الحفاظ على وجوهنا في عالم الفايسبوك

الحفاظ على وجوهنا في عالم الفايسبوك

الأب لورنس فارلي

نقلتها إلى العربية جولي عطية

نعيش حاليًّا في عالم الفايسبوك، أي في عالم يمتاز بوجود ما يعرف بـ “وسائل التواصل الاجتماعي”. كتب الكثيرون عن هذه الظاهرة الثورية، فبينما أشاد بها البعض، رثاها البعض الآخر، لكن يبدو أنّها وُجدت لتستمرّ. يتمّ معظم تواصلنا، أكان لأهداف جيّدة أم سيّئة، عبر فايسبوك وتويتر والرسائل القصيرة والالكترونية وغيرها من وسائل التواصل الاجتماعي. إنّني لست أهدف، عبر مناقشتي لهذه الظاهرة، إلى شجبها، ولا أنا أقترح أن يتمّ تعديل خدمة المعمودية، فيُطلب من المتقدّم إلى المعمودية “رفض الشيطان وجميع أعماله وملائكته وخدّامه وكبريائه وفايسبوك”. للتواصل الاجتماعي فوائده واستعمالاته، إنه يسمح لنا بالتكلّم مع أشخاص بعيدين في المسافة، وذلك بتواتر أكثر منه عند كتابة رسائل وإرسالها، إذا كانت هذه هي وسيلتنا الوحيدة للاتصال. أنا أمتلك حسابًا على الفايسبوك، وأستمتع بقراءة ما يريد آخرون بعيدون قوله ومشاركته. إلاّ أنّه يوجد خسائر في عالم الفايسبوك كما يوجد مكاسب.

تكمن إحدى هذه الخسائر في تغييرنا لمفهوم “التواصل”. هل يتذكّر أحدٌ الإعلان القديم “تواصل واتّصل بأحدهم”؟ في العام 1979، بثّت أنظمة بيل (Bell Systems) إعلانًا تلفزيونيًّا يُظهر أشخاصًا يهنّئون ويحضنون بعضهم البعض، مع شعار ختامي: “تواصل واتّصل بأحدهم – هاتِفْه”  (Reach out and touch someone – give ‘em a call). تضمّنت هذه النصيحة سخرية غير مقصودة، إذ إنّ الشيء الوحيد الذي لا يستطيع الشخص فعله عبر الهاتف هو أن يتواصل حسّيًّا مع أحدهم وأن يلمسه. لا يمكن التعبير عن التواصل الشخصي والمحبة والألفة المذكورين في الإعلان عبر اتصال هاتفي. كان ذلك حسنًا في عصر ما قبل السكايب، حين كانت الهواتف تؤمّن أقرب ما يمكن للتواصل الحي، لكنّ الرابط الشخصي كان قد فُقد.

تستمرّ هذه الخسارة وتتعزّز في عالم الفايسبوك. فعبر الهاتف، نستطيع على الأقلّ أن نسمع مختلف النبرات الصوتية، حتّى وإن لم نر لغة الجسد، لكنّنا نفقد ذلك عند استعمال الفايسبوك والتويتر والبريد الالكتروني والرسائل القصيرة. أحيانًا (في غياب الرموز التعبيرية – (Emoticons،  يكون من الصعب تحديد إذا ما كان الشخص ساخرًا أو جديًّا. يقول البعض إنّ لغة الجسد تشكّل جزءًا كبيرًا من التواصل الإنساني، لذلك فإنّ وجود الكلمات مكتوبة على شاشة يزيل معظم تواصلنا، وبالرغم من ذلك فإنّ طريقة التواصل هذه باتت تعتبر “طبيعيّة” بشكل متزايد.

بالإضافة إلى ذلك، هناك خسائر أخرى وتحديات في عالم الفايسبوك. بالتأكيد، لا يمكن أن أكون أوّل من لاحظ أنّ الناس يعبّرون بحريّة، عبر الفايسبوك أو البريد الالكتروني، عن أشياء ما كانوا يحلمون بقولها للآخر وجهًا لوجه. عادةً ما يشكّل حضور الآخرين عائقًا في حواراتنا الشخصية. لكن عندما لا يكون شخصٌ في حضرة آخر، إنّما يجلس بعيدًا براحة وسرية، ولا ينظر مباشرة في وجه الآخر بل في شاشة الكومبيوتر أو لوحة المفاتيح، يسمح أحيانًا لنفسه بالتكلّم بفظاظة مرعبة. وكأنّما لكلّ تقنية حديثة وجه مظلم عاجلاً ما نكتشفه – نخترع الطاقة الذريّة فنستخدمها في صنع القنابل، نجد وسائل لمشاركة الكلام عن بعد فنهين بعضنا البعض، مستعملين الأحرف الكبيرة (capitals) للصراخ. نتخلّى عن اللطف (أو “المحبة” كما وردت في الكتاب) وعن الضوابط عندما نكون على مسافة آمنة. أمّا عندما يكتب أحدهم كلماته بلطافة، فإنّه يبقي درجة معيّنة من الإغفال (anonymity). في الواقع، بعض الناس لا يستعملون صورتهم على الفايسبوك بل يستبدلونها بصورة أخرى. إنّنا لا نعكس ذاتنا الحقيقية عند استعمالنا لوسيلة اتصال بعيدة المدى كهذه، بل نُظهر شخصية افتراضية واضعين قناعًا. إنّ الأمان الذي نشعر به عند اختبائنا وراء القناع هو الذي يعطينا الشجاعة للتكلّم أحيانًا بوقاحة. (أحيانًا، كما تشهد الشرطة، يستعمل الناس الصفة المجهولة لأهداف أكثر شرًّا.) في الوقت الذي يزداد فيه اعتماد ثقافتنا على هذا النوع من التواصل، أعدنا تعريف “التواصل الطبيعي”. لقد اعتدنا الأقنعة التي نضعها عند استعمال لوحة المفاتيح، وضمُرَت مهارة كشف الذات بين الناس.

