مملكة الحاجة أو حاجة الممكلة؟

مملكة الحاجة أو حاجة الممكلة؟

إعداد راهبات مار يعقوب الفارسي – دده، الكورة

 

إنّ التعامل مع المجتمع، في أيّامنا هذه، أمرًا ليس قليل الأهمّيّة أو السهولة، وبخاصّة بالنسبة إلى شباب هذا العصر، ولهذا نراهم مرّات كثيرة حيارى في اتّخاذ موقف صحيح من بعض الأمور التي تواجههم، والتي غالبًا ما تتسيّد عليهم. ولهذا سنحاول حصر المشاكل الأساس التي يتّسم بها مجتمعنا.

1)    الاستهلاكيّة: الرغبة المتواصلة لاستهلاك خيرات هذه الأرض بدأت منذ زمن طويل. ولكنّها انصبّت في الآونة الأخيرة، أكثر فأكثر، على الحواسّ. إنّها تسعى، من دون انقطاع، إلى إثارة الحواسّ وتهيّجها، وتعمل، من دون كلل أو ملل، على إيقاظ الشهوة والمتعة ليصبحا مرتبطَيْن بها ارتباطًا وثيقًا لا ينفصم، وبذلك تصطاد الجميع، بإصرار، بداعي الانشراح واللذّة. انظروا، مثلاً، الدعايات الخاصّة بالمأكولات كيف تركّز على الذوق والشهيّة، والتي تدعو الجميع إلى الإقبال على الطعام بنهم، فينقادون لها صاغرين، وغير مدركين الخطورة الناجمة عن ذلك. على كلّ الأحوال يسمّي علم النفس الخضوع إلى الشهوة واللذّة انحرافًا.

2)    فنّ الابتكار: تسيطر الصورة بشكل منقطع النظير في عصرنا، وهذا ما نلحظه في الدعايات إن كان في التلفزيون أو في الشوارع. ورغم أنّ المحاولات تجري، أحيانًا، لحصرها، إلاّ أنّ قوّتها تبقى نافذة، وجاذبيّتها تتغلغل بشكل سِحريّ، وهذا يعود إلى فنّ الإعلان المثير، في غالب الأحيان، والذي يضغط على مشاعر الناس، ويسبيها، بواسطة الصورة. وهكذا، شيئًا فشيئًا، يتكوّن مثالٌ لإنسان سطحيّ محبّ للمظاهر يولي كلّ الأهميّة والاعتبار للمظهر وليس للجوهر، مجيزًا لنفسه كلّ “ما يلمع” فيما هو فقير روحيًّا ومهشَّم نفسيًّا.

3)    التكنولوجيا: إنّ الراحة التي نتنعّم بها نتيجة لتطوّر التكنولوجيا مذهلة وخطيرة في آن معًا، لأنّها تمدّنا بقوّة كاذبة، وأحيانًا بقوّة فائقة، إذ تجعلنا، مرّات كثيرة، نشعر وكأنّنا أسياد العالم، قادرين على كلّ شيء. وتخوّلنا ثقة كبيرة، متملّقة إيّانا بأنّ كلّ التكنولوجيا هي تحت إمرتنا وخدمتنا، منسجمة، بذلك، مع الإعلان الذي سبقت الإشارة إليه. وبشكل عامّ، ونتيجة الشغف بالتكنولوجيا، سيطر السهو عن طبيعتنا الفاسدة، وأضعفها، لدرجة أنّنا بتنا لا نعرف الجوهر من المظهر، والأساسي من الثانوي، والكامل من النافل.

إزاء كلّ هذا ماذا كان ردّ الكنيسة؟ النسك والإمساك. أي التقليل الطوعيّ على ازدراد الملذّات إن كان عن طريق الصوم، أو التمرّس على خشونة الحياة وقساوتها، أو عن طريق ضبط النفس إزاء المغريات والمغويّات.

يذكّرنا هذا الإمساك، على الدوام، بأنّنا لسنا آلهة، ولسنا كلّيّي القدرة وغير مائتين، فلا نعود ونتشدّد في تحقيق مطالبنا، لأنّ من يتشدّد في تجسيدها هو، دائمًا، شخص تعيس لا يشبع، إذ ما إن يحقّق مطلبًا، حتّى ينتصب أمامه آخر، وقد يكون أكثر أهمّيّة ولزومًا، وهكذا… ونتعلّم بأنّ  كلّ ما هو زائد عن الحاجة يصبح ثقلاً وعبئًا. بالإمساك ندخل إلى أعماق الأمور والأشياء، فلا يعود لها من سلطان علينا لتجذبنا بمظاهرها، فتسود علينا. وهكذا بمشاركتنا في نسك الكنيسة الأرثوذكسيّة، والذي يرافقه الاشتراك في الأسرار المقدّسة، والانعكاف على الصلاة وعيش المحبّة الإنجيليّة نصل إلى الحرّيّة الداخليّة. لا يرفض النسك الأرثوذكسيّ المادّة في حدّ ذاتها ولا يمقتها – فلقد أوجدها الله لخدمتنا ومنفعتنا – إذ يعتبر أنّ المشكلة ليست في المادّة، وإنّما في عبوديّتنا لها. فنحن عبيد طالما تسودنا الحاجة، ونتحرّر عندما نؤمن بأنّ الحاجة الوحيدة والأساس هي الوصول إلى الملكوت العلويّ، وكلّ ما عدا ذلك يُزاد.

* عن مجلّة الشباب اليونانيّة.

Leave a comment