آفّي سارّي

آفّي سارّي

المغنّية اليونانية التي غيَّرَها أحد الأديرة

نقلها إلى العربية الأب اثناسيوس بركات


آفّي سارّي هي واحدةٌ من أكثر المغنّيات شعبيّةً في اليونان، مرَّت بظروف صعبةٍ خلال السنوات القليلة الماضية، مما أدّى بها إلى  التَّفتيش في أعماق نفسها وإعادة اكتشاف إيمانها. (وكان ذلك عن طريق علاقة وطيدة، بأحد أديار الراهبات، لم تنقطع حتى الآن).

ما الذي قادك إلى الرَّهبنة، يا آفّي؟

دعنا نبدأ من البداية: في طفولتي، لعب عمّي دوراً أساسياً في حياتي. غالباً ما كنت أذهبُ إلى الكنيسة بصحبة أهلي حتى عمر المراهقة. وكنت أصوم وأصلّي وأذهب إلى الكاهن الذي كان أبي الروحي- وهو الذي درستُ على يده الكتابات المقدَّسة في صف التعليم المسيحي- وكنت أمارس سر الإعتراف. ثم تغيَّرت الأمور بعضَ الشَّيء، بسبب انخراطي في الموسيقى. لكن، كان ذلك ظاهريّاً. رغم أنني لم أكن أذهب، غالباً، إلى الكنيسة، بسبب عملي، إلا أنه، في غرفتي، دائماً ما كانت توجد أيقونةٌ لوالدة الإله- وهي التي حمتني من المخاطر- فكنت أشعرُ بأن أحداً ما في الأعالي كان يعتني بي.

ما الذي تعنينه بذلك؟ عندما كنتِ تُغنّين “في فراش غريبٍ ستحلم بي”، هل كنتِ، في الوقت نفسِه، تُضيئين الشموع؟

ما الغريبُ في الأمر؟ “من كان منكم بلا خطيئة فليرجُمْها بحجر”، مَن الذي يَحكم عليّ؟  لقد قمت بأحد الأمرين للمعيشة أما الآخر فلخلاص نفسي. ممّا لا شك فيه أنني كنت حذرة للغاية في هذه الأمور، إذ أنني، في الأماكن التي كنت أغني فيها، لم أكن أرغب بأن يتهكَّم عليَّ الجميع بسبب إيماني.


هناك مسافةٌ كبيرةٌ بين أن تؤمني بالله والقديسين، وبين أن تَحبسي نفسَك في أحد الأديرة.

أوافقُكَ الرَّأي. لكن، أثناء أحد الظروف الصعبة التي كنت أمرُّ بها، صدف أن قرأتُ كتابات الأم غابرييلا، عن طريق زميلة لي كنت أثق بها- وهي مغنّية ذائعةُ الصّيت، لكنني لن أَكشف عن اسمِها. أحسستُ بأن كلماتها و”محبتها النسكية” كانت الرجاء الذي كنت أبحثُ عنه، وقد فاجأني أن أكتشف بأن ذلك لا يوجدُ، بالحقيقة، إلا لدى ذوي الفضيلة.

متى حدث ذلك، يا آفّي؟

منذ حوالي الخمس سنوات، عندما بدأ لاكيس لازوبولوس يهزأ بي في عرضِه، بتقديمه أموراً شنيعةً تتناولني، فكان بذلك ينتهك روحي. حينها وفي إحدى اللَّيالي،اتَّصلتُ، من تلقاء نفسي، بدير نسائي يقع في الضاحية الشرقية من أثينا. تكلّمت مع الأم الرَّئيسة، وأخبرتها مَن أكون، وكان من الطبيعي أن تتعرَّف عليَّ، فأخبرتني بأن “طريقَ الله مفتوحةٌ لكلِّ الناس”. فهدأت بمجرد سماع صوتها على الهاتف.

وهل ذهبتِ، حينها، بشكل نهائي إلى الدير؟

لما يقارب الأربعة أسابيع، كنت أتردَّدُ، كلَّ مساء، إلى ذلك الدير وأصلّي. هناك، كنت أتكلَّم مع بعض الراهبات- واحدةٌ منهنَّ كانت قد شاركت في خورص أحدى مجموعاتي التي أصدرتها مع كارفيلاس؛ صوتها كان مميَّزاً جداً في أغنية “أتريد هَجري؟ غير ممكن!”- ويوماً فيوماً، وبشكل تَدريجي، بدأت أشعر بأن الدير صار بيتي الثاني. أذكر أنني، في تلك الأوقات، كنت أذهب، يومياً، إلى الطبيب النفسي- فقد خضعت لعدة جلسات نفسجسدية بسبب التَّشهير الذي تعرّضتُ له من لازوبولوس- وقد أصبح الدير ملجئي. كان الأمر كما لوكنتُ في بيئتي الطبيعية، هذا ما أحسستُ به.

