الصّوم والصّلاة معبر الشّفاء

الصّوم والصّلاة معبر الشّفاء

الأرشمندريت توما بيطار

“ذهب يسوع إلى مكان قفر وكان يصلّي هناك”. نقطة الانطلاق هي، دائمًا، الصّلاة والصّوم. القفر هو الصّوم، هو النّسك. وبالصّوم والصّلاة، يبدأ كلّ عمل من أعمال الله.

بعد ذلك، “انطلق سمعان ومَن معه في [إثر يسوع]”. الكلّ يحتاج إلى يسوع. والكلّ يحتاج، في كنيسة المسيح، إلى إنسان الصّوم والصّلاة. هذا بإمكانه أن يكون إناء لله، ويحمل كلمته، وينقل مشيئته. لذلك، عالمنا، سواء أأدرك أم لم يدرك، يحتاج إلى مَن يصومون ويصلّون، يحتاج إلى كلمة الحياة، يحتاج إلى كلمة الله. “فلمّا وجدوه، قالوا له إنّ الجميع يطلبونك. فقال لهم لِنسِرْ إلى القرى القريبة، لأكرز هناك، أيضًا؛ لأنّي لهذا خرجت”: الكرازة بالكلمة. عالمنا يحتاج إلى الكلمة الحيّة، إلى الكلمة الإلهيّة الّتي تنضح حياة. لذلك، بعد الصّوم والصّلاة، يصير بإمكان الإنسان أن يتكلّم. يعطيه الرّبّ الإله كلمة من عنده. ومن دون صوم وصلاة، لا كلام عند الإنسان ليقوله. كلامه يكون لغوًا وثرثرة، لأنّه لا ينقل حياة الله، ولا ينقل سلام الله، ولا ينقل فرح الله. “فكان يكرز في مجامعهم في كلّ الجليل ويخرج الشـّياطين”. لقد كرز الرّبّ بالكلمة، وكرز بالعمل. الكلمة الإلهيّة لا تنفصل عن العمل الإلهيّ. لكن، لا بدّ من أن تأتي الكلمة، أوّلاً؛ ثمّ، بعد ذلك، يأتي العمل الإلهيّ. الرّبّ الإله أخرج الشـّياطين، ليعلّمنا أنّ الشـّياطين لا تخرج، إلاّ بالصّلاة والصّوم؛ ولأنّه كان يروم أن ينقّي شعبه من خطاياه. وراء كلّ خطيئة هناك شيطان. ولكي نتنقّى من الخطايا، يجب أن تُخرَج الشـّياطين. الشـّياطين تعمل من خارج الإنسان، كما تعمل، أيضًا، في داخله، من خلال الأهواء الّتي هي جذور الخطايا فيه. الأهواء هي عملاء الشـّياطين. والخطايا هي ثمرة عمل عملاء الشـّياطين فينا. كلّ واحد منّا يحتاج إلى تنقية. والتّنقية تكون بالكلمة والعمل: بكلمة الله وعمله. وهذان، الكلمة والعمل، لا يأتيان، كما قلنا، إلاّ بالصّلاة والصّوم. هذا ما يلخـّص عمل الرّبّ يسوع بمثابة أنموذج لعمل الكنيسة، ولعمل المؤمنين فيها. عمل الكنيسة هو تنقيةُ العالم من الشـّياطين، ومن الخطايا، وتحريرُ الإنسان من الأهواء البشريّة الشـّيطانيّة. وهذا هو عمل كلّ واحد منّا، أيضًا، في الكنيسة.

