صورة المرأة في الكتاب المقدس

صورة المرأة في الكتاب المقدس

ماريا قبارة

المرأة في العهد القديم

نقرأ في مستهل التكوين “وقال الله نعمل الإنسان على صورتنا كشبهنا. فيتسّلطون على سمك البحر وعلى طير السماء وعلى البهائم وعلى كلّ الأرض وعلى جميع الدبَّابات التي تدبُّ على الأرض. فخلق الله الإنسان على صورته. على صورة الله خلقه. ذكراً وأنثى خلقهم.” (تك26:1-27). “وقال الربّ الإله ليس جيداً أن يكون آدم وحده. فاصنع له معيناً نظيره…..فأوقع الربّ الإله سباتا على آدم فنام. فأخذ واحدة من أضلاعه وملأ مكانها لحماً. وبنى الربّ الإله الضلع التي أخذها من آدم امرأة وأحضرها الى آدم. فقال آدم هذه الآن عظمٌ من عظمي ولحم من لحمي. هذه تدعى امرأة لانّها من امرئ أخذت. لذلك يترك الرجل أباه وأمه ويلتصق بامرأته ويكونان جسداً واحداً” (تك18:2-24)

وعلى هذا، للمرأة طبيعة هي ذاتها طبيعة الرجل. هي أسمى من كلّ الحيوانات التي لآدم أن يسيطر عليها. هي بمثابة معاونة ومرافقة، وهي تلائمه وتناسبه (تك18:2، 20:2). فالمرأة ليست كائناً عابراً نتيجة المصادفة، بل هي مساوية للرجل وبالتالي هي العون الحقيقي الصحيح بإزائه. كلاهما، الرجل والمرأة، على صورة الله، فهما إذاً على صورة بعضهما.

قال آدم: ” هذه الآن عظم من عظمي ولحم من لحمي…”. المرأة  تأتي من عمق الرجل، تشاركه في طبيعته ذاتها، وبعلاقة المساواة الجديدة هذه يأخذ الرجل والمرأة أسماء جديدة ذات مصدر لغويّ واحد: إيش/ إيشا. أيّ امرئ/ إمرأة. وجاءت الخطيئة لتهدم التسلسل الطبيعي للأحداث. فسيادة الرجل على المرأة  نتيجة الخطيئة (تك16:3). ومن الخطأ أن نعتبر أن الخالق أراد وضع المرأة في مرتبة ثانية ( كما هو الحال في معتقدات مجتمعات كثيرة حتى اليوم).

في اللحظة التي دُعي فيها الرجل والمرأة إلى الوجود توّج عمل الخلق بكائنين بشريين متساويين أمام الله، ومخلوقين على صورة الله ومثاله ليصبحا جسداً واحداً ” لذلك يترك الرجل أباه وأمه ويلتصق بامرأته ويكونان جسداً واحداً”.

ويعتبر أفلاطون الحبّ بين الرجل والمرأة ظاهرة متأصلة في طبيعتهما وفي أصل تكوينهما. فالإنسان في البدء مثنى ((androgyge، فالرجل والمرأة شخص واحد، ولكنّ عقاب الآلهة جزأه إلى اثنين: ذكراً وأنثى. ومنذ ذاك يتوق كلّ “نصف” إلى الاتحاد بالنصف الآخر لتعود وحدة الاثنين الى لحمتها الأصلية.

يسوع والمرأة

لقد ثارَ يسوع على وضع المرأة المتدني في الحالة الاجتماعية للعالم اليهودي الذي عاشَ فيه. فقلبَ المسيح مفاهيم عصره في ملكوت الله بتحول جذري لكلّ شخص بشري. اهتم يسوع بالمعذبين والفقراء والمحتاجين والمظلومين، وجاءت ثورته تدعو للمساواة بين كلّ الكائنات البشريّة ووجّه رسالته الخاصّة للمرأة، ضارباً عرض الحائط العادات والعنصريات والطبقات الاجتماعية السائدة وقتذاك.

