العنف من منظار إلهيّ!

العنف من منظار إلهيّ!

الأرشمندريت توما بيطار

 

يا إخوة، في العالم، هناك خراف، وهناك ذئاب. الخراف تُذبح، والذّئاب تَنْهَش. يسوع يرسل تلاميذه إلى العالم بمثابة خراف. بكلام آخر، العنف غير مقبول، وغير مسموح به، بالنّسبة إلى الّذين يتتلمذون للرّبّ يسوع. لا شيء، على الإطلاق، يبرّر العنف. كلّ قَتْلٍ ليس من الله، بل هو من الشـّيطان. لا يمكننا أن ننسب، لا من قريب ولا من بعيد، قتلاً أو عنفًا إلى الله. قد تقولون: “لكنّ الرّبّ يسوع، حين أتى إلى الهيكل، ورأى اليهود يبيعون ويشترون، صنع سوطًا، وضرب الّذين كانوا هناك، وصرخ بهم: ”بيتي بيت صلاة يُدعى، وأنتم جعلتموه مغارة لصوص“. إذًا، يسوع لجأ إلى العنف؛ فكيف نقول نحن، في ما يختصّ بنا، إنّ العنف هو من الشـّيطان؟!”.

يا إخوة، علينا أن ندرك أنّ بيننا وبين يسوع فرقًا في الطّبيعة البشريّة. طبعًا، الرّبّ يسوع إنسان، بكلّ معنى الكلمة؛ هو من طبيعة البشر. لكنّ طبيعته البشريّة كانت نقيّة، فيما طبيعتنا نحن غير نقيّة. طبيعة الرّبّ يسوع البشريّة هي من طبيعة آدم قبل السّقوط، حين كان، بعد، في الفردوس. لهذا السّبب، هي تختلف عن طبيعتنا البشريّة. الرّبّ الإله، منذ البدء، خلق الإنسان وفيه قدرة على أن يكون عنيفًا. لكنّ الرّبّ الإله صنع ذلك، لأنّه أراد أن يزوّد الإنسان بسلاح يردّ به عن نفسه هجمات عدوّ الخير. الرّبّ الإله كان يعرف أنّ الشـّيطان سوف يسعى، بالحيلة والخداع، لأن يتسلّط على الإنسان. لهذا السّبب، زوّده بأمرين: أوّلاً، زوّده بالوصيّة. قال له: “افعل هذا ولا تفعل ذاك. بإمكانك أن تأكل من كلّ ثمار الجنّة. أمّا من شجرة معرفة الخير والشـّرّ، فلا تأكل” (تك2: 16- 17). ثانيًا، أراده أن يكون عنيفًا في تمسّكه بالوصيّة. لذلك، زوّده بالقدرة على العنف، لكي يكون العنفُ لديه أداةً للتّمسّك بالوصيّة، والمحافظة على الحقّ الإلهيّ الّذي سُلّم إليه. لكن، لمّا عصى آدمُ ربَّه، وصار لا يسلك في الوصيّة الّتي سلّمه إيّاها، إذ ذاك، سقط. وبسقوطه، كلّ القوى البشريّة، الّتي كان الرّبّ الإله قد زوّده بها، تلوّثت بما يُسمّى “الأهواء”؛ ومن ثمّ، صارت ساقطة؛ وصار الإنسان يستعملها، بصورة تلقائيّة، للشـّرّ أكثر ممّا للخير. ومن هذه القوى الغضب والعنف.