بعد هذا الكلام، يأتي كلام يرتبط بالكلام الأوّل: “فجاء [إلى يسوع] أبرص، وطلب إليه جاثيًا له، وقائلاً: إن شئتَ، فأنت قادر أن تطهّرني”. يسوع خرج ليطهّر العالم من الشـّياطين. والجليل، حيث كرز يسوع في المجامع، يمثّل الأمم، أي يمثّل العالم. لذلك، دُعي الجليل بجليل الأمم. إذًا، يسوع خرج، بالضّبط، إلى تلك القرى، خرج إلى العالم لينقّي العالم، ليطهّر العالم. وجاء هذا الأبرص، وطلب جاثيًا ليسوع، وقائلاً: “إن شئتَ، فأنت قادر أن تطهّرني”. هذا الأبرص هو هذه البشريّة المنبرصة، في داخلها، بعمل الشـّياطين؛ لذلك، هي تحتاج إلى تطهير. والقول “إن شئتَ، فأنت قادر أن تطهّرني” هو تعبير عن إيمان البشريّة، المفترَض أن يكون متوفّرًا، بالرّبّ يسوع. البشريّة تحتاج إلى أن تؤمن بأنّ عمل التّطهير، تطهير البشريّة من أمراضها الدّاخليّة، مرتبط بمشيئة الله، لأنّنا لا نستطيع شيئًا، على الإطلاق، تمامًا كهذا الأبرص. نحن منغلبون على أمرنا. “إن شئتَ”: علينا أن نؤمن، في قرارة نفوسنا، بأنّ كلّ عمل صالح، على الأرض، نابع من مشيئة الله، لا من عمل الإنسان. “إن شئتَ، فأنت قادر”: الله قادر. علينا أن نؤمن بأنّ الله قادر على كلّ شيء؛ وقادر، بصورة خاصّة، على أن يطهّرنا من كلّ علّة. ووراء كلّ علّة تأثير شيطانيّ، يعبث بنا من خلال أهوائنا. وحده الله قادر على إخراج الشـّياطين. وحده الله قادر على أن يطهّرنا. إذًا، ما قاله هذا الأبرص، ما تقوله البشريّة البرصاء، ما هو مطلوب من هذه البشريّة، هو أن تؤمن، فقط.

“فتحنّن عليه يسوع، ومدّ يده ولمسه، وقال له: قد شئتُ، فاطهر”. يسوع كيانُ حنان. هذا هو موقفه من البشريّة. وهذا الحنان يعبّر يسوع عنه بِمَدِّ يده، ولَمْسِ البشريّة البرصاء الخاطئة النّجسة. لا تقدر البشريّة على أن تسيء إلى يسوع. بل إنّ يسوع، بلمس البشريّة، بمدّ يده باتّجاهها، يتّخذها وينقّيها؛ لأنّه محبّة، لأنّه حنان: “قد شئتُ، فاطهر”. الله يشاء أن يَطهُرَ كلّ أبرص، أن تَطهُرَ كلّ نفس. هذا هو الخلاص! أو هذا هو وجه من وجوه الخلاص: أن نطهر! هو يشاء للجميع أن يخلصوا، يشاء للجميع أن يطهروا. وهو أتى، تحديدًا، من أجل ذلك؛ أتى، تحديدًا، من أجل ما لا يبحث عنه الإنسان. الإنسان يبحث عن الطّهارة الجسديّة؛ لأنّه، بعد السّقوط، صار نفسانيًّا جسدانيًّا، وصار لا يطلب ما هو أساسيّ، بالنّسبة إليه. صار يطلب ما هو عرضيّ، ما هو هامشيّ! الشـّجرة، حين تكون أوراقها “مضروبة” بالبرص، فليست المشكلة في أن نشفي الأوراق، بل في أن نشفي الجذور. أمّا الأوراق، فتُشفى كنتيجة لشفاء الجذور. والبشريّة، بعد أن سقطت، صارت لا تطلب أن تُشفى من الجذور. صارت تكتفي بالأحاسيس، وبالمظهر الشـّفائيّ. أمّا يسوع، فيطلب أن يُشفى الإنسان من الأعماق. إذًا، هو يغار علينا أكثر ممّا نغار نحن على أنفسنا. نحن، في الحقيقة، لا نطلب ما هو لخيرنا. لا نعرف كيف نطلب ما هو لخيرنا! نعرف ما يناسب أهواءنا، نعرف ما يوافق خطايانا، نعرف ما ينسجم مع أحاسيسنا! أمّا الرّبّ يسوع، فيلتمس ما هو لكيان الإنسان، ما هو من عمق الإنسان، من داخل الإنسان. لذلك، يلتمس الرّبّ الإله أن يشفي البشريّة من برصها الدّاخليّ، أن يُخرج الشـّياطين، أن يعرقل عمل الشـّياطين فيها. وكأنّه، إذ يفعل ذلك، يقدّم نفسه أنموذجًا لكيفيّة تحقيق ذلك. الله يريد أن يعمل، والله يتكلّم. الله يعطينا وصيّته، لكنّه لا يعطينا الكلمة، بمعناها العميق؛ ولا يعمل فينا، إلاّ إذا انخرطنا في صوم وصلاة، كما فعل هو. فقط، إذ ذاك، يصير بإمكاننا أن نتمثّل حنان يسوع، ويصير بإمكاننا أن نكون في متناول يسوع؛ فيمدّ يسوع يده ويلمسنا، وتكون النّتيجة أنّنا نطهر. إذًا، ليس السّؤال، بعدُ، ما إذا كان الرّبّ الإله يريد لنا أن نُشفى أم لا. هذا صار من باب التّحصيلِ الحاصل. السّؤال، بالأحرى، لا يوجّهه الإنسان إلى الله: “إذا أردتَ، فأنت قادر على أن تطهّرني”. السّؤال يوجّهه الرّبّ يسوع إلى الإنسان: “أأنتَ تريد أن تُشفى؟!”. إذا كنتَ تريد أن تُشفى، فعليك بالقفر، وعليك بالصّلاة! عليك بالصّوم والصّلاة! عليك بالنّسك! الصّوم والصّلاة يختصران كلّ الوصيّة، في الحقيقة. الصّوم والصّلاة هما الوصيّة، متمَثَّلَة في حياة الإنسان الّذي يؤمن بالرّبّ يسوع.

