لا تدينوا لكي لا تـُدانوا!

لا تدينوا لكي لا تـُدانوا!

الأرشمندريت توما بيطار

“لا تدينوا لكي لا تُدانوا”. هذا قول عظيم! هذا قول نابع من جوف الله! لم يقل الرّبّ: “لا تخطئوا”، مع أنّه قال للّذين غفر لهم ألاّ يخطئوا من بعد. لكن، الرّبّ يعرف أنّ الإنسان أعجز من ألاّ يخطئ. حتّى لو رغب في ذلك، فإنّه لا يستطيع. لذلك، الّذين لهم نصيب مع الله ليسوا بلا خطيئة؛ بل هم الّذين لا يدينون أحدًا. عدم إدانة الآخرين معناه أن يجعل الإنسانُ خطيئته، كلّ حين، أمام عينيه؛ أن يعرف نفسه على حقيقتها. مَن كان مُدرِكًا أنّ بيته من زجاج، فإنّه لا يلقي الحجارة على بيوت النّاس. لذلك، أمُّ الفضائل أن يعرف الإنسانُ نفسه، أن يعرف الإنسانُ حقيقة نفسه، أن يعرف الإنسانُ خطيئة نفسه: “خطيئتي أمامي في كلّ حين” (مز50: 3). هذا، أيضًا، قولٌ عظيم. إذا ما جعل الإنسانُ خطيئتَه أمام عينيه، كلّ حين، فإنّه يتّضع! ما معنى الاتّضاع؟! أن يتّضع الإنسانُ معناه أن يعي، وأن يعتبر نفسه وضيعًا، أن يرى حقيقة نفسه، بمعنى ألاّ يعتبر نفسه كبيرًا، ولا عظيمًا. التّواضع، في الحقيقة، مسلكٌ واقعيّ جدًّا، الإنسان يحتاج إليه. مأساة الإنسان أنّه يظنّ نفسه بلا خطيئة! يظنّ نفسه كبيرًا! يظنّ نفسه عظيمًا! يستصغر خطاياه، ويستعظم خطايا الآخرين! يبرّر خطاياه، ويلوم الآخرين على أبسط الخطايا! وهذا يجعل الإنسانَ يسلك في الأوهام! يجعله مقيمًا في الكذب! هذا يجعله في قلق دائم، في توتّر دائم! لذلك، النّاس، بالنّسبة إليه، مصدر إزعاج دائم، لأنّه يرى خطايا الآخرين، ولا يرى خطايا نفسه. وطبعًا، كلّ مَن سلك في هذا المسرى وجد نفسه، من حيث يدري ولا يدري، إنسانًا ممثّلاً، يتظاهر بما ليس عليه. لذلك، مَن لا يجعل خطيئته نصب عينيه، فلا يمكنه إلاّ أن يسلك في الكذب. مستحيل عليه ألاّ يسلك في الكذب! ويعمل، دائمًا، على تمويه أكاذيبه وخطاياه؛ ومن ثمّ، على تمويه بشاعات نفسه! كلّ إنسان، بكلّ أسف، نظيف وجميلٌ في عين نفسه.

طبعًا، هذا يستدعي أن يستعمل الإنسانُ مساحيقَ التّجميل، حتّى يجمّل نفسه من الخارج، حتّى يظهر جميلاً. يستعمل مساحيق التّجميل الكلاميّة! كثيرون يعرفون صناعة الكلام معرفةً جيّدة، فيما قلوبُهم سوداء. يستعمل الإنسان مساحيق التّجميل الخاصّة بالتّهذيب! يهتمّ بالتّصرّف بتهذيب مع النّاس. لكنّ التّهذيب ليس محبّة. التّهذيب قد يكون مجرّدَ تصرّف خارجيّ، يُخفي الإنسانُ بوساطته ما فيه من عنف وشراسة. الإنسان الّذي لا يجعل خطيئته نصب عينيه يُمضي معظم حياته يخترع مساحيق تجميل، ويسعى لتمويه أكاذيبه. موضوع مساحيق التّجميل الّتي يستعملها الإنسان، نساءً ورجالاً، في المجتمع، لا شكّ في أنّ له علاقة بحقيقة قلب الإنسان. مَن هو الّذي يستعمل مساحيق التّجميل؟! هو الّذي يعي، في قرارة نفسه، أنّه ليس جميلاً كفاية، الّذي يعي أنّه بشع. على العكس، الإنسان المكتفي بما هو فيه، الّذي يشكر الله على ما أعطاه، لا يحتاج إلى مسحوق تجميل. هذا يكون جميلاً، لأنّه في داخله جميل. لذلك، إذا كان القلب غير مستقيم، فإنّ كلّ تصرّفات الإنسان تكون غير مستقيمة! والمنطلق يكمن هنا، بالذّات: “لا تدينوا لكي لا تُدانوا”، اجعلوا خطاياكم، دائمًا، نصب أعينكم؛ فإن فعلتم ذلك، فإنّكم، عندئذٍ، لا تكتفون، فقط، بألاّ تدينوا النّاس، بل ترحمونهم، أيضًا. كلّما عرف الإنسان نفسه، عرف أنّ الخطيئة صعب استئصالها، وعرف ضعفه! وكلّما عرف ضعفه، شعر بالحاجة إلى رحمة الله. لا يمكن أحدًا منّا أن يكون له نصيب مع الله، إن لم يرحمه الله. هذا الوعي يجعله يرأف بالنّاس، يجعله يرحم النّاس. الإنسان الّذي يدين نفسه، ويمتنع عن إدانة الآخرين، لا يلبث أن يرحم الآخرين، لا يلبث أن ينعطف على الآخرين، لا يلبث أن يسامح الآخرين، لا يلبث أن يبرّر الآخرين.

