محبة الذات

محبة الذات

الميتروبوليت إيروثيوس فلاخوس

 

أحد الأهواء الرئيسية التي تسود على الإنسان هي محبة الذات. كما سنرى فيما يلي، محبة الذات هي أم كل الأهواء والرذائل ومرضعتها.

قال المسيح مشيراً لمحبتنا لذواتنا تلك: “من يحب حياته يهلكها، ومن يبغض حياته في هذا العالم يحفظها إلى حياة أبدية” (يو25:12). الكلمة المترجمة “حياة” تعني أيضاً “نفس”. إنها حقيقة أن أياً من يحب حياته وذاته لدرجة مبالغ فيها يهلك تماماً. عندما يصف القديس بولس الأهواء التي سوف تميز الناس في الأزمنة الأخيرة فإنه يذكر محبة الذات من بينها، بل أنه يضعها في أول القائمة: “ولكن اعلم هذا أنه في الأيام الأخيرة ستأتي أزمنة صعبة. لأن الناس يكونون محبين لأنفسهم، محبين للمال، متعظمين، مستكبرين، مجدفين، غير طائعين لوالديهم، غير شاكرين، دنسين” (2تي3: 1-2).

هذان المرجعان من الكتاب المقدس كافيان في حد ذاتهما لإظهار الضرر الكبير الذي يسببه هوى محبة الذات للجنس البشري. سوف أحاول الآن وصف محبة الذات، وتحليلها لكي أحدد نتائجها الأليمة، ولكي نرى في النهاية كيف يمكن أن نتحرر منها.

1- ما هي محبة الذات

محبة الذات هي محبة عظيمة وطاغية لذواتنا. بحسب القديس نيكيتا ستيثاتوس، محبة الذات هي “حب مجنون للجسد يجعل الراهب محباً لنفسه، أي لنفسه وجسده”. إنها تغربه عن ملكوت الله، وعن الله نفسه. لو أن أحداً أحب جسده بطريقة زائدة وحصرية، متجاهلاً الله وأخيه الإنسان تماماً، فإننا نقول أنه يحب ذاته ويعاني من هوى محبة الذات. يقول القديس مكسيموس المعترف: “محبة الذات هي هوى التعلق بالجسد”. يشير نفس القديس في موضع آخر لهذا الهوى على أنه “محبة مجنونة للجسد”.

نستطيع أن نقول بوجه عام مع القديس مكسيموس أن محبة الذات هي ” محبة شهوانية مجنونة للجسد، وعكسها هي المحبة وضبط النفس”. تضاد محبة الذات المحبة وضبط النفس، تماماً كما تضاد المحبة وضبط النفس محبة الذات. من الواضح أننا لا نعني بمحبة الذات الاعتناء بالجسد في إطار طبيعي، لكننا نعني الاهتمام الزائد الشهواني بكل من الجسد والنفس.

يكتب القديس مكسيموس محللاً السمات المميزة لمحبة الذات قائلاً أن هوى محبة الذات “يقترح على الراهب أنه ينبغي عليه أن يشفق على جسده، وأنه ينبغي عليه تحت مسمى رعايته بشكل مناسب أن يأخذ طعاماً أكثر من المعتاد”. هكذا، قليلاً قليلاً، يسقطه في فخ الانغماس في الملذات على حين أنه يجعل العائشين في العالم “يُشبعون احتياجات الجسد دفعة واحدة”. يحثنا هوى محبة الذات على أن نهتم أكثر مما يجب بالاستمتاع بالطعام والملذات الأخرى والراحة واليسر، وأن نشبع الشهوات الأخرى المتنوعة. يجعلنا هوى محبة الذات نفضل “راحة الجسد على آلام الفضيلة”، ويجعلنا نكف عن أن نضع على أنفسنا بإرادتنا أعمالاً متنوعة “خصوصاً من جهة الجهادات الخفيفة المتعلقة بممارسة الوصايا”. من ثم يجعل النفس متباطئة ومتراخية من جهة العبور في طريق الهدوئية، كما يقول القديس غريغوريوس السينائي. لا شيء يجعل نفوس المجاهدين في النسك “متباطئة ومهملة وغافلة” مثل هوى محبة الذات. هكذا يصف القديس نيكيتا ستيثاتوس أيضاً محبة الذات على أنها “خبيثة”، مشيراً إليها على أنها “رذيلة محبة الذات الخبيثة”.