ومتى اعتنقتِ الرَّهبنة؟

بعد انقضاء شهرين من الزمن، تنامى شعوري بعدم جدوى حياة هذا العالم، قلت لنفسي: “يا آفّي، إنه الوقت المناسب الذي ينبغي أن تقومي فيه بخطوة جبّارة في حياتك، أن تقومي بقفزة وتتخطّي الأمر”. لبرهة وجيزة، نظرتُ إلى الفساتين الجميلة التي أملكها في خزانتي، وألقيت نظرةً على أسطواناتي الذَّهبية، وتذكرت محادثةً جرت مع راهبةٍ جعلتني أخجل عندما قالت لي: ” لم يَجدر بكِ قولُ (غناء) ¢العارية في اليونان¢”. ابتسمتُ بعذوبةٍ وأنا أفكر بالخطايا الصغيرة التي اقترفتُها في حياتي، وبالناس الذين ظلموني عن غير قصد، وظننتُ بأني ،الآن، من الممكن أن أُعاقَبَ على خطاياي البريئة، لذا اتَّخذت القرار الكبير. اتَّصلتُ برئيسة الدير وأعلنتُ عن رغبتي العميقة، فحوَّلتني إلى راهبةٍ أخرى كانت تَرْأَسُ ديراً جديداً يبعد بضعة كيلومترات عن أثينا. أقفلتُ باب بيتي، ووضَّبتُ حقيبة صغيرةً تحوى بعض الضروريات، وأتَّصلتُ بصديقة أقلَّتني مباشرةً إلى هناك.

وعشتِ كمبتدئة؟

بالضّبط. كل الراهبات هناك، وعددهن حوالى العشرون، استقبلنني واهتممن بي، ودفعن إليَّ مَقاطع محدَّدة من الإنجيل لقراءتها. أتذكّر الأمَّ الرئيسة، وهي امرأةٌ قدّيسة لا غشَّ فيها، جعلتني أَحفَظُ عن ظهر قلب، الرسالةَ الثانية لبولس الرسول إلى أهل كورنثوس، وقالت لي بأن تلك الكلمات يجب ان تُصبحَ مرشدة لي في حياتي. لا شك بأنها امرأةٌ ذكيَّة ذات حس كبير بالفكاهة، أَذكُرُ أنها قالت لي كلاماً مميَّزاً: “كما تَحفَظين أغانيك، هكذا سوف تحفظين تلك الكلمات”.


ومنذ ذلك اليوم صرت تشاركين بانتظام في الحياة الرهبانية؟

بأفضل ما يكون عليه الإنتظام! في الصباح التالي، استيقظتُ الساعة 5:00 للمشاركة في صلاة السحر. أخذتُ استراحةً خلال القداس. جلست خلف القرّاية؟ وفتحتُ كتاب خدمة ذلك اليوم، وشاركتُ أَخواتي بالتَّرتيل. في النهاية، لم أخسر شيئاً. برز صوتي أكثر من أصوات البقيّة. كلَّهن هنَّأنني. بعدها، ذهبتُ مع أختٍ، وكانت مسئولة عني في الدير لكي أصبح راهبةً حقيقية، وأخذتني إلى حقل كبير، قالت لي الأخت أنه يعود للدير لسنوات عديدة، حيث قطفنا الزيتون. لا أُخفي بأن ذلك شكَّلَ تَحَدّياً لي بعض الشيء، إذ لم أفعل، طوال حياتي، شيئاً كهذا. لكنني، عندما كنت أفكّرُ بشراسة مَن اضطهدني وظلمني على التلفزيون، كنت أشعر بأن الأمر هو من أجل خلاصي، بما لا يُقارَن.


هل عانيت من صعوبات مع القلنسوة الرهبانية؟

عانيت الكثير. قبل كل شيء كان الفصل صيفاً، في شهر حزيران، فكنتُ أتعرَّق بشدّة. فحتى ذلك الوقت، كنت معتادة على التَّنقّل بثوب قصير ورِجلاي تتعرّضان للهواء. رغم تلك الأمور، فقد تحمَّلت لأن ذلك كان جزءاً من الاختبار.

