لا تغرب الشمس على غيظكم

لا تغرب الشمس على غيظكم

راهبات دير القديس يعقوب الفارسي المقطّع

 

اصطحبني أحد الإخوة إلى قرية قريبة قائلاً: سوف أريك مشهداً مؤثّراً ومعلِّما في الوقت نفسه.

كان جوّ القرية يوحي بالبساطة الشديدة والمحبّة والحياة المسيحيّة التي تجمع بين أفئدة أبنائها. كانت القرية بكراً لم تفسد المدنيّة نضارتها، أهلها بسطاء بلا علم وبلا فلسفة، يمارسون الفضائل المسيحيّة بلا تكلّف إذ يتسلّمها جيل الصغار عن آبائهم بعفويّة وبديهيّة.

وفيما نحن سائرون بتمهّل نمتّع ألحاظنا بسحر الطبيعة، ونتنشّق هواءها العليل، إذا بنا نلتقي بشيخين قاربا السبعين من العمر. لكزني صاحبي هامساً: انظر إليهما، إنّهما موضوع حديثنا، وسوف أسوق لك خبرهما عندما يجاوزانا.

أخذ مرافقي يخبرني قائلاً: بينما كان هذان الرجلان، وهما أولاد عمّ، يعملان ذات يوم في الحقل، حدثت بينهما مناقشة كلاميّة ناتجة عن سوء تفاهم وتغاضبا وتشاجرا، فترك أحدهما الآخر ورجع إلى منزله وكأنّ شيئاً لم يكن، إذ إنّ الموضوع الذي كانا يتناقشان حوله موضوع تافه.

وبعد ساعة من هذا، جاء الرجل الذي ترك ابن عمّه، وعاد إلى بيت ابن عمّه ونادى قائلاً:

–           هل فلان هنا؟

–           لا يا عمّ، إنّه ما زال في الحقل.

–           حسناً سأعود بعد قليل.

وفعلا عاد بعد ربع ساعة يقول:

–           إيه ألم يأت بعد ابن عمّي؟

–           لا لم يأت بعد. تفضل. لماذا تسأل عنه؟ هل من أمر مهمّ؟

–           لا. سوف آتي بعد قليل.

راح هذا الرجل يتمشّى قرب منزل ابن عمّه على أمل لقائه، وهو ينظر بين الفينة والأخرى نحو السماء متنهّداً. ثمّ ما عتم أن أعاد الكرّة مرّة واثنتين وأربع وهو يتفقّد قريبه حتّى تعجّب أهل البيت جدّاً، وانتابهم القلق إذ ليس من عادته أن يلجّ في أمر ما. ولمّا وجده قد تأخّر في الإياب، أسرع متّجهاً نحو الحقل، وقد أخذت الشمس تشرف على المغيب… وهناك لقي ابن عمّه عائداً. فوقع على عنقه مقبّلاً إيّاه وطالباً منه الصفح، وهو يشير إلى الشمس ودموعه تنحدر على لحيته. بادره ابن عمّه قائلاً: لا بل سامحني أنت يا ابن عمّي الحبيب، أنا الذي أخطأت، أنا رفعت صوتي بك، سامحني أرجوك فإنّي قد أحزنتك. خشيت أن تغرب الشمس قبل أن نلتقي… والربّ قال على لسان رسوله: “لا تغرب الشمس على غيظكم…”

ولمّا انتشرت القصّة علم سكّان القرية أنّ الرجل كان قلقاً لئلا تغرب الشمس قبل أن يطلب الصفح من أخيه الذي كدّره. إلى هذا الحدّ كانوا يعيشون الإنجيل بالروح والنصّ معاً في بساطة متناهية وتدقيق مذهل.

فلمّا سمعت أنا هذه القصّة قلت: إنّي أتأسّف على ما أرى وما أسمع كلّ يوم من مشاحنات ومخاصمات بل ومحاكم وبغضة وتفرقة حتّى الأذى. وأتساءل كيف يستطيع الإنسان المسيحيّ أن يعيش في عداوة وهو تلميذ المحبّة؟! كيف يستطيع أن يبغض إنساناً أو يحتدّ على أحد، وهولا يعلم إن كان يعيش حتّى المساء؟ بل كيف تدوم العداوة لا أيّاماً فقط بل وسنين، ونحن نمارس كلّ طقوسنا الكنسيّة؟ فكان الجواب من رفيقي: لقد عدمنا الحياة الروحيّة، لا بل المسيحيّة برمّتها. نعم، يا صديقي، إنّنا حينما نحفظ المحبّة نُعرف بأنّنا تلاميذ الربّ حقيقة، لأنّه هو القائل: “بهذا يعرف الجميع أنّكم تلاميذي إذا كان لكم حبّ بعضكم لبعض”.

إنّ مثلاً واحداً من هذه الأمثلة الشاهدة للمسيح، لهو أبلغ من مئات العظات وآلاف الكتب. لأنّه لا توجد شهادة للمسيح أبلغ من شهادة الحياة، ولا توجد قوّة في الحياة الروحيّة، والمسيحيّة بشكل عام، أقوى من قوّة حفظ وصايا المسيح. فأنعم يا ربّ علينا، نحن أولادك، بنعمة السلام القائم على المحبّة الحقيقيّة، واحفظنا من البغض والانقسام وكلّ ما هو ضدّك أيّها الحبّ الإلهيّ الدائم إلى الأبد….

عزيزي القارئ، كم نتمنّى لو كان جهادنا في هذا الصوم المبارّك حفظ المحبّة والصفح، لنسمع يوماً من فمه القدّوس: “من أحبّ كثيراً يغفر له الكثير، ومن أحبّ قليلاً يغفر له القليل” (لو 47:7). نسأل الله أن تكون الأيّام الأربعينيّة المقدّسة أيّام بركة وجهاد وتنقية. ألا بارك الله جهادكم وسعيكم.

Leave a comment