المثال الدقيق على شخص يحب ذاته هو الغني الغبي في مثل المسيح. لقد كان يفكر في بناء مخازن جديدة لكي يجمع فيها كل خيراته ثم يقول لنفسه: “يا نفس لك خيرات كثيرة موضوعة لسنين كثيرة. استريحي وكلي واشربي وافرحي” (لو19:12). لم يكن الرجل الأناني مهتماً بالمرة بشفاء نفسه أو بمجد الله، ولا بخدمة إخوته. لقد كان مهتماً تماماً بنفسه، وبنفسه فقط.

كل ما قيل حتى الآن لوصف هوى محبة الذات يقودنا إلى فحص نتائجه الأليمة.

2- نتائج هوى محبة الذات

يرى القديس نيكيتا ستيثاتوس أن محبة الذات هي “عقبة ضد تقدم أولئك المتقدمين جيداً”. إنها تمنع الناس من تكريس ذواتهم لممارسة وصايا المسيح. “إنها توحي لهم بأمراض وعلل جسدية خبيثة، وبالتالي تتضاءل غيرتهم ويقتنعون بالتخلي عن جهادهم الروحي على أساس أنه يشكل خطراً على حالتهم الضعيفة”. بكلمات أخرى، من خلال خلق أفكار عن الأمراض المختلفة، تكف النفس عن جهادها النسكي لكي تحفظ وصايا المسيح ولكي تُشفى من الأهواء المختلفة التي تزعجها. بالتالي تكون محبة الذات، كما يقول القديس يوحنا السلمي، حجاب. إنها ليست فقط تمنع النفس من تحقيق شفائها، لكنها أيضاً تخفي الأهواء الموجودة داخلها. لا يريد الشخص الأناني أن يرى نفسه. إنه لا يريد أن يكون واعياً بفقره الروحي.

يسمي القديس مكسيموس محبة الذات أم كل الرذائل، لأنها تلد “الأفكار الثلاثة الأولى والأكثر عمومية التي للشهوة والغضب”. هذه الأفكار الثلاثة هي النهم، والبخل، وتقدير الذات. يرى نفس الأب أن محبة الذات هي أم الثرثرة واشتهاء الأطعمة اللذيذة التي تسبب الإباحية، وهي أيضاً أم البخل والكبرياء. بوجه عام، لو كان لدى المرء محبة للذات “فمن الواضح أن لديه كل الأهواء”.

ليست محبة الذات أم الأهواء فقط، ولكنها أيضاً أم لكل الأفكار الشهوانية. يتولد فكر النجاسة من فكر النهم. يحبل فكر تقدير الذات بفكر العُجب. تنبع من أفكار النهم والبخل وتقدير الذات كل الأفكار الأخرى كالغضب، والحزن، والامتعاض، والحسد، والنميمة الخبيثة وما إلى ذلك. تولد كل هذه الأفكار من محبة الذات (القديس مكسيموس).

يعلِّم القديس هيزيخيوس القس أنه لا يوجد شر أعظم من محبة الذات. محبة الذات هي أم تلد أطفالاً كثيرين. أطفال محبة الذات هم “العُجب، الرضا عن النفس، النهم، النجاسة، تقدير الذات، الغيرة، ورأس كل هذه هو الكبرياء”.

محبة الذات هي حجاب يغطي النفس، “بحيث أنه لا يمكن أن تتكشف فيها أسس العالم، أي الجواهر الداخلية للأشياء”، وذلك بحسب قول إيليا القس. يكون الشخص الأناني أعمى تماماً حيث أنه لا يستطيع رؤية القوة التي يوجه بها الله العالم والتاريخ. حيث أن الشخص الذي يحب ذاته لا يستطيع أن يتجاوز ذاته فيرى الله والآخرين، فإنه يكره كلاً من الإنسان والله. هذا هو السبب الذي يجعل القديس مكسيموس يأمر قائلاً: “كُف عن إرضاء ذاتك فلا تكره إخوتك من البشر؛ كُف عن محبة ذاتك فتحب الله”.

3- شفاء محبة الذات

يحتاج الإنسان أن يتحرر من هذا الهوى الرهيب الذي “للمحبة الخبيثة للذات”. لو أنه تصرف بطريقة ما لكي يزيل حجاب محبة الذات ويرى بوضوح الأهواء الخفية المترعرعة، فإنه سينتحب بمرارة وستصبح كل حياته غير كافية للتوبة حتى لو عاش مئات السنين ولو تدفقت الدموع من عينيه مثل نهر الأردن. “إنه لن يهتم بشيء آخر في هذه الحياة، معتبراً أنه ليس لديه الوقت الكافي لكي يبكي على نفسه، حتى لو كان سيعيش مئات السنين، وحتى لو رأى دموعاً تنفجر من عينيه مثل نهر الأردن بكامله” (القديس يوحنا السلمي).

