طعم القيامة

طعم القيامة

الأرشمندريت توما بيطار

 

يا إخوة، فيما نُطلّ على الصّوم المبارَك، يطالعنا إنجيل اليوم بأمرين أساسيّين، علينا، في كلّ حين، أن نحفظهما، هما الصّدقة والصّلاة. هذان، في الحقيقة، هما هدف الصّوم. والإنسان، الّذي يعرف كيف يتعاطى الصّدقة، يعرف كيف يتعاطى محبّة الآخرين. وإن عرف أن يتعاطى محبّة الآخرين، فهذا معناه أنّه يعرف أن يتعاطى محبّة الله. وفي آن معًا، غاية الصّوم هي الصّلاة، هي أن ندخل في عشرة الله، أن نصير في الله، أن يكون ذهننا مشدودًا إلى فوق، في كلّ حين.

هذان الأمران فيهما طعم القيامة، بلا أدنى شكّ. ومَن عرف أصول تعاطيهما، عرف أمرًا أساسيًّا جدًّا، يؤثّر في مجمل حياته الرّوحيّة. اللاّفت، في الحديث عن هذين الأمرين، أنّ الرّبّ الإله يؤكّد موضوع ممارسة الصّدقة والصّلاة في الخفاء. بكلام آخر، الرّبّ الإله يريد أن يحذّرنا من عدوٍّ خبيثٍ جدًّا، قائمٍ في نفوسنا، وهو المجد الباطل. المجد الباطل هو عدوّ كلّ الفضائل الّتي يمكن أن يتعاطاها الإنسان، لا بل يمكن أن يكون هدفًا لكلّ الفضائل الّتي يسلك فيها الإنسان، أو يظنّ أنّه يسلك فيها! إذا جعلنا في أنفسنا المجد الباطل هدفًا، فإنّ كلّ شيء نصنعه، في مجال الفضيلة، مهما تعبنا فيه، يَفسُد! والمجد الباطل يدلّ على أمرين:

الأمر الأوّل هو أنّ الإنسان يصنع ما يصنعه من أجل نفسه، لأنّه مغرور بنفسه، لأنّه يظنّ نفسه ذا شأن مهمّ! وما دام يصنعه لأجل نفسه، فإنّه لا يصنعه لله، ولا يصنعه للآخرين. إذًا، عمله لا يأتي من محبّة، ولا يُفضي إلى محبّة.

 أمّا الأمر الثّاني، فهو أنّ الإنسان، الّذي يتعاطى المجد الباطل، إذا كان إنسانًا مغرورًا؛ فهو، في آن معًا، يطلب أن يتعامل الآخرون معه باعتباره قدّيسًا، باعتباره فاضلاً، باعتباره إلهًا، بمعنى من المعاني!

المجد الباطل، إذًا، يدلّ على أنّ الإنسان يعبد نفسه، ويعمل كلّ ما يعمله، ويتعب، من باب عبادة الذّات. لهذا، علينا أن ننتبه، في كلّ حين، حتّى نتعاطى الأمور في الخفية؛ لأنّ مَن يعرف أن يتعاطى الأمور في الخفيّة ينطلق من حيث إنّ الله يرى في الخفاء. الله لا يرى ما يراه النّاس، وبالطّريقة الّتي يرى النّاسُ بها الأمور. الله يرى ما في القلب، ويطلب ما في القلب. الحديث عن الصّدقة، هنا، ليس حديثًا عن كمّيّة من المال يُنفقها الإنسان في الإحسان. الرّبّ الإله يطلب أن يكون لدينا هَمُّ الصّدقة، هَمُّ الإحسان، هَمُّ الإنسان الآخر. بكلام آخر، الرّبّ الإله يريدنا أن نكون منعطفين على الآخرين، لا سيّما على المحتاجين، بعطف، وحنان، وحبّ؛ وهذا يعلّمنا كيف نعطي، وماذا نعطي، وكيف نتخطّى أنفسنا؛ لأنّ الإنسان الّذي يجعل الله نصب عينيه، في موضوع العطاء، يَحسَب أنّه يعطي الله ولا يعطي النّاس! وبالأحرى، يعطي الله من خلال النّاس. هو يعطي محبّةً! يأخذ محبّة من فوق، ويعطي محبّة بين النّاس.

أمّا بالنّسبة إلى الصّلاة، فأيضًا الخفيةُ دستور إيمان، بمعنى من المعاني. الإنسان الّذي يعرف أن يصلّي في الخفاء، فهذا يصلّي حقيقةً، ويعرف أنّه يصلّي لله، ولا يؤدّي واجبات، ولا يطلب مجدًا من النّاس.

إذًا، إذا تروّضنا على العمل في الخفاء، سواء في مجال الصّدقة، أم في مجال الصّلاة؛ فإنّنا نتحرّر من عدوّ خطير يقيم فينا، هو المجد الباطل، الّذي يحاول، دائمًا، أن يتلبّس بألف ثوب وثوب، لكي يبقى متسلِّطًا على كلّ جهد، وعلى كلّ سعيﹴ إلهيٍّ من قـِبَلـِنا!

عادةً، الّذين يطلبون المجد الباطل يتذرّعون بأنّهم يريدون أن يَظهروا للنّاس لكي يساعدوهم، لكي يعطوهم المثل الصّالح، لكي ينفعوهم. وهذا كذب! نحن ننفع النّاس، إذا كان ما نفعله في الخفية. الرّبّ الإله، الّذي يرى في الخفية، هو يعلّم النّاس، ويعلّم النّاس بطرق هو يعرفها. المجد الباطل ليس، أبدًا، بابًا للعلم. إنّه يُفسد العلم، ويفسد التّعب الّذي يكابده كلّ مؤمن. لهذا، سبيلنا أن نتروّض على الخفية في كلّ ما نعمله من جهة الله، لأنّ هذا يرسّخ حضور الله في حياتنا، ويجعلنا نتجذّر في عمل الله، بنِعَمِ الله. فمن له أذنان للسّمع، فليسمع.

 

  • عظة في السّبت 28 شباط 2009 حول متّى6: 1- 13

 

 

Leave a comment