هل يخبر أحد في القبر برحمتك

“هل يخبر أحد في القبر برحمتك” (مز87: 12)

الأرشمندريت كاسيانوس عيناتي

 

كثيرون ينذهلون من فكرة الصلاة من أجل الأموات ويتساءلون، ماذا تنفع الصلاة وماذا يُرتجى؟ إن صلّينا من أجلهم؟ هل يتخلى الله عن عدالته ويمنح هؤلاء ما لا يستحقونه؟

إذا كنا نؤمن أن الصلاة تساعد الأحياء فلماذا لا نصلّي من أجل الأموات؟ ألَمْ يَرِدْ في الإنجيل على لسان الرب نفسه: “إن الله ليس إله أموات وإنما هو إله أحياء”؟ (لوقا 20: 38) فالموت ليس نهاية المطاف إنما هو مرحلة مصيرية من مراحل الحياة، والحياة لا تتوقف وتتجمد بالموت.

الصلاة هي دفقٌ من الحب تُجاه من نصلي من أجله. وإذا كان دفق الحب هذا له تأثيره القويّ بالصلاة تُجاه الأحياء. فله تأثيره أيضاً في الموت، “لأنّ المحبة قوية كالموت” (نش8: 6). والمسيح نفسه حطّم قيود الموت بموته حبّاً بالإنسان.

من الضلال الإعتقاد بأن العلاقة منقطعة بين مَن غيّبه الموت تحت التراب ومَن لا يزال فوق الأرض. ففيما نحن نحيا نزرع بذوراً تنمو في نفوس الآخرين وتُثمر ثماراً طيّبة. وهذه الثمار هي لمن يحملها، وأيضاً لمن كان السبب في إثمارها. فالذي يزرع له حصّة من الثمار ولو لم يكن هو صاحب الأرض الجيدة.

هذه الثمار لها انعكاساتها على حياة الإنسان حتى المجيء الثاني. ومصير الإنسان في اليوم الأخير لا يتوقف فقط على المدّة القصيرة التي عاشها على الأرض، بل على ما تركه من أعمال صالحة أو سيئة. فالأحياء، الذين أُلقيت البذور في أرضهم الجيّدة فأثمرت، يستطيعون بالتوسّل الى الله أن يستعطفوه من أجل الزّارعين الذين رموا الحبوب في أرضهم وأعطوا معنى لحياتهم ووجودهم. هؤلاء عندما يتوجهون نحو الله بشكر وامتنان وحبّ من أجل المحسن إليهم، يدخلون في الملكوت الأزليّ الذي يسمو فوق حدود الزمان ويكون لهم تأثير في مصير وحالة الدفين. وهم، في توجّههم الى الله من أجل مَن أحبهم وأحسن إليهم، لا يطلبون إليه أن يسامحه على ما فعل من سيئات متخلياً عن عدالته، وإنما يطلبون أن يمنحه البركة على الصالحات التي عملها من أجلهم.

الصلاة من أجل الأموات تحمل محبة وعِرفاناً بالجميل على ما تركوه لنا من خيرات روحية وغيرها. نحن لا نطلب من الله أن يتخلّى عن عدله ولا نسابقه على رأفته ومحبته للبشر، ولكننا نطلب إليه أن يشمل هذا المائت الرّاحل بوافر بركاته على ما ترك في نفوسنا وحياتنا من عناصر جيّدة وآثار حميدة.

وليفهم كل مصلّ أنه بصلاته لا يُقنع الله أو يُرغمه على شيء تُجاه من يصلي من لأجله، وإنما صلاته هي شهادة حيّة على أن الرّاحل لم يعش حياته سُدىً بل كان محباً وجديراً بأن يُحَب.

فالصلاة إذاً هي عمل محبة وعِرفان بالجميل تُجاه مَن أحبنا، وتفعيل لما تركته محبته في نفوسنا من أثر جيّد. يقول القديس اسحق السرياني: “لا تقتضب صلاتك على كلمات فقط، بل إجعل من حياتك كلّها صلاة أمام الله”. فالصلاة إذاً من أجل الأموات ليست بكلمات وإنفعالات من وقت لآخر نتذكر فيه الأموات فنصرخ إلى الرب من أجلهم، بل ينبغي علينا أن نفعل كلّ برّ وحقّ وقداسة خلّفه المائت في نفوسنا، ونضاعف ثماره، وعندها نتقدّم من الرب قائلين: كل صلاح في نفوسنا وكل زرع جيّد يعود بالفضل فيه إلى الراحل المائت. هذا يدعونا إلى تمجيد الرب بفخر وإعتزاز أمام الموت بالرغم من ظلمه وغدره. وهذا يفسّر بما يَرِد في جناز الأموات في الكنيسة الأرثوذكسية، حين يتحلق المؤمنون حول المُسجّى في نعش وبأيديهم الشموع وأرجاء الكنيسة تصدح بالفرح المنضبط مبتدئة بترتيل التبريكات: “مباركٌ انت يا رب علمني حقوقك”. نعم، نبارك الله ولا نخشى الموت الذي يبقى عسير القبول. ولكن، على رجاء القيامة، حيث تزعزعت وتخلّعت أُسس الموت، يبقى الموت السبيل الوحيد لتحرير الأرض من الجحيم، والقضاء على الألم والخطيئة.

Leave a comment