وهل كنت تنجحين بالنّهوض يومياً الساعة الخامسة، في حين أن ذلك كان، لسنوات عديدة، وقت ذهابك للنوم؟

بكل تأكيدّ! كنا نتناول العشاء حوالى الساعة 8:00- عادةً ما كان يتألّف من الخبز والزيتون والأعشاب- وحالاً، نتلو صلواتنا وننام في قلالينا. إنه عالَمٌ آخَر!

ماذا كانت تقول الراهبات لكِ؟ هل كنَّ يعرفن من أنت؟

الجميع عرفن من أنا! منذ اللحظة الأولى. لن أُخفي بأن البعض كنَّ متشكِّكات بشأني، وقد سمعت البعض يقلن بأن “بيت الله لا تناسبه الفنّانات”، إلا أن الغالبية العظمى تقبَّلنني بكثير من المحبة.


ولماذا لم تبقي في الدير؟

في حديث مع الرئيسة، قالت لي بأنه عليَّ أن أجاهد وأحاورالعالم، وبأن الدير موجود دائماً لاستقبالي، إلا أنه علي إيجاد طريقي من خلال ما يثير اضطرابي بين الناس وأن أقوم بحَلّه. وقالت بأن الدير هو عزائي طالما أعيش هناك، لكنه لن يمكن أن يصبح حلَّاً لحياتي. كان قد مرَّ عشرون يوماً منذ أن صرت هناك، حينها جمعت حاجيّاتي من قلايتي الصغيرة، التي كنت أتشاركها مع مبتدئة أخرى، وعدت إلى بيتي في أليموس.

أتقولين لي بأنكِ قد خضتِ كلَّ ذلك بسبب برنامج تلفزيزني ساخر؟

هذا الرجل بالذّات قد مرّغ روحي “بفكاهته”. أما الدير فكان قيامتي.


في النهاية، هل كانت إقامتُكِ في الدير لصالحك؟

كانت كذلك دون شك. أظن بأنني آفّي جديدة، الآن. اتّصالي بالأمور الإلهية ساعدني لأَفصِلَ نفسي عن كثير من الأمور في نفسي، ولكي أنتقي الناس، وأُصَنّف، وما أحاول فعله هو مسامحتهم، حتى الذين أساؤوا إليَّ في العمق.


ألم يكن الدير، ربما، ملجأً مؤقَّتاً لا أكثر؟

هل هناك طريقة نَقيس فيها الإيمان ولا أعرفُها؟ لقد قال المسيحُ نفسُه: “من أراد أن يتبعني، فليأتِ”. وأيضاً: “طوبى للجياع والعطاش”.

أيّاً من الإثنين كنتِه؟

كنت متعطِّشة للفهم. كنت متعطّشة لمن يصغي إلي بهدوء حول المصاعب التي واجهتها في تلك الفترة. وهذا ما وجدته في الأخوات الراهبات. في الأسطوانة القبلة، سوف أعود لتلك الخبرة الرائعة التي عشتها.

بكلمات أخرى، هل سوف تترجمين هذه الخبرة بترانيم؟

إنه مزيج من التراتيل الكنسيّة وأعمالي المشهورة الناجحة. لا أستطيع التكلم عن ذلك أكثر.

لماذا قرَّرتِ تسجيل ذلك الآن، بعد كل الذي مررتِ به؟

بسبب ما تمرّ به اليونان، الآن، ولكن، أيضاً، بسبب أيام الفصح، إضافة إلى أنني أردت أن أقدّم نموذجاً للعالم، وهو أن المحبة والإيمان يؤديان إلى الخلاص. أنا، التي لم تكن بحاجة لأي شيء في حياتها، أقول لك ذلك. لأنه كان لدي الكثير من الحب، كان الشباب والكهول يركعون أمام قدمَيَّ متوسّلين لمسة عابرة، من أجل المال، والدّعاية، والنجاح المنقطع النظير. رغم ذلك، كانت تلزمني كلمات شريرةٌ يقولها رجلٌ لكي تؤدّي إلى تحريري وإبلاغي بأن كلَّ ما أحرزتُه خلال السنين وتَحوُّلي إلى واحدةً من أفضل مطربات الأغاني الفولكلورية في اليونان، كلُّ ذلك ذهب في أدراجَ الرياح. بدون إيمان لستُ بشيء. هذا ما أعرفه الآن. لست آفّي التي كنتم تعرفونها. لقد انفصلَتْ حياتي، الآن، عن ما قبل الدير، إلى ما بعد الدير. وصدّقوني بأن هذا الفصل الثاني هو أكثر فرحاً من الأول.

 

from http://www.gazzetta.gr/genikes-eidiseis/article/item/281728-h-efi-sarri-kalogria

Leave a comment