يكمن الشفاء في اصطياد محبة الذات أينما وجدت. الطرق الرئيسية لتحقيق ذلك هي كالتالي.

ينبغي علينا أن نستسلم بالكامل لإنكار الذات. ينبغي علينا أن نكون مستعدين لتقديم أي نوع من التضحية، وأن نخضع بإرادتنا لأي نوع من الحرمان بهدف حفظ وصايا المسيح. يقدم لنا بولس الرسول دافعاً لكي نفعل ذلك عندما يقول: “ولكنني لست أحتسب لشيء ولا نفسي ثمينة عندي حتى أتمم بفرح سعيي والخدمة التي أخذتها من الرب يسوع لأشهد ببشارة نعمة الله” (أع24:20). ينبغي على المسيحي لكي يُشفى من محبة الذات، وبالتالي من كل الأهواء المرتبطة بها، أن يكون مستعداً لأي تضحية. ينبغي عليه أن يعمل عكس ما تمليه محبة الذات والأهواء العديدة الناتجة عنها. إنه يحتاج لضبط النفس في كل ما يعمله.

بالإضافة إلى ذلك، ينبغي على النوس أن يلجأ إلى الله. يتأتى ذلك من خلال الصلاة وكل المنهج العلاجي الذي للتقليد الأرثوذكسي. عندما يتذوق نوسنا حلاوة محبة الله، فإننا نتحرر من هوى محبة الذات، ونجد شجاعة لكي نحفظ ناموس الله ولكي نراعي مشيئة الله في حياتنا.

ينبغي علينا أن نبذل مجهوداً لكي نظهر المحبة نحو الآخرين من الناس. حيث أن محبة الذات تجعلنا ننغلق على أنفسنا، فإننا نحتاج لأن ننفتح على إخوتنا. من أجل ذلك، ينبغي علينا أن نضحي تماماً بأي شيء يجلب لنا الارتياح والراحة الجسدية. لقد عبَّر القديسون عن هذا الحب الباذل في حياتهم، حيث أنهم فضلوا خلاص الآخرين على خلاصهم. لا ينبغي إظهار هذه المحبة من خلال عطايا المال فقط، لكن “بالأكثر من خلال إعطاء المشورة الروحية والاعتناء بالناس في حاجاتهم الجسدية” (القديس مكسيموس).

بوجه عام، ينبغي أن تنمو بغضة الذات المقدسة. فكلما أبغضنا ذواتنا، كلما تحررنا من محبة الذات، وكلما اتسع أفقنا الروحي. لقد علَّم المسيح قائلاً: “من يبغض نفسه في هذا العالم يحفظها إلى حياة أبدية”(يو25:12). في نص آخر يعلن المسيح ويطلب أيضاً: “إن كان أحد يأتي إلي ولا يبغض أباه وأمه وامرأته وأولاده وإخوته وأخواته حتى نفسه أيضاً فلا يقدر أن يكون لي تلميذاً” (لو 26:14).  هذه البغضة المقدسة التي يجب أن تترسخ فينا تظهر بصورة رئيسية من خلال التوبة. فالتوبة الحارة المستمرة سوف تمنعنا من أن نحب أنفسنا برغباتنا الشريرة وأهوائنا الساقطة. تجعلنا التوبة نقسو على أنفسنا بحيث نرضي الله ونتبع مشيئته. إنها قاعدة للحياة الروحية أننا كلما أحببنا ذواتنا كلما كرهنا الله، وكلما كرهنا ذواتنا كلما أحببنا الله.

ينبغي علينا أن نتحرر من “محبة الذات الخبيثة”. للأسف، نحن نلاحظ أن كل طريقة الحياة محكومة بهذا الهوى. حتى المسيحيين واقعين بشدة في قبضته حتى أنهم لا يعيشون حياة المحبة. نحن مسيحيون، ومع ذلك لا نحب. تنقصنا السمة المميزة لتلاميذ المسيح لأننا أنانيون، ذاتيون، منفردون. ينبغي أن توجه كل جهودنا نحو التخلص من حجاب محبة الذات الذي يمنعنا من أن نصبح أشخاصاً وبالتالي أعضاءاً حقيقيين في كنيسة المسيح ومواطنين في ملكوت السموات.

* من كتاب “علم الطب الروحي”، تعريب د. نيفين سعد

Leave a comment