في تعارض مع علماء الشريعة، أخذَ يسوع يد حماة بطرس (مر31:1). لم يزدرِ المرأة النازفة الدمّ حاكماً بموقفه على الفريسيين والمجتمع ” أنا لا أحكم عليك. اذهبي ولا تخطئي بعد الآن” (مت22:9)، فالعادة الجارية عند الكتبة والفريسيين بحسب تعليم التوراة تقضي برجم المرأة التي تؤخذ في جرم الزنى المشهود، أمّا موقف يسوع كان ميزان الرحمة الذي رجح على أحكام التوراة الصارمة. وبهذا أعطى يسوع هذه المرأة إمكانية العودة الى الحياة العادية غامراً إياها معنى جديداً للحياة. وأيضاً أعطت هذه المرأة السبيل للمسيح لنشر تعليم سامٍ عن الرحمة في مجتمع نبذ المرأة وحللّ كلّ شيء للرجل.

أكثر من هذا، فبالرغم من العادات المرعية لذلك العصر قَبِل ضيافة عائلة يهودية تتألف من أختين: مريم ومرتا (لو38:10)، وكان ليسوع علاقة مودّة مع الاختين وأخيهما لعازر. وأما قصّته مع المرأة السامرية لها طعم آخر، فيسوع لم يعبأ بالتقاليد التي كانت تنهي الرجل عن مخاطبة امرأة لا يعرفها، وزادَ الأمر دهشة التلاميذ لأنه تكلم مع سامرية خاطئة. لكنّ يسوع رأى في السامرية إنساناً فبلّغ الكلمة إليها. خيار يسوع لهذه السامريّة مدهش: لنشر رسالته في منطقة مختلفة عن البيئة اليهودية، ولدعوة السامريين للإيمان. بداية الطلب، حاجة يسوع إلى مساعدة المرأة. وفي نهاية الحوار، أصبحت المرأة بحاجة إلى يسوع “يا سيد أعطني هذا الماء لكي لا أعطش ولا آتي إلى هنا لأستقي” (يو15:4). حالاً أصبحت المرأة رسولة ليسوع، تركت الجرّة (أي تركت ماضيها) وتبعت يسوع. أصبحت هذه السامرية رسولة بين إخوتها السامريين. إيمان السامرية بيسوع وشهادتها عند أهلها حملا السامريين على الإيمان بيسوع. فنظرة يسوع للمرأة في مشاركته في العمل الخلاصي تساوي نظرته إلى الرسل في دعوتهم للبشارة والتعليم.

تكلّم يسوع كثيراً بالأمثال عن المرأة: المرأة وأكياس الدقيق (مت33:13)، المرأة التي أضاعت الدرهم (لو 8:15-10). الأرملة والقاضي الظالم (لو1:18-8).

لم ينظر يسوع إلى المرأة بأنها موجودة أدنى من الرجل، ولم يرفض الاختلاط بين الجنسين. وضع يده على نسوة شفاهنَّ من أسقام في زمنٍ كان فيه اليهود يتحرجّون من مصافحة النساء، ولا سيّما الحائض منهنّ.

وهناك الدور الكبير والمميز للمرأة المبشرة بقيامة الربّ. فالنساء كنّ أول من عرفَ حدث القيامة، وأول من بشّر التلاميذ بالقبر الفارغ. وظهور الربّ للمجدلية يدلّ على رغبته في أن تكون المرأة شاهداً على قيامته وأول من يبشّر بهذه القيامة “قال لها يسوع: لا تلمسيني لأنّي لم أصعد بعد إلى أبي. ولكن اذهبي إلى إخوتي وقولي لهم إني أصعد إلى أبي وأبيكم وإلهي إلهكم. فجاءت مريم المجدلية وأخبرت التلاميذ أنها رأت الربّ وقال لها هذا” (يو16:20-18). ما يميز رسالة النسوة عن رسالة الرسل، هو أنّ المسيح بالرغم من منحه السلطة الرعائية للرجال، إلاّ أنّه أعطى مشاركة أساسية للمرأة بحمل البشارة الحلوة ونقل الإيمان إلى الآخرين.