“وفيما هو يكلّمه، للوقت ذهب عنه البَرص”. الله قادر على كلّ شيء، وقدرته قد نقلها إلينا. بمجرّد أن نسمع كلمته، بمجرّد أن نتمثّل كلمته؛ تصير كلمته فينا شفاء، تصير كلمته فينا حياة جديدة، تصير كلمته فينا نقاوة. يصير بإمكاننا، إذ ذاك، أن نبصر، أن نعاين الله، أن نصير بيتًا لنور الله، بيتًا لله؛ فيقيم الله فينا. ولأنّه يقيم فينا، يكون الطّهر، الّذي يحقّقه الرّبّ يسوع، ثابتًا فينا. كلّ عمل الله، في حياتنا، ينبع من حنان يسوع. يسوع لا يطلب أن يظهر، ولا يطلب كرامة أو مجدًا من أحد: “انتهره، وصرفه سريعًا، وقال له: انظر، لا تقل لأحد شيئًا”. الرّبّ الإله خالٍ، تمامًا، من المجد الباطل. بينما الإنسان السّاقط، مهما فعل، يتحرّك بقوّة المجد الباطل. فقط، قال الرّبُّ للأبرص: “امضِ، فأرِ نفسك للكاهن، وقدّم عن تطهيرك ما أمر به موسى شهادة لهم”. بكلام آخر، [داوم على طاعة النّواميس، والشـّرائع، والوصايا]. كلّ ما تطلبه الكنيسة الرّسميّة، المتمثّلة بالكاهن، علينا أن نطيعه، علينا أن نتمّمه. الكهنة قيّمون عليه. ونحن لسنا، أبدًا، في معرض الثّورة على الكهنة، أو التّخلّي عن الكهنة، أو التّخلّي عن الكنيسة الرّسميّة. على العكس، نحن نخضع لها. لكن، بخضوعنا لها، نلتمس ما الـْتَمَسَنا يسوع من أجله، أي ما صار ابن الإنسان إنسانًا من أجله، أي أن نتنقّى لكي تخرج الشـّياطين منّا، ولكي لا تبقى للشـّياطين ثمار فينا، ولكي نتحرّر من أهوائنا.

هذا، في نهاية المطاف، ما نتوخـّاه. نحن نخضع للسّلطات الكنسيّة، لأنّ هذا مفيد لنا، هذا يقيمنا في الاتّضاع، هذا يجعلنا أبناء للكنيسة. لأنّنا نخضع لله، نخضع للسّلطات الكنسيّة. لكن، نحن لا نقف عند هذا الحدّ. نحن نسعى، من خلال علاقتنا بالكنيسة الرّسميّة، لأن نكون في وِصال دائم مع الله، لكي نتمثّل وصيّته، لكي نحيا فيها، لكي تكون لنا هذه الوصيّة زادًا لحياة أبديّة.

آمين.

عظة حول مر1: 35- 44 في السّبت 14 آذار 2009

 

Leave a comment