الحقيقة هي أنّ التواصل الحقيقي والتبادل الأصيل للأفكار مع الآخر دائمًا ما يشترط اللقاء وجهًا لوجه – ولهذا السبب نجد الناس يتعانقون في المطار بعد انفصالهم لمدّة من الوقت. ألم يبقَ هؤلاء الناس، المرحِّبون بعضهم ببعض في المطار، على اتصال عبر الفايسبوك خلال غيابهم؟ ألم يتهاتفوا؟ ألم يتبادلوا الرسائل الالكترونية؟ أنا متأكد من أنّهم فعلوا ذلك- لكنّ عناقاتهم الحارّة تُظهر أنّ تلك الوسائل لا تحلّ مكان الحضور الجسدي. نحن لا نحتاج فقط إلى قراءة كلمات الآخرين بل إلى أن نرى وجوههم وندعهم ينظرون في وجوهنا. في الواقع، كلمة “حضور” في اللغتين العبرية واليونانية هي ذاتها كلمة “وجه” (في العبريةpanim  وفي اليونانية prosopon). لذلك فكلّ الأسرار في الكنيسة تتطلّب حضورًا جسديًّا، ولا يستطيع الشخص أن يعتمد أو أن يشترك في المناولة المقدّسة أو أن يُمسح بالزيت على الانترنت. عبارة “cyber-sacrament” التي تعني السرّ عبر الانترنت تحمل تناقضًا في معناها. إنّ تلقّي ملء الحياة المعطاة في الأسرار المقدّسة يتطلّب حضورًا جسديًّا. لذلك، منذ أيام الرسل، تضمّن كلّ احتفال بسرّ الشكر تبادلاً لقبلة السلام: ليتورجيًّا، تدعونا الكنيسة في كلّ أسبوع إلى أن نتواصل مع الآخر. الاجتماع الليتورجي يعني حرفيًّا التقاء الجماعة في الجسد.

في الواقع، وضع الله في عمق قلب الانسان جوعًا للتواصل مع الآخر والالتقاء شخصيًّا به. نشتاق لرؤية الآخرين، لأن ننظر في عيونهم (التي غالبًا ما يدعونها “نافذة الروح”)، وأن ندعهم ينظرون في عيوننا. لقد صُمّمنا لنعمل على علاقات المحبة تمامًا كما صُمّمت السيارات لتعمل على البنزين، ونعاني إذا حُرمنا من التفاعلات الانسانية الحقيقية. وبالرغم من كل هذا، فإننا نعيش في عالم يخلو على نحو متزايد من هذه التفاعلات. نمضي وقتًا كبيرًا في عزلة عن الآخرين، وغالبًا ما لا نعرف أسماء جيراننا القاطنين بجانبنا في الشارع ذاته. نعمل في غرف صغيرة، نقود السيارة بمفردنا إلى العمل، ونمضي أوقات فراغنا في لعب ألعاب الفيديو أو الكتابة أمام شاشة الكومبيوتر. أصبح نادرًا الاجتماع حول عشاء عائلي، حتى أنّ البعض يرسلون رسائل قصيرة لأصدقائهم أثناء تناول الطعام. نتواصل إمّا عبر الهاتف أو الرسائل القصيرة أو البريد الالكتروني أو الفايسبوك. باتت اللقاءات الحقيقية والمحيية نادرة – بعض الشباب يختارون، كوسيلة مفضّلة للتواصل، أن يرسلوا الرسائل القصيرة بدلاً من اللقاء الشخصي. إنّنا بالكاد نتواصل مع الآخر في عالم الفايسبوك، لقد أصبح ذلك غير ضروري.

قد يسأل البعض: ما الخطأ في ذلك؟ ما الضرر إن فضّل الشباب الرسائل القصيرة على اللقاء؟ الضرر هو فقط التالي: هناك خطر في رفض العيش بالطريقة التي صُمّمنا بها. لقد صُمّمنا للنموّ عبر الاحتكاك الانساني الشخصي، وما يزال قلب الانسان وروحه يتوقان لذلك. إذا لم يُشبع هذا التوق من خلال اللقاءات البشرية الصحيحة، سيبحث عن إرضاء عبر وسائل أقلّ صحة، تمامًا كما في حالة الانسان الجائع بشدّة، الذي باستطاعته أكل أيّ شيء. إذًا إن لم يشبع قلب الانسان من اللقاءات الحقيقية، سيحاول الاغتذاء من شيء آخر وسيمسي سريع التأثر بالبروباغندا والأكاذيب والعبادات وأشياء أخرى مظلمة. إن رفضنا اللقاءات الأصيلة، سنجد أنفسنا أقلّ مقاومة للقاءات الزائفة. هذا لا يعني أنّه إذا أمضت فتاة مراهقة وقتها في إرسال الرسائل القصيرة، سوف تقع ضحية لعبادة ما خلال فترة ثلاثة أسابيع. لكن إذا استمرّت ثقافتنا باستبدال ما هو أصيل بما هو غير أصيل، سترفض مكوّنًا أساسيًّا في الصحة الروحية – وإن لم تستردّ هذا المكوّن، سيحدث الانهيار في الصحة الثقافية قريبًا. ليس لديّ أيّ شكّ في أنّه حين حصول هذا الانهيار، سينشئ أحدهم صفحة على الفايسبوك تتكلّم عن هذا الموضوع.

Leave a comment