اغتصاب الطبيعة

اغتصاب الطبيعة

فيليب شيرار*

نقلها إلى العربية الأب أنطوان ملكي

نحن في براثن أزمة ذات أبعاد فائقة البشاعة. نحن نميل نحو تسمية هذه الأزمة بالأزمة البيئية لأن تأثيرها يظهر بالغالب في المجال البيئي. هنا الرسالة واضحة تماماً: مجمل طريقتنا في الحياة انتحارية بشرياً وبيئياً، وما لم نغيرها جذرياً لن يكون هناك أي مجال لتلافي الكارثة. للأسف، لا يبدو أننا وصلنا إلى إدراك ملحاحية الحاجة للتغيير. وبالرغم من كل شيء، نحن مستمرون في التخبط على طول مسارنا الحاضر من الدمار مع كل حتمية التراجيديا الإغريقية، نتخِم تربتنا وماشيتنا بالمواد الكيمائية القوية وبمختلف أنواع السموم التي لا تسمح أي جماعة عاقلة بخروجها من المختبرات ذات الحراسة المشددة، نجرّد العالم مما تبقى من غاباته بشرعة تتخطى التصديق أو الفهم، نتدخّل في عمليات التكاثر عند النباتات والحيوانات والبشر، ونتصرّف إجمالاً بطريقة لا تؤاتي إلا إبادتنا. يبدو الأمر وكأننا في قبضة ذهان جماعي وحشي، وكأن رغبة جارفة بالموت تحوم بالحقيقة فوق كل ما يعرَف باسم العالم المتحضّر.

مع هذا، الأزمة بحد ذاتها ليست أزمة بيئية. قبل كل شيء، ليست هي أزمة تتعلّق ببيئتنا. إنها أزمة في طريقة تفكيرنا. نحن نعامل كوكبنا بطريقة غير إنسانية ولا تعرف الله لأننا نرى الأمور بطريقة غير إنسانية ولا تعرف الله. نظرتنا إلى العالم تتوقف قبل كل شيء على نظرتنا لأنفسنا. نموذج الكون لدينا، أو نظرتنا للكون، تقوم على النموذج الذي نقتنيه لأنفسنا، أي على صورتنا الذاتية. ما لم يتغير تقييمنا لذواتنا وما يكوّن طبيعة كياننا، لن تتغيّر طريقة تعاملنا مع العالم من حولنا أيضاً.

الجحيم الصناعي والتكنولوجي الذي أنتجناه من حولنا، والذي من خلاله نحن ندمّر العالم الآن، ليس شيئاً قد ظهر بالصدفة. على العكس، إنّه نتيجة مباشرة لسماحنا لأنفسنا بأن نقع تحت سيطرة نموذج تفكير يفرض علينا أن نرى في أنفسنا أننا أعلى بقليل من حيوانات تسير على قدمين، مصيرها وحاجاتها يمكن إشباعها من خلال السعي وراء المصلحة الذاتية الاجتماعية والسياسية والاقتصادية. ولكي نتطابق مع هذه الصورة الذاتية فقد ابتكرنا نظرة للعالم نرى فيها الطبيعة على أنها سلعة غير شخصية، مصدر للغذاء لا روح له، مواد خام، ثروة، نفوذ وغير ذلك، ما يجعلنا نفتكر بأن لنا الحق في سوء استعماله من خلال أي تقنية علمية او ميكانيكية من ابتكارنا أو إنتاجنا، لكي نحقق مصلحتنا الذاتية. لقد أسقطنا القداسة عن الطبيعة لأننا أسقطنا القداسة عن ذواتنا.

إن عقليتنا الدهرية العلمية تترافق يداً بيد مع تآكل موازٍ ومتزايد للإحساس بالقداسة. نحن لا نملك اي احترام ولا وقار لعالم الطبيعة لأننا في الأساس لا نملك اي احترام ولا وقار لأنفسنا. كوننا فقدنا حس حقيقتنا فقد فقدنا الحس بكل حقيقة أخرى. ولأننا نشلّ ونشوّه أنفسنا، نحن نشلّ ونشوّه كل شيء آخر ايضاً.

إن أزمتنا المعاصرة هي بالحقيقة فسادنا الشخصي. وعليه، الجواب الحقيقي الوحيد لهذه الأزمة هو في أن نتوقّف عن إفساد أنفسنا. إنّه باسترجاع الحس بهويتنا الحقيقية وكرامتنا، بأننا مخلوقون على صورة الله، وبنظرتنا لأنفسنا كأشخاص مقدسين. ما أن نسترجع الحس بقداستنا، حتى نستعيد الحس بقداسة العالم ومن ثمّ نتصرّف نحو العالم بالرهبة والخشوع اللذين يقتضيهما الدخول إلى معبد مقدس، معبد للمحبة والجمال فيه نتعبّد للخالق ونعشقه. من دون الحس بالقداسة، أي بأن كل ما هو حي هو مقدس، ومن دون تواضع نحو الكل، نحو الإنسان والطبيعة والله الذي يسمو على الإنسان والطبيعة وهو مصدرهما وأصلهما، فببساطة سوف نمضي قدماً بتهور نحو هدم الذات الذي لا مجال لتلافيه والذي هو اختيارنا ونحن مسؤولون عنه بشكل كامل.

* فيليب شيرار هو أحد اللاهوتيين الأرثوذكس المميزين، وقد شارك الميتروبوليت كاليستوس وير في ترجمة الفيلوكاليا إلى الإنكليزية.

Leave a comment