولي لي ألم تقرأي، كذلك، بأنّ الحياة تقتضي المجابهة، والمجابهة الشجاعة. وبأنّ الحياة أنشودة، وعلينا أن ندندنها بلحن جميل، لأنّها هبة من الله الكلّيّ الجمال، وأنّها وزنة نتاجر بها بأمانة مَن سلّمها إلينا، وبأنّ الحياة هي الرجاء بكلّ ما هو أفضل؟ هل عرفت بأيّ صحفة من كتبك دُوِّنت كلمتا الشجاعة والرجولة المتعقّلة، والتي بدونهما لا نستطيع أن نخطو ولا خطوة واحدة في درب مليء بالأشواك العالميّة؟ فإن لم يكن كلّ هذا مدوّن في وريقات كتبك، فمن البيّن أن شهاداتك الجامعيّة قد أمست من دون فائدة، وعلومك ومعارفك قد غدت ورقة خريفيّة، لأنّها لم توصلك لمعرفة الحياة الحقيقيّة الحقّة.

يا فتاتي، لقد رحلت سريعًا وسريعًا جدًّا عن هذه الفانية، رحلت من دون أن تحجزي لنفسك مكانًا “حيث لا وجع ولا حزن ولاتنهّد”. أمّا أنا، يا فتاتي الحلوة، فأبقى خاوية من السلوان والعزاء بفقدك لو لم يملأني إيماني بأنّه ليست لنا ههنا مدينة باقية، بل نطلب الآتية التي أعمل جاهدة للوصول إليها نقيّة.

ترى، يا فتاتي، هل أستطيع أن أرنّم لك “ليكن ذكرك مؤبّدًا” في أحضان إبراهيم. الله الديّان وحده يعلم!!

ولكنّي، يا حلوتي، وإلى أن يعلِن الربّ حكمه النهائيّ في المجيء الثاني، لنّ أكفّ عن قرع باب رحمته ليفتح لك مصراع محبّته للبشر، إذ قد علّمنا آباء الكنيسة المقدّسة أنّ الصلاة لأجل المنتقلين تفيدهم، وتخفّف من عذاباتهم. فلك، إذًا، يا صديقتي، ذبيحة حبّي لك، صلاةً تعصر قلبي، وترتفع كالبخور أمام عرش الربّ السنيّ.

* عن مجلة “العالم” اليونانيّة.

Leave a comment