أمّا يسوع، فإنّه كان عنيفًا، لكنّه كان متمسّكًا بالحقّ الإلهيّ. لهذا السّبب، عُنْفُه كان نقيًّا، فيما عُنْفُ الإنسان بات ملوَّثًا. لهذا، أرادنا الرّبّ الإله أن نكون كالخراف، لا كالذّئاب؛ وجعل أمامنا طريقًا؛ وزوّدنا بِنِعَمٍ علينا أن نقتنيها، بحيث تصير حياتنا مبرمَجَةً بها: “كونوا حكماء كالحيّات، وودعاء كالحمام” (متّى10: 16). الرّبّ الإله يعطينا الحكمة، ويعطينا الوداعة. هذه، في آن معًا، وصيّة وعطيّة. هو يوصينا بذلك، لأنّ نعمة الله لا تفعل فينا، إن لم نستجب لها. إذًا، العطيّة هي، دائمًا، وصيّة؛ والوصيّة مقرونة، دائمًا، بالعطيّة. الرّبّ الإله في حاجة إلى تعاوننا، ونحن في حاجة إلى نِعَمـِهِ؛ لأنّنا، من دونه، لا نستطيع أن نفعل شيئًا. هنا، يعطينا الحكمة، ويعطينا الوداعة. يعطينا، في الحقيقة، ما هو عليه. الرّبّ الإله نفسه هو الكلمة. إذًا، هو الحكمة، يعطينا من ذاته. وهو، في آن معًا، الوديع: “تعلّموا منّي، فإنّي وديع ومتواضع القلب” (متّى11: 29). إذًا، الرّبّ الإله يريدنا أن نصير على مثاله، أن نصير مثله، أن نصير مُسَحاء. الإنسان، إذا ما اقتنى الحكمة والوداعة، وإذا ما سلك فيهما؛ فإنّه، إذ ذاك، يصير مثل المسيح، ويصير خروفًا كحَمَل الله. وفي هذه الحالة، فقط، يستطيع الإنسان أن يتعاطى العنف. العنفُ، عند القدّيسين، مرتبط بالوداعة والحكمة. علينا أن نكون، أوّلاً، حكماء وودعاء؛ وأن نتمسّك، من ثمّ، بالحقّ كاملاً. إذ ذاك، لا بدّ لنا من أن نتعاطى العنف. وأكثر مَن يتعاطى العنف النّقيّ، في العالم، هم القدّيسون. القدّيسون يتعاطون العنف في مقاومتهم للشـّرّير، وفي مقاومتهم لأحابيل الشـّرّير، ولخداع الشـّرّير، ولكلّ ما يمتّ للشـّرّير بصلة. لذلك، القدّيسون هم أكثر من كلّ أهل الأرض عنفًا. لكنّهم يتعاطون ذلك في معرِض تمسّكهم بالوصيّة الإلهيّة. يعنفون في مواجهتهم لأهواء النّفس والجسد. عنفهم عنف داخليّ. عنفهم موجَّه ضدّ الأرواح الخبيثة. عنفهم موجَّه ضدّ الخطيئة الأساسيّة، الّتي هي الأهواء. وهذا يجعل علاقتهم بالنّاس علاقة ملؤها المحبّة والوداعة. القدّيسون لا يستعملون العنف ضدّ النّاس، بل يقتلون أنانيّاتهم عن النّاس: “أَحـِبَّ قريبَك كنفسك” (متّى19: 19؛ 22: 39)، و”ليس حبٌّ أعظمَ من أن يبذل الإنسان نفسه عن أحبّائه” (يو15: 13). إذًا، عنفهم هو عنف في الرّوح، وعنف ضدّ الأرواح الخبيثة، وضدّ الخطيئة، وضدّ كلّ ما له علاقة بالخطيئة، في حياة الإنسان. فيما العنف، في العالم، موجَّه ضدّ النّاس! العنف، في العالم، قتّال! عنف القدّيسين يُحيي! فيما العنف، في العالم، يجعل الإنسان مُستعبَدًا للشـّيطان، وللخطيئة، وللأهواء! عنف القدّيسين أداة للحرّيّة في الرّوح؛ لذلك قيل: “تعرفون الحقّ والحقّ يحرّركم” (يو8: 32). نحن نحتاج، إذًا، إلى العنف، لكي نتحرّر. النّاس، في العالم، يستعملون هذا الشـّعارَ، شعارَ “العنف من أجل الحرّيّة”؛ إنّما، بكلّ أسف، هذا مجرّد شعار أجوف؛ لأنّ العنف الّذي يتعاطونه يجعلهم مستعبَدين لخطاياهم، ونزواتهم، وأنانيّاتهم. لذلك قيل: “مَن يصنع الخطيئة، فهو عبد للخطيئة” (يو8: 34).