لا نجد  في تعليم وتصرفات يسوع أيّ شيء يعكس التفرقة القائمة في عصره بين المرأة والرجل. كانت أقواله وأعماله تنمّ عن الاحترام الواجب اعتماده في تعامله مع المرأة. أطلقَ لقب “ابنة ابراهيم” على المرأة قوساء الظهر، فيما لم يُطلق هذا اللقب في كلّ التوراة إلاّ على الرجال “أبناء ابراهيم”. إنّ اسلوب يسوع في التحدث والتعامل مع النساء شكّل تجديداً واضحاً بالمقارنة مع عادات ذلك العصر.

المرأة وآباء الكنيسة

أُخذ على آباء الكنيسة بُغضهم للمرأة، ذلك لأننا نجد عند الكثيرين منهم أحكاماً قاسية تفتقر إلى مفهوم المرأة الكتابي الصحيح. لم يطرحوا مشكلة المرأة بطريقة مستقلة، بل طرحوه في ظروف معاكسة لها، لدرجة أنّ الكثيرين منهم غالباً ما كانوا ضدّ المرأة، وتطوّروا بنظرة أكثر إنسانية ليصلوا إلى تناقضات مع آرائهم السابقة. نذكر على سبيل المثال يوحنا الذهبي الفم الذي عُرف بأقواله القاسية عنها في مطلع شبابه، ثمَّ كوّن صورة أخرى عنها أكثر صفاء توضحت في رسائله السبعة عشر إلى الشماسة أولمبياس، كتبها في منفاه شاطرها همومه وأحزانه.

بعض الآباء طوَّب المرأة ووضعها في مثالية مريمية، والبعض الآخر همّشها وهشّمها منزلاً إياها إلى الأبواب الشيطانية كما قال ترتليانوس بأنَّها ” باب الشيطان ونبع الشرّ”.

من الأفضل إذاً أن نضع نظرة الآباء إلى المرأة في إطارها التاريخي الذي كتبت فيه وأن نأخذ بعين الاعتبار اسلوبهم الأدبي. فكما بولس كذلك آباء الكنيسة، وإن تغيرت ظروفهم، كانوا مرتبطين بأفكار زمنهم عن المرأة، وتأثروا بالميراث الثقافي الوثني. وهذه المعطيات البيئية والثقافية تتناقض مع روح الانجيل في كثير من الأمور نراها تناقضات واضحة في كتاباتهم. فتارّة يعطونها أغلب حقوقها، وتارة أخرى يحرمونها من أبسط الحقوق.

أما احتقار الآباء في بعض الأحيان للمرأة ليس حكماً على ماهيتها، ولكن على لحظة اتباعها أهوائها مبتعدة عن صورة الله فيها. فلهذا من هذه الزاوية نفهم الكتابات اللاذعة التي تتناول النسوة اللواتي قدمن شهواتهنّ وأجسادهنّ، واعتنين بالزينة والتبرّج مهملين الجمال الداخلي الحقيقي. ليس البشر محكومين  أخلاقياً لمجرد انتمائهم إلى جنس معيّن. فيمكن للرجل أن يكون أدنى أخلاقياً من المرأة، عندها على المرأة إن ضعف أخلاقياً أن تؤنبه وتقوده للمسيح، وهكذا الرجل إن ضعفت المرأة عليه أن يؤنبها. فالمرأة رفيقة الرجل في مسيرة المسيح وكلاهما واحد في الإنسانية.

دعوة المرأة اليوم

القرن الواحد والعشرين الذي أوشكنا فيه، مثخناً بجراحات أثيمة، ومبتلى بأزمات، هو اليوم بحاجة إلى رعيل من النساء أكثر من أيّ عصر مضى. وحان الوقت كي تبلغ المرأة الكمال في تحقيق دعوتها الكنسيّة وفي المجتمع الاشعاع والسلطة والنفوذ، وهذا ما لم تقدر المرأة على اكتسابه إلى اليوم. وإذ تشهد البشرية تغييرات جذرية، يمكن للمرأة المشبعة بروح الانجيل، أن تبعد العالم عن الانحراف وتساهم كما الرجل في بناء مجتمع يتميّز بإنسانية أكبر.

Leave a comment