بؤس الحضارة الأوروبية

بؤس الحضارة الأوروبية

القديس نيقولا فيليميروفيتش

نقلها إلى العربية الأب أنطوان ملكي

هذا المقطع جزء من عظة ألقاها القديس في 1917. ما يرد فيها ما يزال قائماً إلى اليوم مع إمكانية استبدال عبارة “الحضارة الأوروبية” ب”حضارة هذا الدهر” (المترجم)

إن الحرب القائمة (الحرب العالمية الأولى) تكشف بؤس الحضارة الأوروبية. تعرّي أوروبا البشع جلب العار لكل الذين كانوا يركعون أمام قناع أوروبا الذي كان قناعاً حريرياً لامعاً يخفي بشاعة أوروبا الداخلية وبؤسها. هذا القناع سُمي ثقافة، حضارة، تقدماً وعصرنة. كل هذا كان مجرّد بَاطِلُ الأَبَاطِيلِ وَقَبْضُ الرِّيحِ. عندما هربت النفس، ما بقي كان فارغاً وبشعاً وخطراً. عندما يغرق الدين في العجز: يصير العلم قناعاً للغرور، والفن قناعاً للهباء، والسياسة قناعاً للأنانية، والقوانين قناعاً للطمع، واللاهوت قناعاً للشكّ، والمعرفة التقنية بديلاً بائساً للروحانية، والصحافة بديلاً يائساً للأدب، والأدب حنيناً مَريضاً وهراءً وبهلوانية أقزام، والحضارة ذريعة للإمبريالية، والكفاح من أجل الحق  صيغة رجعية من العقائد البدائية، والأخلاق المسألة الأكثر إثارة للجدل، والنزعة الفردية الاسم الثاني للأنانية والفردانية، والمسيح متسولاً منفياً يبحث عن مأوى، بينما في القصور الملكية الفريسية يعيش مكيافيلي الملحد، ونابليون الكافر، وماركس المنكِر لوجود الله، ونيتشه الزنديق،  ويستبدّون بحكّام أوروبا.

الروح كان فاسداً وكل شيء صار فساداً. روح الحضارة يُستوحى من دينها، أمّا روح أوروبا الحديثة فلم يُستوحَ من دين أوروبا أبداً. لقد بُذِلَت جهود جبّارة في دوائر كثيرة لتحرير أوروبا من روح دينها. لكن باذلي هذا الجهد نَسَوا أمراً واحداً وهو أنّه ما من حضارة تحررت من الدين وعاشت. حينما كان يبدو أن هذا التحرر اكتمل، كانت الحضارة المعنية تتضعضع وتموت، تاركة وراءها مادية بربرية في المدن وخرافات في القرى. كان على أوروبا أن تعيش مع المسيحية أو أن تموت في المادية البربرية والخرافات من دونها. لقد تمّ اختيار طريق الموت. من أوروبا الاستعمارية أتت العدوى أولاً إلى كامل الجنس الأبيض. هناك أُشير إلى الصيغة الخطرة: “خلف الخير والشر”. أجزاء أخرى من العالم الأبيض تبعت ببطء، سائرة أولاً  على الطريق بين الخير والشر. الخير تمّ تحويله إلى القوة، والشر فُسِّر على أنّه ضرورة بيولوجية. الدين المسيحي، الذي ألهم أعظم الأمور التي في أوروبا في كل نقطة من النشاط البشري، حُطَّ من قدره من خلال الشعارات الجديدة: الفردية والليبرالية والمحافظة والقومية والإمبريالية والدهرية، التي بجوهرها لم تعنِ شيئاً غير محو المسحة المسيحية عن المجتمع الأوروبي، أو بتعبير آخر، إفراغ الحضارة الأوروبية. لقد تخلّت أوروبا عن الأمور العظيمة التي تملكها وتشبّثت بما هو أقلّ وأدنى. أعظم الأمور كان المسيح.

كما أنه يستحيل تصوّر الحضارة العربية في إسبانيا من دون الإسلام، أو حضارة الهند من دون الهندوسية، أو روما من دون البانثيون، كذلك أيضاً لا يمكن تخيّل حضارة اوروبا من دون المسيح. ومع هذا، ظنّ بعض الناس أن المسيح لم يكن حاجة أساسية لأوروبا، وتصرّفوا على هذا الأساس من دون المسيح، لا بل ضده. المسيح كان إله أوروبا. عندما نُفي هذا الإله (من السياسة والفن والعلم والحياة الاجتماعية والأعمال والتربية)، راح الكلّ يسأل بإلحاح عن إله، وظنّ كل واحد نفسه إلهاً، وهناك كان سبب الإخفاق بالحقيقة، في النظريات التي تعلن، بشكل علني أو مقنّع، كل إنسان إلهاً. وهكذا، صارت أوروبا الملحدة ملأى بالآلهة.

كونها من دون المسيح، ظنّت أوروبا نفسها أنّها متحضّرة. بالحقيقة ما كانت سوى وادٍ محروم مليء بالعظام الجافة. الأمر الوحيد الذي كانت تمتلكه لتتباهى به كانت قوتها المادية. بهذه القوة فقط أثّرت وأخافت البلدان غير المسيحية (وليس تلك التي ضد المسيح) في آسيا الوسطى والشرقية، وأفسدت القبائل الريفية في أفريقيا وغيرها. لقد انطلقت لتغلب لا بالله ولا له، بل بالقوة المادية واللذة المادية. لم تدهش روحانيتها أياً من شعوب الأرض. بينما ماديتها أذهلتهم جميعاً. فقرها الداخلي رأته الهند والصين واليابان وروسيا بشكل جزئي. يا لهذا الفقر المذهل! لقد كسبت العالم كلّه وعندما نظرت إلى داخلها لم تستطع أن تجد نفسها. أين فرّت نفس اوروبا؟ الحرب الحالية سوف تعطي الجواب  (الكلام أثناء الحرب العالمية الأولى). هذه الحرب سوف تستمر طالما تبقى أوروبا من دون نفس، ولا إله، ولا المسيح. تتوقّف هذه الحرب عندما تستعيد أوروبا رؤية نفسها وإلهها الوحيد وثروتها الوحيدة.

Leave a comment