إذًا، العنف الّذي يتعاطاه النّاس، في العالم، مقرون بكذبة زرعها الشـّيطان في أذهانهم، مفادها أنّ العنف يحرّر. الشـّيطان يستعمل صنّارة، لكي يصطاد بها النّاس! يستعمل مفهومًا إلهيًّا، وهو أنّ العنف يحرّر! هذا، في الأساس، مفهوم إلهيّ؛ لكنّ الشـّيطان يُفرغه من مضمونه، بحيث يصبح العنف أداة للقتل والاستعباد؛ يصير الإنسان، بالعنف، مستعبَدًا، وقتولاً! والشـّيطان يذهب في ذلك إلى أبعد الحدود. الّذين يتبنَّون سيرة العنف قد يصلون إلى حدّ يجعلون فيه العنف برَكَة من عند الله، ويجعلون القتل مبرّرًا باسم الله! هناك ديانات قائمة على أساس العنف والقتل! الإله، عند بعض الدّيانات، هو إله غضوب، وإله قتول، وإله عنيف، وإله محتال، وإله عشوائيّ يتصرّف بالنّاس بطريقة تدلّ على خباثة، ولا تدلّ، أبدًا، على فضيلة! إذًا، الشـّيطان يذهب ببعض النّاس حتّى إلى حدِّ جَعْلـِهِم يعتبرون العنف والقسوة والقتل، في هذا العالم، ميزات إلهيّة. هنا، يسوع يضع حدًّا لهذا المنطق المريض: “أرسلكم كخراف بين ذئاب. [لكن، أعطيكم حكمة، وأعطيكم وداعة. ما أعطيكم إيّاه سيجعلكم أقوى، بما لا يُقاس، من كلّ الّذين يسلكون بذئبيّة، في هذا العالم]”. “سيسلمونكم إلى المحافل، وفي مجامعهم يجلدونكم، ويقودونكم إلى الولاة والملوك من أجلي، شهادةً لهم وللأمم. فإذا أسلموكم، فلا تهتمّوا كيف وبماذا تتكلّمون، فإنّكم ستُعطَون… ما تتكلّمون به… روح أبيكم هو الّذي يتكلّم فيكم… وتكونون مُبغَضين من الكلّ من أجل اسمي”. إذًا، هذا يوضح أنّ الّذين يسلكون بأمانة، من جهة الله، لا بدّ لهم من أن يكونوا مبغَضين من الكلّ، في هذا العالم، من أجل اسم الله. لكنّ الرّبّ يسوع يعطي، في نهاية القول، الضّمانة: “الّذي يصبر إلى المنتهى، فهذا يخلص”. الشـّيطان، من جهته، سوف يحاول، بما يأتيه من عنف، أن يجعلنا نقبل أن لا خلاص لنا بإلهنا. الرّبّ يسوع يقول، في المقابل: “الّذي يصبر إلى المنتهى، فهذا يخلص”. الرّبّ يسوع لا يَعـِدُنا، أبدًّا، بأنّنا سوف نكون بمنأىً عن العنف الّذي يمارسه هذا العالم ضدّنا. هو لا يعطينا كلمة في هذا الشـّأن، لكنّه يضبط عنفَ هذا الدّهر، وشرَّ هذا الدّهر، بحيث إنّ مَن يصبر ويثبت إلى المنتهى، فهذا يخلص.

طبعًا، هذا الكلام كلام إلهيّ، وهو لا يتحقّق إلاّ بقوّة الله؛ لكنّه يتحقّق، أيضًا، باقتبالنا له، بسلوكنا فيه، بثباتنا فيه، بصبرنا عليه. هذا هو خطّ سير المؤمنين بالرّبّ يسوع، في هذا العالم. ونحن، إذا ما سلكنا في هذا الدّرب؛ فإنّنا نأخذ، في كلّ حين، علامةً في القلب أنّ الرّبّ الإله معنا. وهذه العلامة نأخذها هنا: “كلّ الأمم أحاطت بي، وباسم الرّبّ قهرتها” (مز117: 10)، “الله الرّبّ ظهر لنا، فمبارك الآتي باسم الرّبّ”.

آمين.

* عظة حول متّى10: 16- 22 في السّبت 1 آب 2009

 

Leave a comment