إذًا، هذا القول للرّبّ الإله كافٍ، بحدّ ذاته، لأن يكون لأيّ واحد منّا برنامج حياة كاملة. إذا عرف الإنسان أن يسلك في هذا القول الإلهيّ، يومًا بعد يوم، فإنّ حياته تستقيم، وأموره تستقيم، وعلاقته بالنّاس تستقيم، ونظرته إلى الأمور تستقيم، وعلاقته بالله تستقيم، وعلاقته بنفسه تستقيم. وكلّ هذا ينعكس عليه سلامًا في القلب، وفرحًا في الرّوح. إذ ذاك، لا يكون، في تعامله مع الآخرين، في حال انزعاج دائم. يفرح بالآخرين، على الرّغم من كلّ شيء، ويتعاطى معهم بسلام. الإنسان الّذي يعرف خطيئة نفسه هو إنسان يعي أنّ هناك موتًا! ومن ثمّ، يعي أنّنا جميعًا لنا مشروع مشترك واحد، وهو الخلاص. كلّنا في مركب واحد. إذا لم نتعاون أحدنا مع الآخر، فإنّ هذا المركب، في وسط العواصفِ، عواصفِ العمر، سوف يتحطّم، ولن يخلص أحد. لذلك، أنا أحتاج إليكم، وأنتم تحتاجون إليّ، وكلّ واحد منكم يحتاج إلى الآخرين؛ حتّى نتمكّن جميعًا، بما أوتينا من نِعَمِ الله وبركاتِه، من المحافظة على المركب، والاستمرار بالسّفر بوساطته إلى الضّفّة الأخرى. نحن، هنا، في حالة عبور! هنا، ليس عندنا مقام ثابت! “ليست لنا ههنا مدينة باقية، بل نطلب الآتية” (عب13: 14). نحن ذاهبون، عابرون إلى هناك، إلى وجه الله. هنا، نُعـِدُّ العدّة، كلّ يوم، حتّى نسافر إلى هناك. همّنا أن نصل، أن نبلغ إلى هناك. وحتّى نبلغ إلى هناك، كلّنا يحتاج إلى الجميع. لا يمكن الإنسان أن يخلص وحده! أجزاء السّيّارة إذا لم تعمل متعاونة، فإنّ السّيّارة لا يمكنها أن تُقلع، ولا يمكنها أن تسير، ولا يمكنها أن تبلّغ الّذين فيها إلى حيث يريدون أن يبلغوا. لهذا السّبب، نحن نحتاج إلى أن يسامح أحدُنا الآخر، إلى أن يرحم أحدُنا الآخر، إلى أن يتعاون أحدُنا مع الآخر، إلى أن يحتضن كلُّ واحد منّا الآخر. كيف نفعل ذلك؟! نفعل ذلك بألاّ يدين أحدنا الآخر. وكيف لا يدين أحدنا الآخر؟! بأن يدين نفسه! بأن يجعل خطاياه نصب عينيه! الحياة الرّوحيّة بأكملها مركَّزة في هذا القول الإلهيّ. وإذا عرف الإنسان نفسه، ولم يدن أحدًا؛ فإنّه، متى أتى إلى الدّينونة، يريه الملائكةُ خطاياه، ويقولون له: “هذه خطايا مَن؟” فيقول: “هذه خطاياي، لكنّني لم أَدِنْ أحدًا؛ فمن حقّي، الآن، على الرّبّ الإله ألاّ يدينني”. إذ ذاك، كلّ الخطايا الّتي سبق لنا أن وقعنا فيها، في حياتنا، تُغفَر لنا. الحقيقة أنّ الإنسان الّذي لا يدين أحدًا يتعلّم، شيئًا فشيئًا، أنّ الخطيئة لا تنفع. وهذا يجعله يمجّ الخطيئة؛ يرفض الخطيئة؛ يقتنع، في قرارة نفسه، بأنّ الخطيئة شيء قبيح.

إذًا، من هذا القول، أيضًا، يتعلّم الإنسانُ أن يرفض، كيانيًّا، خطيئتَه، وأن يقاومها. لذلك، يا إخوة، هذا القول الإلهيّ العظيم مُعطًى لنا بمثابة جوهرة من عند الله. هذه جوهرة كافية للإنسان، إذا ما أراد، لكي يحيا فيها، ولكي يتعلّم كلّ الفضائل، ولكي يتعلّم كيف يتعامل مع الدّنيا الّتي هو فيها. إذ ذاك، يتسلّل إليه فرح الرّبّ، وحياة الرّبّ، من حيث لا يدري. الله يعطينا، إذ ذاك نفسه، بالكامل! إذا لم ندن الآخرين، فالله لا يديننا. وإذا لم يدِنّا الرّبُّ الإله، فإنّه يعطينا نفسه، بصورة كاملة وكلّيّة. يُدخلنا إلى قلبه، وإلى فرحه.

فمَن له أذنان للسّمع، فليسمع.

عظة حول متّى7: 1- 8، السّبت 20 حزيران 2009

 

Leave a comment